عثمان سلك.. الثائر العرفاني

عثمان سلك.. الثائر العرفاني .................. الحسين مجلي. ما بين الأشواق نحو تحرير الذات والخروج الي عوالم عرفانية مليئة بالله ، كان لعثمان سلك او الدرويش او المجذوب كما تمثل في شخصية عثمان سلك

عثمان سلك.. الثائر العرفاني

عثمان سلك.. الثائر العرفاني
..................
الحسين مجلي.  

 

 

 

ما بين الأشواق نحو تحرير الذات والخروج الي عوالم عرفانية مليئة بالله ، كان لعثمان سلك او الدرويش او المجذوب  كما تمثل في شخصية عثمان سلك ، أن يواجه مابين عرفانية التصوف ومضايقة السلفين وحتي عدم فهم المتصوفة المرتزقين من السلطان لمشروع سلك العرفاني  ، هذا الأمر الذي لوحظ في مفردات قصائده الشعرية التي يسبكها بالعامية السودانية المليئة بالمعاني ويطلق سهامها مصوبها نحو شكل التصوف االسلطاني المفارق للاصل ، وعدم لجوءه إلى التطرق أو الشللية أو التصنيف المسبق لاي طريق ، ما جعل من عثمان سلك ثائر في الوسط الصوفي ( لبستو لي الجوخ واكلتوا لي المردوخ ) وهنا تكون القصيدة وطريقة اللإلقاء في حد ذاتها حالة تسدعي روح  المستمعين اليها لمراجعة موقفهم الصوفي ، مايجعل من المنتوج  العرفاني لسك لا يخضع لمعايير أو شروط معرفية لصوفية اليوم ، وانما يعود للوراء الي ثورة زهد المتصوفة الاولين في بداية ظهورهم ليكون حلاج وتبريز التغيير والساعي لاعادة المسار الي اصله وفق اسس ينشرها بقوة شخصيته ومقدرته علي المواجهة وفق أسس سليمة تتماشي مع من يعرفون اصل التصوف ولا يضعونها في قالب  الأهواء الذاتية والشخصانية.
هذا الأشكال ظل قائمًا ليس لدى عثمان سلك و إنما عاما لدى الأجيال الكثيرة من المتصوفة الباحثين في العوالم العرفانية و في التجربة الصوفية  الحقيقة من منظور انها منهج حياة اصله الحب في الله وفق اسس لا تخالف الحقيقة الشرعية لاصل الدين  وواقع التصوف الذي تشرب به اهل السودان  ، ما أدى إلى نتائج مختلفة  خلال تجربة (عثمان سلك) في بعض اواسط  المتصوفة  وترتب عنه في مرات عديدة أن تشكل مشهد مغاير ادي الي ابتعاد  البعض عن (التكايا )وتجمعات المتصوفة جعلهم يبحثون عن الله بشكل يقودنا الي التفكير والبحث عن حقيقة التصوف الثقافية والفكرية وايجاد شكل معرفي لأصل التصوف الحق .لقطع الطريق علي المستفيدين من شكله الآني . وهذا النهج الذي سار فيه عثمان سلك علي الرغم من قسوته الا انه وضع  تاسيس لمدرسة  عرفانية اساسها الدين والمعرفة والحق . في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى تجربة عثمان سلك  الذي اعاد شكل جديد او استنبض الماضي بقالب اليوم وخاطب بلغة التصوف اهل التصوف ، ففرض على نفسه عزلته ، وسط أفراد معينين رافضا الاندماج في المحيط الثقافي والأدبي للمتصوفة الحالين الا انه في نفس الوقت اختلط معهم ليوصل لهم مفاهيم اساسية في حالة الواقع الصوفي ، واظهار  العلل  التي يعاني منها المتصوفة ، وآثر أن يتخذ معارف من أجيال قديمة واجيال أصغر منه أو أناس خارج هذا المحيط الذي يضج بالخصومات والصراعات.
ثمة من يلحظ أن( عثمان سلك) عاني من هذا الشيء، ربما كان ذلك واحدا من أسباب نهجه في السياحة وعدم الالتزام لمشيخته التي اخذ منها طريق التصوف ، وذلك بعدم الالتزام بملازمة شيخه وانتهاج السياحة والزيارات للتجمعات الصوفية ، ساعده في ذلك  كثير من  العوامل اولها صدقه في النهج ومعرفته العرفانية في التصوف اضف الي ذلك  حالة الرفض لبعض السلوك الصوفي دون الرغبة في إثبات الذات. يظهر ذلك في حالة الانجذاب الالهي التي كانت تعتريه وتجعله ينجذب الي ملكوت السلف الاول من المتصوفة والدراويش الاوائل المرتبطين باروحهم  بالله بشكل جمالي يعزز التلاقي الانساني  ،

