عرض كتاب

عرض كتاب النزعة الصوفية في الشعر السوداني – عامر محمد أحمد حسين يطل على القاريء المختص والعادي الباحث الدكتور "الباشا برشم" بكتابه الثاني "النزعة الصوفية في الشعر السوداني" بعد كتابه الأول "النزعة الوطنية في الشعر السوداني"

عرض كتاب

عرض كتاب
النزعة الصوفية في الشعر السوداني
– عامر محمد أحمد حسين

 


يطل على القاريء المختص والعادي الباحث الدكتور "الباشا برشم" بكتابه الثاني "النزعة الصوفية في الشعر السوداني" بعد كتابه الأول "النزعة الوطنية في الشعر السوداني" والكتاب الصادر من دار المصورات بالخرطوم, قبل أيام يقع في "166" صفحة من القطع المتوسط. وتبدأ أسئلة الكتاب حول التصوف وتعريفه اصطلاحاً واختلاف العلماء حول تعريفه. "التصوف هو ما يطلقون عليه في بلاد الغرب كلمة "مستيسزم" وهي كلمة من أشق الأمور أن يعالج المرء تعريفها على وجه الدقة اذ كانت تدل على حالة من حالات الفكر أو الاحساس مقرونة بمحاولة العقل الانساني أن يتغلغل الى حقائق الأشياء وأن يستجلى صفاتها الربانية أو الاستمتاع بنعمة الوصول الى الذات العلية والاتصال بها والتشرب فيها ومن هنا ظهر التصوف في الفلسفة والأدب. ويؤكد د. الباشا على أن ليس للتصوف تعريف متفق عليه, فإن كل متصوف يضع للتصوف تعريفاً يتفق مع درجته التي وصل اليها وأن بذور الزهد الأولى موجودة في كل دين سماوي وغير سماوي فإن قلنا أن بذور الزهد موجودة في القرآن وجودها في الانجيل وجودها في التوراة وجودها في البوذية وجودها في الفيدا, في الزرادشينية. وقد نشأ التصوف نتيجة لعوامل عدة منها: اختلف المؤرخون والمحققون حول مصدر التصوف وان كلمة تصوف جاءت من تأثر المسلمين بالثقافات اليونانية وبالتصوف اصداء فارسية وهندية ونصرانية واستطاع المتصوفين المسلمين أن يمزجوا تأثراتهم بطبيعتهم الدينية فأصبح للتصوف الاسلامي خصائصه المستقلة التي تميزه عن أي تصوف في أي عقيدة أخرى وتطور الزهد الى التصوف كمذهب فلسفي على أسس ثلاثة: القرآن الكريم بما احتشد فيه من آيات ومواقف, الحديث قدسياً أو نبوياً أو موضوعاً أو محرفاً, علم العقائد الكلامية واثراؤه للأفق الفقهي والصوفي بمختلف ألوان النظر العقلي والروحي والعملي.

 


