مصير القيامة دنيا قائمة

مصير القيامة دنيا قائمة بقلم حسن إمامي... المغرب في الحديث عن الوباء، يرى الضمير الجمعي والحدس البشري بأن هناك تهديدا للوجود وبقاء النوع البشري كما تهديدا لشروط الحياة واستمرارها لكل الخلائق. تنحبس النفس داخل الذات فتستشعر تهديد الزمن والآتي.

مصير القيامة دنيا قائمة

مصير القيامة دنيا قائمة
بقلم حسن إمامي... المغرب

 

 

 

في الحديث عن الوباء، يرى الضمير الجمعي والحدس البشري بأن هناك تهديدا للوجود وبقاء النوع البشري كما تهديدا لشروط الحياة واستمرارها لكل الخلائق. تنحبس النفس داخل الذات فتستشعر تهديد الزمن والآتي. هكذا تختصر مسافات الزمن، وتنظر إلى الحكم والعبر المستفادة منها.

وحينما تدق طبول التهديد ينزع الذهن إلى المساءلة: أية توازنات جديدة؟ ما أسباب ما وقع؟ أين ذهبت الأماني والأحلام والتعهدات والالتزامات؟

أسئلة ترافق أخرى وتسائل الآخر: هل حققنا مثالياتنا وشعاراتنا وتعهداتنا الجماعية لحدود اللحظة؟ ما مآل العدالة والحق والأمان والسعادة؟

ونرجع بهذا التحليق الذهني إلى أرض الواقع لكي نجعل له أسسا يعتمد عليها هذا التفكير في التحليل والاستنتاج. بين الموت والعيش شروط والتزامات. يتطلب منا هذا البين صبرا والتزاما، قيدا من حرية، وحجرا من انطلاق تصرف وعلاقة وسلوك.

لطالما أجّل الفرد معادلة تحقيق الكمال والعدالة والمساواة والكرامة. تأجيل بقدر ما يحتاج لصبر في رؤيته دنيويا بقدر ما يترجاه أخرويا في ما بعد الموت. لكن أمل رؤيته هنا في هذه الحياة وقد جعله للأجيال القادمة، رجاء عيش الناشئة أفضل من السابقين، يبقى أمرا مطلوبا عنده. وماذا إذا لم تكن هناك تسوية للأمنية وتحقيق لهذا المأمول والمرجو؟ ماذا لو جاءت ساعة الإنذار الجماعي ونهاية العالم وتواجد الجنس البشري؟

قد يرجع الإنسان إلى مساءلة ذاته: أين ذهب رهان الرجاء الدنيوي؟

هذه الرحلة المتافيزيقية في تفاعلها مع الأرضي تجعلنا نناقش علاقة الأنظمة بشعوبها، والطبقات المستفيدة من الحكم ومن الاقتصاد بالجماهير المتضررة منهما. تجعلنا نناقش القوة والضعف، العلاقات العامة والخاصة، النموذج المقتدى في قيادة العالم وارتباط نسق العولمة به ومعه.

لطالما عاش الإنسان على أمل  تصحيح معادلة التاريخ المائلة والمجحفة. أمل ناضل من أجله مرة وقاوم، وأرجأ تحقيقه إلى حياة أخرى بديلة تكون أفضل. لكنه اليوم، يرى تهديد الوباء الجديد والذكي، شلل الحركة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. يرى معدلات وفيات قد تتفاقم مع الاحتمالات. مثلما يرى سيناريوهات عدة لتفسير ما يقع، ولماذا وقع. يفهم جسامة الخطأ البشري الذي سبّبه جشع التملك والتسلط والتسلح. وكان هذا المتلهف حاكما له وما يزال. من جعله باسم ديمقراطية الاختيار مسيرا لشؤونه وقد جره إلى مشارف الهاوية. ألم يصبح ضحايا وباء كورونا عرضة للحرق الجماعي أو الدفن المعزول؟ ألم تُحصد الأرواح فما عادت لها قيمة سوى في أرقام تسلسلية؟ وماذا بعد؟

عاش إنسان القرنين العشرين والواحد والعشرين حلما بل أحلاما أمام شاشة سينما وتلفزة. بل عاش خيالا مرعبا في تصورات نهاية العالم. مرة بالدمار الحربي وأخرى بالعامل البيئي أو الفضائي. وكلها احتمالات كانت تزيد من دقات قلبه وفزع نبضه، تضطره للتمسك أكثر بحضن يحميه، سيكون هو مؤسسة الدولة التي تحكمه، أو هو النظام العالمي الجديد الذي توافقا عليه الأمم مضطرة. والآن، وقد تكسرت مرايا الخيال والأساطير، ما الذي جناه من الانتظار والأمل الخارجي؟ صورة شرطي يضغط بقدمه على عنق شخص معزول حد الاختناق، حدّ الموت، ليترك أسرة مكلومة، وإنسانية مظلومة، كان لزاما عليها ربما أن تتجرع علقما مريرا وساما ومميتا قبل أن يتلقفها فيروس لعين يعرف كيف يمكر بالإنسان خلسة، وكيف يسرق الأرواح رقصة يومية بين لمس واستنشاق واختناق. ولعل الاختناق هو نفسه بين هذا وذاك، بين اختناق بالفيروس واختناق تحت قدم حذاء شرطة تمثل السلطة وقسوة العقاب والتجبر في سلوكها المميت.

هكذا التقط العالم الرسالة. يومها، الآن، يصيح العالم: كلنا فلان، وكلنا فلان... ! واستمر جرد الضحايا الذين يمثلون جروح انفسنا من جراء ظلم ممارس واستغلال ممنهج، وتاريخ مفبرك، واقتصاد مرتب لخدمة طبقات وسحق أخرى. بل الأمر مع الاختناق، أن تجحظ عيناك وأنت تعرف بأن العالم عنصرية ممارسة، واحتقار مستمر، وإهانة مذلة للكرامة، وأن الاجيال القادمة لها نفس مصير سابقيها، بسبب الفارق في اللون أو جغرافية الانتماء وثقافته ودينه وتاريخه. وهنا لا نستثني الكيان الغاشم الذي اضطهد الفلسطينيين !

يقف العالم اليوم لكي يصرخ بصوت واحد: ها هو الوباء قد وحّدنا، فلماذا لا نتوحّد في مراجعة التاريخ؟ ومحاربة الأوبئة الثقافية والسلوكات الهمجية التي أنتجت الظلم فيه والعنصرية وإهانة كرامة الإنسان؟

لم يعد هناك من عدو خارجي أو وهمي. العدو في داخل مجتمعاتنا وعقولنا. علينا أن نستأصل الأعضاء المتورمة. علينا أن نزيل الأفكار المتهشمة لأن خريفها حان ونحتاج لتشطيب هشيمها، عسانا نعيش بعد نهاية الوباء ربيعا جديدا، ما دامت الحدائق تنتظرنا بعد أن استراحت من عبث صبيانتنا !

وحتى نقول كفى: كفى !
كلنا براعم ذلك الربيع المنتظر الجديد.