 

 

 


هناك مسألة أخرى يجب التذكير بها وهي قضية الدرويش أو المجذوب او  الشيخ  الشامل التي كان ثمة من ينظر إليها  بشيء من الريبة ، في ظل الحديث عن الكرامات،  والموهبة   وإرث الوصايا، وقد انفلت عثمان سلك من كل ذلك، باعتبار انه كان متعدد المشارب، وكان يبحث عن المعنى لذاته من خلال هذه المشارب  في المعاني، فجرب السياحة  والأداء الصوتي للقصائد  بصوت حر غير مقيد بمنهج الطرب  الا انه يطرب سامعيه لما يقدمه من معاني عرفانية عالية في الذوق والاداء المخلص، ماجعلته صاحب فنون عرفانية،  متداخلة لو رجعنا إلى البنية الأساسية لها  ولمفهومها وارجعناها لوجدناها من اصل التصوف الحق نجدها متعمقة  ، بيد أن العقل "الصوفي" في بنية الثقافة السودانية ، كان يريد له أن يكون أحاديًا في التجربة ومتقوقع في عوالم الكرامات علي نهج طبقات ود ضيف الله  ، بحيث لا يسعى إلى التجريب أو إعادة اكتشاف مشارب التصوف المتعددة والتداخل بينها، برغم أن التصوف قائم في الاصل علي  تجارب إنسانية عديدة ، كما في تجربة الحلاج والسهر وردي وابن عربي   التي جمعت بين العلوم والبحث عن الحقائق العرفانية . وهذه في نهاية التصوف تظهر  حرية المريد وافراغ قلبه الا من الله في كونه يعمل على التقريب بين أمزجته المختلفة داخل مزاج واحد يتعلق باللحظة الالهية  التي يعيشها ويكون مخلصًا لها قبل أي املاءات مسبقة على الفعل أو النص أو المنتج العرفاني .
إذاً  يعبر واقع عثمان سلك او الفترة التي عاشها والتي كانت تضج بالحمى السياسية والردة إلى الأصولية المتأسلمة المتطرفة   ونزعات للعنف . كما أن الفضاء الصوفي،  هو الآخر لم يكن بمعزل عن ذلك الشيء، حيث سعت مؤسسات الدولة إلى توليد بنية جديدة للواقع الصوفي  تقوم على تغيير التصوف أو ما يعرف إسلاموية المفاهيم ، ولأجل ذلك تم تأسيس مجموعة مؤسسات " الذكر الذاكرين " علي سبيل المثال لا الحصر،  و استنساخ شكل جديد من شيوخ استمالتهم لتجعلهم عون لها  ، تم وسمها بالصوفية ، كهيئة  تأصيل المعرفة وغيرهما، وسط توقف المد الصوفي،   وبقاء مجموعات تتبع للسلطان ، وأيضا انقطاع الحرية في اعطاء اهل المعرفة حظهم في بث العلوم عبر وسائل الاعلام ماجعل المجتمع ينظر في الصورة النمطية للمتصوفة التي تبثها لهم الدولة عبر قناة الكوثر   ، وظهور المراكز الثقافية الشعية والسلفية لتدمير النسيج الوجداني للمتصوفة ، كانت ثمة عزلة حقيقة فرضت على المتصوفة  ، يزيد من شرها الصراع،  داخل المؤسسات الصوفية  نفسها، التي قد لا ترتقي لهذا المفهوم العرفاني . مع هجرة مئات الباحثين عن المعرفة و الجادين خارج الاطر الصوفية  بحثًا عن ملاذات،  واشواق صوفية  جديدة في ظل الضغوط السياسية والمعرفية ، ما جعل جملة هذه العوامل تتضافر لتدفع أي مشروع صوفي  حر وغير مقيد بنهج الدولة  يبحث عن تأكيد لمشروعه أن يفكر في "التحرر الذاتي" عبر الهجرة والاغتراب المكاني. او السياحة الروحية ، خارج اطر الدولة لايجاد شكل روحي يوصله الي العرفانية المنشودة ، اضف الي ذلك حالة التقصير وعدم المبالاة  من المتصوفة انفسهم بعدم السعي للمحافظة علي ارث التصوف بالبحث وتطوير الادوات التي تساعد في ترقي المجتمع وترفع من همته ليكون شريكاً في مواجهة،  كل التحديات  .