الكذب العاطفي في شعر الحقيبة
الكذب العاطفي في شعر الحقيبة عزالدين ميرغني من البديهيات في النقد قديما وحديثا , هو أن الشعر حالة فردية وذاتية خاصة . ولكن هذا الفرد , هو في النهاية جزء من المجتمع , ومن الوعي الجمعي والنسيج الذي يكونه
الكذب العاطفي في شعر الحقيبة
عزالدين ميرغني
من البديهيات في النقد قديما وحديثا , هو أن الشعر حالة فردية وذاتية خاصة . ولكن هذا الفرد , هو في النهاية جزء من المجتمع , ومن الوعي الجمعي والنسيج الذي يكونه . وهو في ثقافته لا يمكن أن ينفصل عنه . وهذه الثقافة هي التي تؤثر في الأدب شعرا أو نثرا . وهي التي تكشف عن الصدق أو الكذب في النص الأدبي المكتوب . وشعر الحقيبة يعتبر امتدادا في بنيته وشكله لشعر المديح النبوي . وان تغير المضمون والمحمول في هذا الوعاء الشكلي , وهي اللغة العامية المنظومة . وهذا الشعر , يعتبر أيضا امتدادا تاريخيا لشعر الغزل العربي , حسيا وعذريا . والذي يعبر عن جمال المرأة الجسدي والحسي , أو الأخلاقي . وهي في النهاية ثقافة المجتمع المكونة لوجدان الشاعر وعاطفته . وإذا أردنا أن نطبق منهج ( لوسيان جولدمان ) , في مجال سوسيولوجيا الادب , والذي يقوم علي منهج في غاية البساطة وفيه يقول بأننا يجب أن لا نسأل الشاعر , وإنما يجب أن نسأل شعره . وأن نحلل النص من داخله . أي توضيح شبكة الدلالات الداخلية , التي يجب الوصول إليها . فأغلب شعراء الحقيبة هم من الذين ولدوا في المدن , وانعتقوا قليلا ولو ظاهرا من قيود المجتمع الريفي . وأصبحت لهم ذاتيتهم , ووجدانهم الحر . ولغتهم غير المقيدة بشعر الدوبيت والمسادير . وهي لغة لها ذاكرتها المختلفة عن ذاكرة اللغة في القرية . رغم أن المرأة في المدينة , والتي عاصرت شعر الحقيبة وكانت بطلته المكتوبة وصفا وغزلا , كانت أكثر مراقبة وترصدا وسجنا من المرأة في الريف , فالمرأة في الريف مأمونة ومؤتمنة , ومشاهدة في الحقل وفي الحي وفي المناسبات الجماعية لأنها جزءا من الأسرة , والمجتمع كله أسرة واحدة لذلك جاءت أشعار الدوبيت أكثر صدقا وأقوي عاطفة من أشعار الحقيبة , ومعروف بأن أشعار الدوبيت نظمت قديما كلها في نساء القري والبوادي في بلادنا . والمرأة في المدن يخاف عليها من الغريب في ذلك الوقت فهي تخفي نفسها خوفا من الغريب ومن شعر الشعراء أيضا ان كانت ذات جمال طاغي ( حاول يخفي نفسو , وهل يخفي القمر في سماهو , طبعا لا لا , شفناهو شفناهو ) , فالإخفاء وليس السفور هي الثقافة والعرف السائد في ذلك الوقت . وإذا كان شعر الحقيبة يشبه في بعض جوانبه الشعر العربي العذري فالشبه يأتي من ذكر ومدح العفة والإباء والتمنع , والخوف من ذكر المحبوب وتسميته , فهو يعتبر اعتداء علي المجتمع كله وليس علي فرد وأسرة معينة . وأغلب أشعار الحقيبة تخلو من ذكر اسم المحبوبة الا حروفا مرمزة . ولعل العذرية في الشعر العربي القديم ناتجة من عدم التواصل والتبادل العاطفي المفتوح . واستحالته بين محب وحبيبه . والذي غالبا ما