سيرة ناس مطالعات في متن سيرة مهنية                                                              أبو طالب محمد

سيرة ناس مطالعات في متن سيرة مهنية                                                              أبو طالب محمد

سيرة ناس
مطالعات في متن سيرة مهنية
                                                             أبو طالب محمد
يقدم الروائيون نصائح ذهبية لأقرانهم الجدد، أن يكتبوا عن الأشياء التي يعرفون عنها أكثر من غيرها،هذا يعني أن يقتربوا من تجاربهم التي تمثلوها، ومشاهد الحياة التي خبروها، أي أن يكتبوا عن حيواتهم وعصرهم، والناس الذين عاشوا معهم، ولهذا نرى أن الأعمال الروائية الخالدة هي تلك التي كانت في جوانب منها سيراً لأصحابها، أو شذرات من هذه السير. فكان همنغواي موجوداً في رواياته( الشمس تشرق غداً، وداعاً للسلاح، لمن تقرع الأجراس، وغيرها) وكان بروست الروائي موجوداً في روايتيه (دميان، سوهارت) وكان هيرمان هيسه أيضاً موجوداً في رواياته، وكان نجيب محفوظ موجوداً في ثلاثيته، وهكذا الأمر بالنسبة لنماذج أخرى كثيرة.
وإذا كانت الرواية والسيرة الذاتية جنسين أدبين ينتميان إلى عائلة السرديات فإن نقطة الافتراق الأولى بينهما هي أن الرواية عمل فني يستند إلى الخيال، وإن السيرة عمل فني يستند إلى الوقائع، ومن هنا باستطاعتنا أن نحاكم السيرة على وفق معايير الحقيقة والصواب والأمانة التاريخية ولا نستطيع أن نفعل الشيء عينه مع الرواية إلا بحدود ضيقة.
إن الرواية تترشح من خلال رؤية كاتبها. هذه الرؤية التي تنضح في أتون الواقع وعلى محك التاريخ بالتفاعل مع الثقافة المتاحة ، ويكون اعتمادها على قدرة الروائي في اختلاف أحداث وشخصيات هي من بنات عملية التخييل في ما تعتمد السيرة على خزين الذاكرة والوثيقة.
إن السيرة المهنية التي سجلها عمرو إبراهيم وسمت بمحددات اجتماعية وتكوين ثقافي على خلفية واقع تاريخي/ موضوعي.
دونت (سيرة ناس) حياة مجتمع قل أن يرتاده كاتباً ألا وهو مجتمع دور المسنين وكيفية العلاقات الاجتماعية التي تربط بين النزلاء، وسرد سير حياتهم. حفلت جميع مقاطع السرد بطابع متداخل في فضائه الداخلي (مكان الدار) والفضاء الخارجي المقترن بالكاتب/ الراوي من هنا يثار سؤال من الذي يحكي؟ تدل الشواهد السردية الخاصة بالكاتب إن الراوي هو الكاتب نفسه، لذا وسم نصه سيرة مهنية بحكم تخصص كاتبها في مجال علم النفس وتوليه مديراً لدار المسنين ببحري، ومديراً إدارياً لدار الطفل (المايقوما) هذين المنصبين وضعا النص في مجال السيرة المهنية لإدارته لهذه الدور. يوضح هذا الجانب أن الراوي السارد هو الكاتب نفسه أراد أن يدون سيرة هذا المجتمع بحسبان أنها مترعة بنبض الحياة ومحاولة لاستعادة ما حدث وجرى داخل الدار والعثور على السر العميق الذي نعتقد بأنه أس الحياة.
إذن سيرة ناس هي وسيلة دفاعية لهؤلاء المبعدين عن مجتمعاتهم، إذ سجلت الوعي بهم في لحظة اختلاط وجودي بهم، واقترحت عالماً بديلاً لنسيانهم هو الخلود والاهتمام بوجودهم واقتحام عوالمهم.
تقفت (سيرة ناس) أثر الموروث الشعبي المتداول بين الناس في العديد من صيغ السير: منها الصيغة التحذيرية والتنبيه لعدم سيرة فلان، وسيرة جالب الشر في المعتقد الشعبي، وسيرة الشكر، وسيرة المحبة التي حفل بها النص في مقاطع مشاهده السردية وهي صيغة واردة في فن الغناء( حليل سيرتك وكت يجيبوها أهلي كتير بعزوها حليل العشرة ما بتهون للناس البعزوها).
