طارق الطيب  يكتبه  الحسن محمد سعيد 

طارق الطيب  يكتبه  الحسن محمد سعيد  من ميزة ( المهرجانات الادبية ، والجوائز العالمية ) أن تتعرف إلى الآخرين،ويعرفك الآخرون.. فمن نعم الله علي،خلال مهرجان جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي ،في دورته العاشرة ،والتي نظمتها شركة زين ،أن جمعني هذا المهرجان الإبداعي مع الاقتصادي والأديب الكبير ( طارق الطيب ) .. في واحدة من جلسات هذه الفعالية في قاعة الصداقة بالخرطوم ،جلست بالقرب من شابة حلوة التقاطيع ،وقد ظلت طوال فترة ليست بالقصيرة ،تنادي في إلحاح لرئيس الجلسة ان يمنح الفرصة ل ( طارق الطيب ) .. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يطرق فيها سمعي هذا الاسم ..

طارق الطيب  يكتبه  الحسن محمد سعيد 

طارق الطيب 
يكتبه 
الحسن محمد سعيد 

من ميزة ( المهرجانات الادبية ، والجوائز العالمية ) أن تتعرف إلى الآخرين،ويعرفك الآخرون.. فمن نعم الله علي،خلال مهرجان جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي ،في دورته العاشرة ،والتي نظمتها شركة زين ،أن جمعني هذا المهرجان الإبداعي مع الاقتصادي والأديب الكبير ( طارق الطيب ) ..
في واحدة من جلسات هذه الفعالية في قاعة الصداقة بالخرطوم ،جلست بالقرب من شابة حلوة التقاطيع ،وقد ظلت طوال فترة ليست بالقصيرة ،تنادي في إلحاح لرئيس الجلسة ان يمنح الفرصة ل ( طارق الطيب ) .. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يطرق فيها سمعي هذا الاسم ..
ظللت مشدودا" لنداء تلك الفتاة المثابر في إصرار وصبر !! ..فسألتها صادقا" : من هو ( طارق الطيب ) ?!.. نظرت إلي بابتسامة زادت من حلاوة تقاطيع وجهها مع مسحة بعيدة غائرة في الاستهجان والاستنكار !! .فردت على سؤالي بسؤال آخر: ألا تعرف ( طارق الطيب ) ?!. أجبت منكمشا" : لا !! .
زاد وهج سمتها ببسمتها الرويانة استنكارا" مؤدبا" وصمتت ،فتضاءل موقفي ،وتجسد جهلي ،فملت إلى الوراء ساكتا" !! ..
عندما تحدث ( طارق الطيب ) ،كان بسيطا" متواضعا" ،يتخللك بلا استئذان ،فذكرني ب( الطيب صالح ) !!. 
لهجته المصرية الحلوة ،كانت لافتة تعلن عن نفسها !! .
كانت الفتاة البهية اول مدخلي اليه ..
وانتظرت في حالة ترقب ،إلى ان سنحت الفرصة فذهبت اليه ،أعرفه بنفسي ،فكان كربما" معي ،أن أهداني بعض أعماله،واهديته بدوري بعض أعمالي.. 
أهداني روايته ( أطوف عاريا" ) ومجموعته القصصية ( الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء ) ..
تزايد احترامي لتلك ( الفتاة النابهة ) ،عندما قرأت سيرته الذاتية في آخر رواية ( أطوف عاريا") ،فقد أنهى في مدينة ( فيينا ) دراسته في ( فلسفة الاقتصاد ) ..وهو يعيش فيها الآن( ويعمل إلى جانب الكتابة الأدبية ،بالتدريس في ثلاث جامعات : جامعة فيينا ،جامعة جراتس ،جامعة كريمس ) .. ونشرت له كتب مترجمة إلى اللغات : الألمانية،الفرنسية ،المقدونية ، الصربية ،الإنجليزية، الإسبانية، الرومانبة ،والايطالية .. كما له ترجمات في لغات أخرى لنصوص أدبية في العديد من الانطولوجيات والمجلات والورديات العالمية،كالاوكرانبة ،والكرواتية  والبوسنية ، والروسية ،والبرتغالية ،والمالطية ،والصينية وغيرها ) ..
يقول عنه ( الطيب صالح ) : 
( هو سوداني من ابوين سودانيين ،ولكنه ولد في القاهرة ونشأ ودرس فيها،فهو سوداني النسب ،ومصري النشأة ..وهو بطبيعة الحال ،عاشق للأدب،ولكنه ليس اديبا" متفرغا" ،بل هو رجل إقتصاد) ..
اغترب في ( النمسا ) وعاش في عاصمتها ( فيينا ) .. وهذا في نظر ( الطيب صالح) ،يمنحه ميزة اكبر من المغترب في ( لندن ) أو( باريس) ،لأن العالم العربي عرف كتابا" تأثروا بالثقافة الفرنسية ،والثقافة الانجلو سكسونية ،ولكنه- اي الأدب العربي - لم يعرف إلا نادرا" كتابا" تأثروا بالثقافة الألمانية ،وهي ثقافة لا تقل تقل ثراء" وأهمية عن الثقافات الأخرى.. 
هذا الوضع مكن ( طارق الطيب ) من قراءة الأعمال الفلسفية والأدبية في أصولها الألمانية..
النسخة التي أهداني إياها الأستاذ( طارق الطيب ) من روايته ( أطوف عاريا" ) هي الطبعة الثانية للرواية ،طبعتها ( دار العين للنشر ) القاهرة ..