يكون من طرف واحد , وهو الرجل . وهذه العاطفة المكبوتة , هي تلهب العاطفة اكثر عند الشاعر . وأحيانا قد تصل في وصفها وابرازها درجة المبالغة . وهذا الحرمان من التواصل مع الآخر هو الذي يولد الكذب العاطفي والذي يتمثل واضحا في شعر الحقيبة . وحتي في شعر الأغاني السودانية في ما بعد الحقيبة والتي تعتبر امتدادا لها مع بعض التغيير في المحتوي والشكل . فالقصيدة التي تقول ( ما بنسي يوم كنا تايهين في سمر , أنا وانت والنيل والقمر ) تمثل رغم جمالها قمة الكذب العاطفي , فالمجتمع في ذلك الوقت لا يمكن ان يسمح بهذا اللقاء حتي ولو كان عذريا رومانسيا . وتبادل التعبير العاطفي يغيب حتي بين الزوجين في ذلك الوقت , فما بالك بين غريبين . ويقول علماء أدب الاجتماع أن ان هذا المنع قديما كان يمثل الدفاع الجماعي التقليدي عن الذات . ذلك أنه بقدر ما تزداد حميمية الزوجين , تنغلق ثنائيتهما ويقل انفتاحهما علي الآخرين وهذا ما لم يكن يسمح به المجتمع السوداني بين زوجين في زمن الحقيبة ناهيك عن غريبين . فالزوج لم يكن يجرؤ حتي علي مصافحة زوجته أمام الآخرين , والزوجة لا تذكر اسم زوجها صراحة . وفي رأيي بأن أغلب شعر الحقيبة الحسي كان في الزوجات فان كانت جميلة فيكون صادقا , وان كانت غير فيتخيلها كما كان يتمني . وأغلبهم كانوا من المتزوجين . وحتي قديما كان الشاعر لا يتغزل في زوجته حتي ولو كان دائم الحب لها , والشاعر الأموي جرير لا يتغزل في زوجته الا بعد مماتها
لولا الحياء لعادني استعبار . وزرت قبرك والحبيب يزار
ومن الناحية النفسية , فان الرجل يريد في داخله أن يكون محبوبا أيضا , وفي دائرة الاهتمام النسائي . وكتابة الغزل ترضيه نفسيا حتي ولو كذبا . وهذا ما تجلي في شعر الحقيبة حيث اللقاء والمناجاة والعاطفة المتخيلة . في حبيب بعيد يبادله الشوق والرغبة في اللقاء . وهذا القول لا ينفي الشعرية في أغاني الحقيبة , رغم الصنعة المتكلفة في بعضه ولكنه رائع في وصفه , ولأن الفن كما يقول الروائي الفرنسي ( فلوبير ) , يكون في الغالب قائما علي المبالغة , فهي حتي عند قدماء العرب لا تنفي البلاغة . ولقد قيل بأن أحسن الشعر أكذبه . فالكذب يعني الحبيبة المتوهمة والمتخيلة . وهذا الكذب قد يثير عاطفة صادقة عند المتلقي كانت كامنة ونيابة عنه قام الشاعر بالتعبير لمن كان صادقا في عاطفته , ومن هنا يأتي القبول قديما وحديثا لأغاني الحقيبة شعرا ولحنا . وهذا القبول , قديماً وحديثاَ هو قبول نفسي اجتماعي , تاريخاني , من الشعوب التي تبكي دائماً علي أطلالها , وشعارها دائماَ , ليس هنالك أحسن من ما كان , ولن يكون أبداً , وهو خازوق ثقافي تخلصت منه الكثير من الشعوب , في أوربا , الا في عالمنا العربي حيث لا يزال شوقي هو أمير الشعراء , وأم كلثوم سيدة الغناء , ونجيب محفوظ هو عبقري الرواية , وعندنا أن الطيب صالح هو سقف الرواية , ومشروع الجزيرة هو أكبر مشروع في أفريقيا , وأغاني الحقيبة هي التي لن يتجاوزها أحد شعراً ولحناً .