جودة بين التمرد والأدب

جودة بين التمرد والأدب بقلم: سيف الدين حسن بابكر سنين طوال مضت على أحداث عنبر جودة المشئوم بمدينة كوستي في الحادي والعشرين من فبراير عام 1956م للميلاد. والتي راح ضحيتها 194 شخصاً كانوا في الحراسة في ليلة واحدة داخل عنابر الحربية بكوستي.

جودة بين التمرد والأدب

جودة بين التمرد والأدب

بقلم: سيف الدين حسن بابكر

 

 


سنين طوال مضت على أحداث عنبر جودة المشئوم بمدينة كوستي في الحادي والعشرين من فبراير عام 1956م للميلاد. والتي راح ضحيتها 194 شخصاً كانوا في الحراسة في ليلة واحدة داخل عنابر الحربية بكوستي.
الضحايا كانوا من مزارعي القطن بالمشاريع التي يمتلكها مجموعة من الرأسماليين في ذلك الزمان كالسيد عبد الرحمن المهدي وأبو العلاء وآخرين..! تمرد هؤلاء المزارعين على سادتهم ورفضوا تسليم محصول القطن إلى أن يستجيب المُلاَّك لمطالبهم العادلة المتمثلة في المشاركة في وزن وتصفية حسابات محصول القطن..
إن أي تمرد بسيط كان أو كبير هو نزوع إلى الكينونة. إن العصيان البشري الذي قاده أولئك المزارعون كان بمثابة احتجاج طويل ضد القهر والظلم والعوذ والجهل والمرض المفضي للموت.
لقد دفع أولئك المزارعون ثمن تمردهم موتاً وهو ما كانوا يناضلون ضده! لقد كانوا يطلبون أسباب الحياة لهم كبشر وليس الموت.
لقد دافعت السلطة في ذلك الزمان عن الشر والقتل وأحرقت مبادئ العدالة وانحازت بشكل سافر لأصحاب المال والسلطان على حساب إنسان السودان الأغبش البائس التعيس. لقد كان موقفاً صريحاً ضد العدالة وضد الحقيقة وضد الإنسانية والإنسان.
إن حالة الرفض التي قادها مزارعو جودة في ذلك الزمان هي رفض لضرب من ضروب العبودية والإستعباد، ومطالبين بذات الوقت بمشاركة واقعية مع سادتهم مُلاَّك الأرض.
إن حركة التمرد الموءودة تلك كانت تستند إلى رفض قاطع لتعد جائر وإلى قناعة ويقين بحق مسلوب وتسوية مجحفة جائرة. فتسوخوا في الأرض مطالبين بوضع جديد يمكن لجمه في كلمات بسيطة: كل شيء أو لا شيء. وما دروا بأن قانون القوة أو قانون العبد والسيد هو مايسود، فجاء رفضهم له قاطعاً، وتعلموا أن كل عبد ليس عبداً إلا بالقبول والخنوع. لقد ارتضوا التحدي برفض يفضي للموت فكان لهم ما أرادوا.!
لقد عاشوا في زمن نُزعت فيه القدسية. فأين الجرم إن تمرد الإنسان على أغلال من الإستعباد ظل يرسف فيها منذ زمانٍ وزمان؟
إن قوة الرفض القوية هذه تلتقي في حدها الأقصى بين العامل والسيد وتساوي بينهما ويعود العامل أو الزارع في خاتمة المطاف نداً على سدة الأرض سيداً ومالكاً والتي كان فيها مجرد فأس "يشدخ قلب الأرض"!!
أحداث "جودة" هزّت ضمير العالم قاطبة عدا ضمير من كانوا في سدة الحكم في ذلك الزمان، وجاء دور الأدب في تلك التراجيديا فسكب فيها صلاح أحمد إبراهيم الشيء الكثير في قصيدته العصماء : (عشرون دستة من البشر):
لو أنهم
حزمة جرجيرٍ يُعّدُّ كي يُباعْ
لخدم الأفرنج في المدينة الكبيرة
ما سلخت بشرتهم أشعة الظهيرة
وبان فيها الإصفرار والذبول
بل وُضعوا بحذرٍ في الظل في حصيرة
وبللت شفاههم رشاشةٌ صغيرة
وقبّلت خدودهم رطوبة الأنداءْ
والبهجة النضيرة
لو أنهم فراخْ
تُصنع من أوراكها الحساءْ
لنزلاء "الفندق الكبيرْ"
لوضعوا في قفصٍ لا يمنع الهواءْ
وقُدِّم الحَبُّ لهم والماءْ
لو أنهم ..
ما تركوا ظماء
ما تركوا يصادمون بعضهم لنفس الهواء
وهم يجرجرون فوق جثث الصحاب الخطوة العشواءْ
والعرق المنتن والصراخ والإعياء
ما تركوا جياعْ
ثلاثةً تِبَاعْ
في كتمة الأنفاس في مرارة الأوجاعْ
لو أنهم ...
لكنَّهم رعاعْ
من "الرزيقات"
من "الحسينات"
من "المساليت"
نعم ... رعاع
من الحثالات التي في القاعْ
من الذين انغرست في قلبهم براثن الإقطاعْ
وسمّلت عيونهم مراود الخداعْ
حتى إذا ناداهم حقّهمُ المضاع
عند الذين حولوا لهاثهم ضياع
وبادلوا آمالهم عداء
وسددوا ديونهم شقاء
واستلموا مجهودهم قطناً وسلّموه داء
حتى إذا ناداهُم حقهمُ المُضاع
النار .. والرشوة.. والدخان
والكاتب المأجور .. والوزير
جميعهم وصاحب المشروع
بحلفهم يحارب الزُرّاع
يحارب الأطفال والنساء
وينشر الموت على الأرجاء
ويفتح الرصاص في الصدور
ويخنق الهتاف في الأعماق
ويفتح السجون حيث يحشد الإنسان كالقطيع
ويحكم العساكر الوحوش
فيحرمون الآدمي لقمةً في الجوع
ويحرمون الآدمي جرعةً من ماء
ويغلقون كلّ كوةٍ تمرر الهواء
وفي المساء،
بينما كان الحكام في القصف وفي السُكْر
وفي برودٍ بين غانيات البيض ينعمون بالسّمَرْ
كانت هناك
عشرون دستةً من البشرْ
تموت بالإرهاق
تموت باختناق.

* جاء في أقوال أحد الشهود والتي أوردتها صحيفة الرأي العام بتاريخ 23/6/1956 الآتي:
"بعدين عبد الرحيم وقف جنب خشم الباب ونادى (يا بوليس).
الحرس الخارجي قال ليه : (نعم)
عبد الرحيم قال ليه: (نحن زنق علينا السخانة افتحوا لينا شباك وأدونا صفيحة موية..).
بعدين البوليس رد عليه قال: (بعد ده مافي مسجون يفتحوا ليه الباب ويدوه مويا البيموت يموت والبيحيا يحيا والبيحاول يكسر الشباك بنضربه رصاص أو نطعنه بالسونكي).
    بعد رُبع ساعة من الكلام ده ود عمي داخ وقع. أنا قلت ليه يا يعقوب تعبت قال لي نعم أديته الشهادة تلات مرات مسكها، بعدين كوركت:
(يا بوليس أخويا مات). قام البوليس رده عليّ:
(مافي طريقة والداير يموت يموت). رجعت وقلت للجماعة: (شيلوا لينا يعقوب ده على خشم الباب يمكن روحه ترجع).!!
ومات يعقوب وتبعه في الممات "عشرون دستة من البشر" فلا حول ولا قوة إلا بالله