 


عنوان الرواية لا يخلو من غرابة ،ولا يفتقر إلى تشويق وإثارة!! ..
يظل الفضول يلازم القارئ من وهلته !! ..وأعتقد أن هذه الرواية ،لا تشبه المألوف من السرد الروائي ، المتشرب بالواقعية التقليدية والمألوفة ،والبعيدة كل البعد عن ( الواقعية السحرية) التي نبتت في امربكا اللاتينية ..
اعتقد انها خليط مدروس بعناية وقصد من السيرة الذاتية ،والسرد الروائي ،والبحث،السياحة ، وإعمال التثقيف في الفكر والمكان والزمان والإنسان..فقد عقد المقارنات بطريق غير مباشر بين العالم المتقدم والآخر المتخلف،وذلك باختيار عاصمتين هما ( القاهرة وفيينا ) ..
يأتي الكاتب بسلسلة من الأحداث العامة والغامضة ،ثم يأخذ في تفكيك الحدث لاحقا" ،وبشيئ من الروية ،مع الربط المحكم لخيوط السرد ..ونخلص في النهاية من ذلك الكم الهائل من الأشخاص،إلى ثلاثة نماذج من الأبطال تنتهي بهم الرواية هم : مينا وشهدة ونادين ..
لولا لغة الكاتب الرفيعة ،وعذوبة العبارة التي تلخص المشهد بعبارة متقنة وسليمة ،لأصاب القارئ الملل ..فالكاتب كان جاذبا" بلغة مدهشة ووفيرة المفردات والدلالات .فهذه المكنة أبعدت القارئ عن السأم ،وذلك - في ظني - لغرابة الرواية ( على الأقل من حيث طريقة المعالجة وزارية التناول ) ..
واضح ان بطل الرواية ( مينا ) من مصر أصلا قبل هجرته لاوروبا  والنمسا تحديدا" .. 
واعتقد أن اختيار الكاتب للاسم ( مينا ), فيه دلالة كبيرة ..ف( مينا ) أحد ملوك مصر العظام ،بل هو موحد جزئي مصر القبلي والبحري ..أضف إلى ذلك اختيار اسم ( رمسيس ) لشقيقه الذي اختفى في نعوش البحر المتوسط ،وهو يرنو للهجرة في ضفته الأخرى،الفردوس الذي يستحق المغامرة حتى الموت !!. 
و( رمسيس ) هو احد ملوك مصر العظام وفرعونها الأشهر!! .
فالبطل ( مينا ) فنان تشكيلي ،لكنه فشل في إقناع اساتذته بفنه ومهاراته ،فاجبرته ظروف الهجرة الصعبة مضطرا" ليعمل ( كموديل ) يقف عاريا " أمام الرسامين من دارسي هذا الفن رجالا ونساء في ( فيينا ) ..
عريه اكسبه جرأة ولامبلاة ،ونسي اخلاق اصله وارثه المحافظ الذي يجعل العيب قريبا" من اي سلوك غادرته الألفة.. كما اكسبه ( عريه ) مهنة معتبرة في ذلك العالم العجيب ،الذي تختلف تماما عن تلك الدنيا التي أتى منها ! ..وهذا فارق ثقافي وأخلاقي بين عالمين ..فان كان ( العري ) هو العار العظيم عند اهله واصله ،فانه أصبح في واقع هجرته موقفا" حضاريا" يدر عليه مالا وفيرا" يجعله قادرا على العطاء عند حاجة اهله !!.  
لعل الكاتب في روايته قصد تبيان فوارق الاخلاق والثقافة  بين اصله وحاضره الجديد..فتجربة ختان ( شهدة ) هي قمة الوحشية والتخلف ..وقد صورها الكاتب بشكل عميق الدلالة في نظرة المجتمع الشرقي للمراة ..وحشية تجعل الفتاة تشعر معها ان هذا الجزء الحميم من اعضائها تسكنه اللعنة والكراهية ،ومن ثم يجب ان يشوه وتقتل الشهوة فيه  ويشوه جماله الرباني الذي ابدعه احسن الخالقين !!.. كانت اللحظة دموية ،بالغة القسوة والبشاعة ل( شهدة )  ،وكأني بالكاتب يريد أن يعري المجتمعات التي أتى منها  .. وهنا يتجسد التقابل الشاسع بين الثقافات ..
