(الندوة الأدبية)

(الندوة الأدبية) بقلم : زين العابدين الحجّاز ينتمي الشيخ حامد الأمين العمرابي الى قبيلة العمراب فقد ولد بجبل أم علي ثم انتقل الى أم درمان وسكن في حي البوستة بمنزله بشارع محمد بك حسن المؤدي إلى استاد الهلال في مواجهة مدرسة أم درمان النموذجية

(الندوة الأدبية)

(الندوة الأدبية)

 

بقلم : زين العابدين الحجّاز

 

 

 

 

ينتمي الشيخ حامد الأمين العمرابي الى قبيلة العمراب فقد ولد بجبل أم علي ثم انتقل الى أم درمان وسكن  في حي البوستة بمنزله  بشارع محمد  بك حسن المؤدي إلى استاد الهلال في مواجهة مدرسة أم درمان النموذجية . يعتبر من علماء الدين وأساتذة العربية في المعهد العلمي بأم درمان  و قد خصّص في منزله زاوية للعبادة و التدريس و شهد ذلك المنزل ولادة أبنائه مصطفى و عبدالله و الأمين و سيد وبشير وعدلان   . تميزت هذه العائلة بالتناقضات في التوجهات الفكرية فنجد فيها الاسلامي والبوذي و الشيوعي و اللامنتمي و الأديب و الحديث يطول عنها . نفرد  الشئ اليسير من سيرة ابنه الأديب عبدالله حامد الامين  الذي ولد عام ١٩٣٤ في منزل والده بحي البوستة. اضطر لقطع دراسته و هو في الصف الثالث بمدرسة وادي سيدنا الثانوية لمرضه بضمور الأعصاب و أصيب بالشلل لكنه لم يستسلم  و واصل تثقيف نفسه بنفسه.  أنشأ الندوة الأدبية بمنزله  في منتصف الخمسينيات وكان يديرها من سريره . ظلت الندوة تنمو وتزدهر وتخرج إلى الساحات و أصبحت داره مركز  للثقافة في السودان فبعد ظهر كل يوم جمعة كان يتوافد إليها الأدباء والشعراء  يعرضون فيها إنتاجهم الأدبي ويبدأ النقاش وفتح القنوات للدراسة والتوثيق . كان يؤم الندوة أهل اليسار واليمين والوسط من شعراء وأدباء السودان الذين تركوا لنا الإرث الأدبي شعرا ونثرا واستمرّ عبد الله حامد الأمين رئيسا للندوة حتى وفاته .  قبل إعلان الاستقلال و في مهرجان الندوة الأول كان له النصيب الأوفر من التخطيط والتحضير والإعداد له حتى تمّ بنجاح كبير. في حفل افتتاح المهرجان كان هناك شريط مسجل يحمل صوته بالتحية للحاضرين وهم جمع حاشد وكان لحظتها وحيدا في بيته والسعادة تغمره وخياله مشدود للحفل الذي تعب في إعداده ولم يتعب في الوصول إليه ! . إنضم لندوته عدد من أصدقائه منهم طه عبد الرحمن و عبد الصمد عبد الله و خليل عبد الله الحاج وعثمان علي نور و إسماعيل خورشيد و أحمد محمد السنوسي و الفاتح علي مختار. شارك في الندوة عدد كبير من الكتاب و النقّاد و الشعراء و الفنانين من أمثال الدكتور عبد المجيد عابدين  و محمد المكي إبراهيم والشاعر النور عثمان أبكر والشاعر محمد المهدي المجذوب ود. حسن عباس صبحي وعبدالكريم الكابلي و قريبه الفنان محمد الحويج .  الشيخ الطيب السراج عندما زار الندوة لأول مرة  أبدى اندهاشه من المكان الذي تقام فيه قائلاً : (أهذه دار الندوة ؟ )  وكان يتوقع أن يجد مكانها واسعا . تغنّا له أحمد المصطفى من كلماته  بقصيدة (السوسن البرّاق) وفي دار الندوة تكونت ثنائيات فنية نذكر منها على سبيل المثال تاج السر الحسن والكابلي في (آسيا وإفريقيا) والمجذوب والكابلي في أوبريت (ليلة المولد) و عثمان حسين والدكتور الزين عباس عمارة في أغنية (أوعديني) وعثمان حسين ومحمد الحويج في (كلمة منك حلوة)  وهي من كلماته . هذه الأغنية الحزينة بلحنها الخرافي  لحّنها عثمان حسين لمحمد الحويج الذي أصرّ أن يغنيها دويتو معه  فكانت هذه اللوحة :

 