حفلت (سيرة ناس) بالصيغة الأخيرة مثل الإشارة لسيرة عم عبد الرحيم كبير السن، وعم عثمان فاقد السمع وظهور علامات الشيخوخة على هيئته وسيرة الكاتب/ الراوي ومهام عمله في الدار، وسير ختان الأطفال، وعم النور، وسيرة خالة الكاتب / الراوي للسيرة، وسيرة المدير السابق وتعداد محاسنه التي قيلت يوم وداعه ( أنه كان موظفاً مثالياً بحق، تحدث عنه الجميع بإعجاب عن أخلاقه وطرائق تعامله وطريقة إدارته لمجموعة مختلفة من الناس... الرواية ص12) بجانب ذلك ترد صيغة خاصة بماضي الكاتب/ الراوي وفترات دراسته في المدرسة حينما يقول: ( ألقي حقيبتي المدرسية على أقرب كرسي أو سرير أو منضدة و إذا لم أجد فستقوم الأرض بمهمتها في احتواء حقيبتي، أرتدى بنطالاً بنياً وفانلة بنية... الرواية ص15). ثم يبدأ الكاتب / الراوي في سرد سير النزلاء والتعرف على شخصياتهم من خلال الملفات الشخصية، ويخبرنا عن ملف عم إبراهيم الذي قال عنه : ( أنه تعافى من الفصام ونقل من مصحة كوبر إلى دار المسنين)، يكشف الكاتب العديد من جوانب شخصيته من خلال حواراتهما بأنه فاقداً حنان الأبناء و ممنياً نفسه برؤيتهم قبل وفاته.
يغادر الكاتب / الراوي فضاء الدار إلى فضاء خارجي ويكشف عن سيرة لشخص آخر مشرداً في سوق الخضار بحري ودفاعه عنه عندما نعت بود حرام ودون بلاغ ضد الشخص الناعت بحكم مكانة الكاتب كاختصاصي نفسي مهتماً ومدافعاً عن قضايا هؤلاء الناس، يمدنا الكاتب أيضاً عن سيرة عبد القادر الخير النزيل من خلال ملفه ويعطينا معلومات في مشاهد سردية أخرى ضافية عن دار المسنين ونشأتها في زمن الاحتلال الإنجليزي للسودان في عام 1928م ويقول: ( كان يطلق عليها في تلك الفترة الملجأ وكانت في ذلك الزمان مبنية من الجالوص، وتأوي الرجال والنساء معاً، وفي عام 1984م أعاد المرحوم الضو حجوج تأهيلها وزيادة عرفها، استمر هذا الوضع حتى عام 2003م حيث خصصت الدار للمسنين من الرجال فقط، ورحلت النساء إلى الخرطوم – السجانة و أنشأت دار مخصوصة بالنساء هناك جنوب غرب حديقة القرشي الشهيرة..ص42). ويواصل في مدنا بالمعلومات عن شخصية تدعى حكومةتحولت من مصحة كوبر إلى دار نزلاء السجانة وليست لديها أهل تعاني من انفصام ويردد دائماً في وجه الراوي أنها جابت البشير للحكم. 
ثم يتحدث الكاتب عنه نفسه قائلاً: ( كنت متدرباً في مجال العلاج النفسي في العام 2005م في مصحة.. وكان هناك أحد المرضى يصر علي أن أقرأ له سورة الفاتحة على رأسه كل يوم.
تلخص هذه الشواهد مجتمعة مهنية سيرة كاتبها (عمرو) وعلاقته بالنزلاء وطريقة تعامله معهم، ودوره الإداري في الدار. ثم يختم نصه بطريقتين أساسيتين هما: الطريقة الأولى نص الخطاب الموضح فيه طلب الإجازة من الدار. والطريقة الثانية عن مراجعته لمكتب سجلات إحصاء المواليد عندما أنجبت زوجته طفلة تدعى (سعاد) أفصح عن اسمه لموظف السجلات الإحصائية بأنه عمر الطيب أحمد الخير، وهو إفصاح يكشف عن راوي آخر بدلاً عن الكاتب، لكن ما ورد في متن الكتاب يوضح أن الكاتب عمرو إبراهيم دون سيرة جانبية لحياة مهنية قضاها في دار المسنين وهي تجربة جديرة بالتعرف والإلمام بتفاصيل دور المسنين بطريقة صدق واقعي / تاريخي مبتعداً عن تدخل الخيال ومعتمداً إلى حدِ كبيرِ على وثائق وملفات النزلاء.
إن تجربة الرواية السودانية المعاصرة كما في سيرة ناس كسرت قيود السرد الروائي التقليدي وأسست لبنية متداخلة مع حقول سردية أخرى مثل السيرة الذاتية والحوار الدرامي الثر في تجلياته وتقاطعاته مع المحتوى السردي داخل متن سيرة ناس.
سعت (سيرة ناس) لتأسيس بنية سردية توجهت بها صوب مجتمع واقعي التزمت بقضاياه وشرحت مشاكله بطرق سردية استفادت بقدر كبير من سيرة الكاتب المهنية في دور النزلاء المبعدين عن مجتمعاتهم.
إحالات مرجعية
سعد محمد رحيم ، سحر السرد، ( دراسات في الفنون السردية) دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع 014م، ص77.2
سعد محمد رحيم، نفسه ، ص78.
عمرو إبراهيم، سيرة ناس ( رواية) ، نرتقي للنشر والتوزيع 2021.