الشعر الصوفي
يمضي الكاتب في قراءة الشعر الصوفي الى رواد كبار في ميادين التصوف عطروا الأدب العربي بأريج الكرامة والعزة والصيانة والعفاف وهم الذين وصلوا المشرق بالمغرب وحفظوا الاسلام باذاعة المعاني الروحية والذوقية وهم الذين جعلوا الأدب ترجمان المنطق والفعل وعلى رأسهم محي الدين بن عربي وكان عالماً متبحراً وشعره فن قائم بذاته وأشعاره كلها رمزيات ولا تخلو من طلاوة وقد زاد لغة الصوفية ثروة وتفرد بتعابير واصطلاحات لها قيمة من الوجهة الأدبية. وهناك الحلاج الذي أحب الله حباً الى حد الفناء. ومن مميزات الشعر الصوفي البحث عن الحقيقة والنفاذ الى صميم الأشياء وكشف ما وراء الطبيعة, أنه شعر روحي عظيم يحلق فوق جموح النفس.
مظاهر الصوفية في الشعر السوداني
تناول الشعر السوداني ظاهرة التصوف واستعمل الشعراء الفاظ التصوف وداروا حول ذلك وتأثر شعر الصوفية بنظرية "الفيض الرباني" ومجملها أن لهذا العالم ظواهر جمة وهو دائم التغيير ولم يوجد بنفسه بل لابد له من علة سابقة هي السبب في وجوده وهذا الذي صدر عنه العالم "واحد غير متعدد" ويشير الباحث الدكتور الباشا برشم الى ان الشعر السوداني بدأ شعبياً لا يخضع للغة الفصحى وان كان ينطوي على الأغراض العربية كالمديح والغزل والحماسة. وقد انتشر لون من الغناء الصوفي الجماعي يسمى "كرير" وتعتبر هذه المرحلة تمهيدية أو مرحلة أولى للشعر الصوفي في السودان ويصعب تقسيم مراحل الشعر بفترات تاريخية لأنه لا يوجد فاصل زمني بينها وشعر التصوف الشعبي الذي رافقته الألحان والأنغام وبعض آلات الطرب كالطبول والرق والنوبة والدفوف والصنوج لم يكن مجرد أغنيات كتبت لتحريك وجدان المريدين وانما كتب شعر التصوف ليحمل في طياته معنى كبيراً من معاني المد الروحي وفلسفة مبادئه وكل ما يتعلق بأدب السلوك المنخرط في التصوف وكتبت كلماته وقصد بها مخاطبة العقول.
شعراء
اتخذت الصوفية عند الشاعر السوداني أبعاداً جديدة بظهور الشاعر التجاني يوسف بشير وكان تصوف التجاني يمتد ما بين التقليدية والصوفية الأدبية التي تعتمد على رهافة الحس وسعة الخيال وعمق التصور وربط التجاني في شعره بين العالمين الروحاني والحياتي المادي فكان شعره بحثاً عن الخلاص من الواقع الى المثال المأمول ويتراوح بقلق شديد ما بين الشك واليقين الى درجة الغموض التي لاحظها الدكتور احسان عباس بقوله "إن لا محدودية الموضوع الذي تعالجه القصيدة هو السر الأكبر في بعض ما يعتري التجاني من غموض وغالباً ما يكون موضوعاً ميافزيقياً أو شبيهاً به وما يهمنا عند التجاني ليست صورة شعره الدينية بين الشك واليقين بقدر ما تهمنا هذه الرؤية السديمية الغامضة التي تؤكد انتماءه لجذور عميقة من الفكر الصوفي اذ لاحظ الأستاذ "محمد محمد علي" في شعره بعض التناقض ونفى عنه هذا التناقض الأستاذ "عبدالله الشيخ البشير" والصوفية كما يذهب معروف الكرخي "هي الأخذ بالحقائق واليأس بما في أيدى الخلائق" والأخذ بالحقائق يعني تجاوز ماهو عرضي وصولاً الى الجوهر, والتجاني قد أخذ مداده الذي كتب به "اشراقة" من مورد ثقافة الصوفية ومن ثم فجره شعراً.
ومن الشعراء الذين انحدروا من صلب التصوف وكان واضح الصلة به الشاعر محمد المهدي المجذوب وبالنظر الى جوهر شعره ذي الأصول الصوفية نجد قصيدة "المولد" تقف بناءً شامخاً لنفس عامرة بهذه المعاني, فالقصيدة تحتفظ للأهازيج الصوفية بكل ايقاعاتها وتراتيلها وألحانها وصورها.
"وتدانت أنفس القوم عناقاً واصطفافاً
وتساقوا نشوة طابت مذاقاً
ومكان الأرجل الولهى طيور