الشئ الذي اظهر داخل بنى الوعي الصوفي  السوداني ، ثمة رغبة دائمة نحو تأكيد المؤكد وعدم الاعتراف السريع بالتجارب الجديدة ، ماضيق من عدم ايجاد مناخات جديدة للبحث  في الفكر الحر، ومناهج للبحث لاظهار اصل التصوف او التوثيق لعوالم المتصوفة من دراويش ومجاذيب،  وطرقهم المعرفية في الجودية، والاكرام،  واغاثة الملهوف  ، هذا بعيدا عن فعل السياسة ، أي في البدء على مستوى الوسط الصوفي  نفسه، الذي بات يعمل على نمذجة الأنماط المغايرة لاصل الفكرة ، حتى وصل الأمر إلى صنع قوالب تكاد تكون متكررة لشكل مخالف لمنهج التصوف.. ما يعني إغلاق العقل باتجاه التفكير والإبداع الصوفي ، بعتباره منهج حياة يمكن ان ينعكس علي المجتمع بروح مليئة بالاحسان، والحب،  وعدم إقصاء الاخر  ، وهذا يقود في نهاية الأمر الي بناء  شخصيات حرة المزاج ولها من الموهبة،  والسعي نحو الإضافة المرتبطة بروح الله .
هذا الإرث قد لا يكون سودانيًا خالصا، ولكنه من صميم الوعي بالتصوف العرفاني التي تعتقد بفكرة المقدس،  والنموذج وترى الجرأة على التقليد بمثابة خروج عن الألفة،  والنظام، فهي ثقافة القالب والتأطير، وهذا سائد إلى اليوم لم يتم التحرر منه، ولا يمكن أن يحدث إلا في إطار مناخ صوفي  حقيقي لا يأتي بمعزل عن مجمل البنى العرفانية، والاجتماعية وتطوير أدوات النقد عامة، لكن ذلك يتم ببطء في غياب مؤسسات راعية لهذا الفعل يكون طابعها الاستقلالية، وبناء الروح للوصول الي مجتمع عرفاني .
في مجمل هذا المناخ والأبعاد الثقافية، والأرضية السياسية والمعرفية المنقوصة، لم يكن لنموذج عثمان سلك  إلا أن يعمل على المقاومة الصامتة التي تقود في النهاية إلى الكفران بهذه الصور والمشاهد الملوثة ، حيث يكون سعيه مرتبط بالله وغير مقيد بالشخوص لايجاد البديل أو الجديد من خلال تجريب آخر داخل  المفاهيم الصوفية ، ومساحات العرفان  ، وهذا ما فعله عثمان سلك ، إلى تكون تجربة فريدة تحتاج من المهتمين بالتصوف الحق البحث الهميم، في اغوارها،  لايجاد نموذج معاصر يواجه زيف التجارب السالبة في المجتمع ، مشروع يؤمن بالتصوف العرفاني  والنظر اليه  كرسالة انسانية  دون أن يصارع الجدل الفقهي و الاجتماعي مباشرة ، أو ينتصر للذات على حساب المضمون.
وعند السؤال كيف كان ذلك قائمًا في مشروع (عثمان سلك) الجمالي،  والعرفاني،  وفلسفته في الحياة، والوجود، والمعنى، وكيف نطوره؟ نجد الاجابة واضحة في كون ان عثمان سلك انتهح المنهج ولم يتواري خلف الشخوص وساهم في اظهار مشروعه وجعله  (بائن)  كما  الشمس  ..