توضح الرواية زواج  بطل الرواية ( مينا ) بحبيبته ( شهدة ) بعقد زواج عرفي ،ليحمي نفسه وعشيقته من التجريم القانوني ،في مجتمعه الأصل، الذي يتناقض جوهريا" مع دنياوات هجرته في ( فيينا ) ،التي تجعل للارادة البشرية والحرية الشخصية والسلوك الفردي ،كل ذلك هو الأساس الذي يقوم على حرية الاختيار ،وتقديس إرادة الطرفين،الامر الذي جعل ( نادين ) تقف مشدوهة ،بغياب الصدق في المجتمع ،واللجوء للحيلة التي تلوث الحرية الشخصية !! ..
الرواية كانت واضحة في إدانة العنصرية،وصلف الغرب وقسوته ،في محاربة الهجرة إليه من العالم الثالث العربي والافريقي ،بحثا" عن عن مجتمع امن ،بلا حروب ،وبلا نزاعات مسلحة ،وقتل مجاني بلا رحمة ..الغرب لعب دورا" مشهودا" في تخلف تلك الشعوب ،ومن ثم فإن الواجب الاخلاقي يحتم عليه تحمل الجزء الأكبر من تلك المعاناة !! ولعل بحث البطل ( مينا ) عن شقيقه ( رمسيس ) في جزيرة ( لامييدوزا ) الإيطالية ،تقف شاهدا" واقعيا" على( قوارب الموت ) او ( مقبرة القوارب ) كما جاء على لسان الترجمان التونسي ( بن شاذلي ) ،وهي المآسي التي فاجأت العالم غداة ( الربيع العربي ) ..
الرواية جاءت على ضمير المتكلم ،وهو بطل الرواية ( مينا ) من مصر ،العالم المقابل للثقافة والقيم الأوروبية.. واتحذت المقارنات شكلا" ممنهجا" ،لتبيان الفوارق الصخمة دنياوات البشر والعالمين !! ..وربما تعرية تلك الفوارق قصد منها الكاتب ،رسالته الإنسانية التي تجعل للإنسان قيمة في أي مكان ..
واتخذ الكاتب في تناوله ومعالجاته فكرة ( الراوي العليم ) ايضا" حيث يأتي الحكي ( بضمير الغائب ) ،وبطريقة مختلفة في طباعة الرواية ،اذ نجد سرد ( الراوي العليم ) بخط طباعة يختلف عن خط طباعة الرواية وهي ب( ضمير المتكلم ) في الأصل،وهو امر قليل الممارسة - حسب علمي المتواضع - وقد نجد له شبيها إلى حد ما لدى الكاتب الكبير ( علاء الأسواني ) في روايته ( شيكاغو ) بمعني الإختلاف في مجرى السرد.. ..
الرواية رواية ثقافية في المقام الأول،اذ نجد فيها كما" هائلا" للتعريف بالأمكنة والأعلام الفكرية الأدبية والفنية والفلسفية..كما يحرص الكاتب على الشرح في الهوامش  كأننا حيال بحث علمي اكاديمي ..وبذلك جعل الكاتب من روايته وجبة ثقافية دسمة ،تجللها لغة عربية ،لها حلاوة وطلاوة وسحر جاذب ،لا يتركك تفارق الكتاب ..
( أطوف عاريا") كأنما اراد الكاتب بهذا العنوان اللافت لروايته ،أن يرمز لتخلف مجتمعاتنا التي تسير عارية من مقيم الحرية والصدق والأمانة في القول والفعل وثقافة المسؤولية في تأدية الواجبات،والبعد عن دوافع العلم والتعلم ،بل عارية عن المفاهيم الدينية الأصيلة التي تقدس الروح وتحرم قتل الإنسان الا بالحق !! ..