كلمة منك حلوة كنت مستنيها
للأمل والسلوى من زمان راجيها
في عيونك كانت راسخة بس خجلانه
فى خدودك بانت في ازدهار ألوانها
اللسان طاويها لما يوم قلتيها
لاتخافي عليها كلمة لى قلتيها
يا حياتي وروحي كلمتك بالدنيا
فضّي غيرا وبوحي انت كل المنية
صرت ملهم بيها كلمة لى قلتيها

 


شارك الأديب عبدالله حامد الأمين على النطاقين المحلي والدولي في مجالات الأدب المتعددة  و أصبح نائبا لرئيس اتحاد كتاّب آسيا وأفريقيا و كان يكتب في الصحف المحلية والمجلات العربية. قدّم العديد من البرامج والندوات الثقافية و الأدبية في الاذاعة والتلفزيون . اشترك أديبنا السوداني في تأسيس اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا ممثلاً للسودان وعمل محرراً في مجلة اللوتس التي كان يرأس تحريرها الأديب المصري الكبير يوسف السباعي و اشترك في تأسيس اتحاد الأدباء السودانيين واتحاد الأدباء العرب وتم اختياره عضواً باللجنة التنفيذية تكريماً للسودان في شخصه .  في عهد الرئيس نميري اشترك في تكوين المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون وكان أول رئيس لأول مهرجان بالمسرح القومي . له مجموعة قصص قصيرة  تحت عنوان (تحت الشمس من جديد) وكذلك له دواوين شعرية  ومخطوطات  لم تنشر.

 

 

 أصابه الشلل كما ذكرنا وهو في مقتبل الصبا الباكر ولكن ما أصابه  لم يحل  بينه وبين ما كان يبتغي فوطّن  نفسه لتحقيق هدفه .استسلم لصدمة الإعاقة لمدة خمس سنوات ثم بعد ذلك بدأ الهجوم على الحياة وسار في رحلة التكيّف مع المرض وممارسة التفوق على العجز . خمس سنوات تقريبا  قضاها في منزله  حابسا جسمه داخل جدران بينما كانت روحه تحلق في الآفاق وتهفو إلى كل ركن من أركان العالم . تعوّد شيئا فشيئا على الشارع واستمرأ الخروج على مقعد متحرك يدور في طرقات المدينة ويحمله إلى مجالس الأصدقاء والمنتديات العامة والمشاركات الخارجية . في البدايات كان من الطبيعي أن يواجه المضايقات في الشارع العام .. كسيح يطارده الناس بعيونهم الجارحة ثم بالتعليق الجارح فتردد خائفاً أول الأمر ثم بدأ يتحدى . لم يكن الأمر في بدايته سهلا  فقد تركت السنوات الخمس في المحبس تأثيرا انطوائيا على نفسه وميلاً إلى الانزواء عن أعين  الكثيرين  . كانت تضايقه عيون السابلة وتحاصره فلا يملك إلا أن يغمض عيونه حتى لا يرى تلك العيون التي كانت تنظراليه بنظرات شتى منها المشفق ومنها المندهش ومنها الفضولي ومنها الأبله.  المقاعد المتحرّكة كانت نادرة في شوارع أم درمان ولكن في نفس الوقت كانت الشوارع تعج بمقعدي الفكري وعمي البصيرة . تلك العيون التي كانت تنهش كبرياءه كادت أن تعيده إلى محبسه ولكنه استطاع في نهاية المطاف أن يتحدّى  !!.  يحكي عن نوادر أولئك البسطاء والسذّج ويقول أنها كانت تخفف عليه ففي ذات مرة بينما كان يتنقل في الشارع على الكرسي المتحرّك يدفعه أحد أصدقائه صرخ فيه أحد الأعراب قائلا : ( كفاك خلاص إنت .. خلي صاحبك يركب كمان !!)  فضحكوا منه لأنه كان يعتقد أن الكرسي المتحرّك مجرد لعبة بين أصدقاء في الشارع العام . في عام 1972 أنشأ هذا الأديب المقعد الجمعية السودانية لرعاية وتأهيل المعوقين .

 

 

 توفّي عبد الله حامد الامين  في الثالث من أغسطس عام 1976م حيث لقى مصرعه بشكل مأساوى للغاية إثر حادث حركة بالقرب من منزله . حادث لو كان تعرّض له شخص غير معاق لما أصابه مكروه لكن هكذا شاءت الأقدار . رجل تحدّى الزمن وقسوته لكنه بالعزيمة والإصرار والإيمان المطلق شقّ طريقه في الحياة ورسم أعظم اللوحات وخلّد اسمه في سجلات العطاء السوداني ليظل محفورا في قلب تاريخنا المعاصر و يسطع كوكبا منيرا في سماء الأدب والابداع في أم درمان  .اللهم أرحمه و أسكنه فسيح جناتك .
الشكر لكل من أتاح لنا معلومة في سيرة هذا الأديب الشامخ .