في الجلاليب تثور وتدور"
ولم يسلم الشعراء الواقعيون من أثر التصوف ويعبر عنه الشاعر جيلي عبدالرحمن بأنه حفظ القرآن وهو صغير السن ويحس في وجدانه بصوفية عميقة كما يشير الى ذلك الشاعر تاج السر الحسن وحديثه عن عراقة أسرته الدينية وأثر البيئة التي عاش فيها على تكوينه الفكري والعاطفي.
الفيتوري
يتفاوت أثر التصوف من شاعر الى آخر إلا أنه يبدو واضحاً جلياً عند الفيتوري الصوفي المولد والنشأة والتعليم. وديوانه "معزوفة لدرويش متجول" فيه من القصائد ما يعبر عن تجربة وجدانية بطريقة صوفية خالصة:
"شحبت روحي صارت شفقاً
شفت غيماً وسنا
كالدرويش المتعلق في قدمي مولاه أنا
اتمرغ في شجني
أتوهج في بدني
غيري أعمى مهما أصغى لن يبصرني"
محمد عبدالحي
وفي شعر محمد عبدالحي ايحاء موغل في البعد الصوفي, يكاد يضعه في خانة السالكين وقد استخدم مفردات صوفية شتى منها الإكثار من ذكر النار والماء والموت والرؤيا والمسبحة والمصلاة
"الليلة يستقبلني أهلي
أهدوني مسبحة من أسنان الموتى
أبريقاً جمجمة
مصلاة من جلد الجاموس"
النور عثمان أبكر
ونجد الرمزية والغموض الصوفي ظاهراً في مفرداته مثل "بوقاً نبوياً, شعائر, قرباني, فجراً, وهي ذات معنى ميتافزيقي غيبي تدركه الروح الهائمة في ملكوت الله
التزم النفس الزاخر بوقاً نبوياً
وأبارك لمح الأشياء كما تهوى عيناك وأهوى
وأجدد كل نذوري
لتقام شعائر قرباني فجراً"
ادريس جماع
وهو شاعر واسع الخيال ضاقت به المصحات النفسية.
"قم ياملاك الدنيا ليل
نتناجى في الشاطيء الجميل"
"ما له أيقظ الشجون فقاست وحشة الليل
واستثار الخيال
ماله في مواكب الليل يمشي
ويناجي أشباحه والظلالا"
محمد المكي ابراهيم
وشعر محمد المكي به قصائد صوفية وأخرى تتناثر بين ثناياها درر التصوف التي تأتي تلقائية دون تكلف وهي من قصائده الصوفية الخالصة "مدينتك الهوى والنور"
"مدينتك القباب ودمعة التقوى ووجه النور
وتسبيح الملائكة في ذوابات النخيل
وفي الحصى المنثور
مدينتك الحقيقة والسلام"
وقد حوى الكتاب مباحث أخرى تناول بافاضة وقراءة متأنية أسماء من الشعراء الذين لم يعرف لهم من قبل قراءة لتأثيرات التصوف عليهم ومنهم أبو آمنة حامد وعبدالعزيز سيد أحمد كما احتوى على دراسة تطبيقية للشعراء, التجاني يوسف بشير ومبارك المغربي وأحد كبار شعراء العربية محمد سعيد العباسي. ويخلص الكتاب الى أن لصوفية المهجر صدى في الشعر السوداني وبخاصة لدى أولئك الذين درسوا خارج بلادهم أمثال الفيتوري وجيلي عبدالرحمن ومحي الدين فارس وذلك لوحدة التجربة وتطابق ظروف الغربة مثلهم مثل جبران وميخائيل نعيمة وايليا ابوماضي.
في هذا الكتاب ابتدأت الاسئلة عن الأثر الصوفي في الشعر السوداني, وهي أسئلة تتشابك مع الغموض والرمز والرمزية التي يحتويها التصوف ولغته. ولعل ما يتفق عليه هذا الكتاب الناصع في القراءة للنزعة الصوفية الشعرية مع قراءة الكاتبة "أسماء خوالدية" في كتابها "الرمز الصوفي بين الاغراب بداهة والاغراب قصدا" اذ تؤكد على أن الرمز غلالة توجد على معاني المواجيد حتى لا تبين إلا بالقدر اليسير والأصل فيه أنه يجيء لاحقاً لما يرمز له اذ تعرض الحالة أو الفكرة فيزداد تميزها مما قد يختلط بها من أشباهها أو أضدادها, فيتم البحث لها عن رمز يميزها" وتكتمل قراءة النزعة الصوفية في الشعر السوداني باختيار الكاتب النزعة كرمز لقراءة الأثر الكبير للتصوف على الشعر السوداني قديمه وحديثه ونثره. اذ النزعة في اللغة اتجاه فطري أو نفسي الى شيء واستعداد عقلي لاتخاذ منحى معين استجابة لدافع داخلي, ميل, اتجاه.