دراما اللحن

دراما اللحن لمياء شمت تعد القدرة الإبداعية على نسج الوشائج الجمالية بين المفردة الغنائية والجملة الموسيقية، وخلق حوار ثري بينهما، من السمات الهامة التي اسهمت في إنتاج الأغنيات الخالدة ذات الحضور

دراما اللحن

 
دراما اللحن

لمياء شمت

 

 

تعد القدرة الإبداعية على نسج الوشائج الجمالية بين المفردة الغنائية والجملة الموسيقية، وخلق حوار ثري بينهما، من السمات الهامة التي اسهمت في إنتاج الأغنيات الخالدة ذات الحضور، والتي تُحدث ما تُحدثه من تأثير على مستوى ذائقة التلقي، وكذلك على مجمل التاريخ الموسيقي والغنائي السوداني.

وعادة لا يكتمل مثل ذلك النصاب الفني الحرون إلا بتوفر عوامل عدة يتقاسمها كل من النص الشعري واللحن الموسيقي سواء بسواء.

ويمكننا الاستعانة هنا بنموذج أغنية (غضبك جميل)، للشاعر العذب حميدة أبو عشر، والتي كانت من بين المساهمات التي بلغ بها الفنان عبدالحميد يوسف ذروة جماهيريته في أربعينيات القرن المنصرم.

إذ يبدو أنه قد ازمع الانخراط في إنجاز عمل فني يقدم به نموذجا على التراسل الجمالي بين النص الشعري الغنائي والمخيال الموسيقي، الذي تستدرجه الكلمات ليرتاد المدى بحثاً عن مكافئ نغمي، يقدم عبره تفسيره اللحني، الذي تصل به الأغنية لتحقيق هدف ريادتها الفنية وجدارتها الجمالية.

وها هو عبد الحميد يوسف يتفرغ ليقرأ نص حميدة أبو عشر بروح منصتة، فيحرك النص الغنائي استقبالاته الفنية، ولواقطه الإبداعية، ويمنحه مزيداً من الجرأة على الانفتاح على متخيل موسيقي حر، متجاوز للتقليدية، كان عبدالحميد قد اختاره سلفاً، ليعلو بمعارفه الموسيقية، وقدراته الفطرية المتوهجة، على حدود القوالب الجاهزة، وترسيمات حدود المقام الخماسي، حيث يرمي بسهمه مع آخرين في تحقيق نقلة واسعة للتاريخ الموسيقي السوداني إلى أفق الغناء الحديث.

والمتأمل لأغنية (غضبك جميل زي بسمتك) قد لا يحتاج لكثير وقت  ليتفاعل مع الحساسية الجمالية التي هندس بها عبدالحميد يوسف تفسيراً لحنياً يتلمس روح النص الغنائي، ليترجم حمولات دلالاته، ويعبر عنها  على مستوى التركيب اللحني المعبر، والأداء المجود.

 

 

 

وهو مما أسهم في التأسيس لمدرسة موسيقية جعلت من بين اهتماماتها تقديم ترجمة موسيقية للنصوص الغنائية. وقد ضمت بدورها عمالقة من وزن المهيب محمد وردي ومحمد الأمين، حيث يتجلى التفاني في الإخلاص لمفردات النص وثقلها الدلالي، ومحاولة التعبير عنها بنواتج لحنية، تأتي كقطاف جمالي مقتدر، يعرف كيف يهز جذع النص، فيعب من فيوضه ويتذوق ثماره.

وقد تفرعت من ذات الأصل أسلوبية التأليف الموسيقي الدرامي للمبدع أبو عركي البخيت، وإمعانه ف التعبير عن حمولة المفردات وأيقنتها بأداء درامي صادح وعميق الأثر.

ونعود لعبد الحميد يوسف واندماجه في الطقس الجمالي لنص حميدة أبو عشر، وانتباهه للفيض التأثيري الكثيف للنص، والذي ينهض بشكل أساسي على توظيف المقابلة الدلالية مثل (قاسي ووديع)  و(خضوعي وجبرتك)، والتقاط المفارقة بين الأضداد والتعارضات الثنائية، التي تضيء بعضها الآخر. وبالتالي إدراك التوتر الدلالي الذي ينتجه ذلك التقابل على المستوى اللفظي والصوتي والانفعالي. مع الاستفادة من توظيف الجناس، حيث التشابه الصوتي الذي يرافق تضاد المعنى فيعمل على تعميق الدلالة وتوسيع حدودها، مثل (حكم الغرام بتذللي/ حكم الغرام بتدللك).

 بالإضافة إلى الطاقة التعبيرية للاستهلال الشعري المختلف، والدور الذي لعبته عبارة (على كل حال)، حيث الاستدراك المتوسل الأسيان، وإتباعه بما يكمل معناه ويقود للكشف عن الوجه الآخر للمسألة (على كل حال شكلك بديع /غضبك جميل زي بسمتك)، ليكون الاستهلال المباغت بمثابة مهماز جمالي يجعل إدراك عبدالحميد يوسف الانفعالي، ومخياله الفني الشاسع، ينفتح على المزيد من الحراك والتجريب والتجديد، مستعيناً بذاكرة لحنية واسعة ومتعددة الروافد، تقرر أن تعاند السائد وتحرض ذاكرة التلقي التي أذعنت  للنمط المعروف المألوف.

وهكذا يعايش عبدالحميد يوسف النص الغنائي الجديد، ليبدأ في رحلة نغمية لا ترضى بأقل من الحلول في  وكر المعنى، وابتكار لحن يركّز على إبراز المفردة، لدرجة تغليب خطابها ونثريتها على اللحن، ليأتي الاستهلال كمطلع منثور، يبدأ خفيضاً ضارعاً، ترافقه موسيقى زاهدة وإبطاء إيقاعي مقصود لتتقدم المفردة، ثم يتصاعد الأداء بدرامية بارعة، تكشف الطاقة الغنائية الطروب لذلك اللحن الذي استطاع عبد الحميد يوسف أن يبدع به وثيقة غنائية وجدانية عصية على غبار الزمن.