ليلة الطيَّب صالح
ليلة الطيَّب صالح حسن النواب.. العراق كنتُ في خنادق الحرب؛ قبل ثلاثين سنة؛ عندما قرأتُ رواية موسم الهجرة إلى الشمال؛ وحين وصلتُ إلى مشهد بطلها مصطفى سعيد؛ وهو في جلسة انطلاق مع صديقه الراوي؛ في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل؛ وقدْ أخذتهُ نشوة ابنة الكروم؛ فبدأ يقرأ مقاطع شعرية في اللغة الإنكليزية إلى صاحبه الذي عقدت لسانه الدهشة في حينها؛ لم تعلم يا سيدي الطيب صالح؛ أني كنت منذهلاً مثل صديق
ليلة الطيَّب صالح
حسن النواب.. العراق
كنتُ في خنادق الحرب؛ قبل ثلاثين سنة؛ عندما قرأتُ رواية موسم الهجرة إلى الشمال؛ وحين وصلتُ إلى مشهد بطلها مصطفى سعيد؛ وهو في جلسة انطلاق مع صديقه الراوي؛ في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل؛ وقدْ أخذتهُ نشوة ابنة الكروم؛ فبدأ يقرأ مقاطع شعرية في اللغة الإنكليزية إلى صاحبه الذي عقدت لسانه الدهشة في حينها؛ لم تعلم يا سيدي الطيب صالح؛ أني كنت منذهلاً مثل صديق مصطفى سعيد؛ وأنا ألوذُ في خندق شبه معتم تحت وابل القصف؛ أجلْ لقد ذهلتُ من هذه المفاجأة التي فجَّرتها بين حنايا روايتك الخالدة؛ فتركتُ الملجأ أشبه بالمسحور، وكان القصف عنيفاً؛ لم آبه بالموت الذي كان يرقبني في تلك اللحظات؛ إذْ كنتُ أسير بلا هدى بحثاً عن مصطفى سعيد في سواتر النار؛ لعلَّني أجده في أحد الخنادق يجلس مع الجنود وهو يشرب ابنة الكروم ويقرأ لهم تلك القصيدة التي أطارتْ لُبَّ عقلي؛ وبقيتُ هائماً في ظلام سادر؛ وفوق رأسي تتوهَّجُ مشاعل التنوير؛ وتنفلقُ قنبلة في السماء بين شهقة وأخرى؛ كنتُ أردّد تلك القصيدة التي قرأها مصطفى سعيد إلى صاحبه..
“هؤلاء نساء فلندرز ينتظرنَ الضائعين، ينتظرنَ الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء، ينتظرنَ الضائعين الذين أبداً لن يجيء بهم القطار، إلى أحضان هؤلاء النسوة، ذوات الوجوه الميتة، ينتظرنَ الضائعين، الذين يرقدون موتى في الخندق والحاجز والطين في ظلام الليل. هذه محطة تشانغ كروس.
الساعة جاوزت الواحدة. ثمة ضوء ضئيل؛ ثمة ألم عظيم“؛ وكلما انتهيتُ منها؛ كنتُ أعيد الكرَّة لإنشادها بصوت جهوري؛ لم يكن يسمعني من أحد؛ سوى القصف العنيف الذي كانت ترتجُّ من عصفه السماء قبل الأرض؛ كأنَّ القصيدة كانت تعويذتي التي تدرأ عني الموت الذي كان يتربَّصُ بخطاي المتعثرة في غياهب العتمة المخيفة؛ قصيدة موجعة كتبها جندي في الحرب العالمية الأولى؛ فكيف جاءت على خاطر مصطفى سعيد في قرية منسية من أرض السودان؛ لم يخطر في ذهني؛ أني بعد سنوات سأعود سالماً من الحرب وأشغف في الكتابة؛ لم يخطر حتى في أحلامي مُطلقاً؛ أني سأكتب رواية واشترك فيها بمسابقة تحمل اسمك؛ الروائي الطيب صالح؛ وأفوز بالمركز الأول؛ يااااه ما أروعك يا مصطفى سعيد وأنت تأخذ بيدي؛ وتدعني أصافح كف الطيب صالح؛ لقد أصبحتُ صديقكَ الآن؛ وصار بوسعي أنْ أجلس معكَ؛ ونتبادل الأنخاب وأقرأ على مسامعكَ شذرات من قصائدي التي كتبتها عن الحرب؛ ما أبهجني هذه الساعة؛ برغم جلوسي وحيداً في مهجري البعيد؛ غير أنَّ ابتسامة مصطفى سعيد الغامضة ترفرف حولي؛ وروحك الطيبة تنثرُ الكلمات على رأسي؛ وأنا أسمعُ نبرة صوتكَ الجريح مندهشاً؛ وأنت تقول لي بهمسٍ عجيب: “كنتُ أحسُّ بأنني.. أنني مختلف.. أقصدُ أنني لستُ كبقية من هُم في سِنِّي، لا أتأثر بشيء. لا أبكي، لا أفرح إذا أُثنيّ عليَّ، لا أتألم لما يتألم لهُ الباقون.. كنتُ مثل شيءٍ مكوَّرٍ من المطَّاط، تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز.. كنت بارداً كحقل جليد، لا يوجد في العالم شيء يهزَّني“ فتبهرني كلماتكَ وأنهضُ مثل طفلٍ ضائعٍ لعناقكَ؛ لكنكَ كنت تختفي فجأةً من أمام ناظري مثل شعاع فجر قصير؛ سرعان ما كنتَ تبزغُ من كوّةٍ في أعلى سقف الغرفة؛ تفتح فمكَ بهدوء وأسمعكَ هذه المرَّة مثل قديس يرتِّل الآيات..“
إنني منذ زمان بعيد قررت ألاّ أبالي؛ إنني أريد أنْ أأخذ حقي من الحياة عنوة.
أريدُ أنْ أعطي بسخاء، أريد أنْ يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لابدَّ أنْ تزار، ثمة ثمار يجب أنْ تُقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر؛ سأكتبُ فيها جُملاً واضحةً بخطٍّ جريء.
“ أرنو إلى وجهكَ المثقل بحزن عميق؛ لكنكَ سرعان ما تغيب؛ فأهزُّ رأسي بعنف؛ عسى أفيق من أوهامي؛ وأجد نفسي تحدَّثك؛ يا سيدي؛ كنتُ بشغف لزيارة قبرك المضيء في أم درمان؛ لكنَّ هتاف المسحوقين في الشوارع والحارات شغلني؛ وأخذ خطاي نحوهم؛ كنتُ أتمنى رؤية أصدقائي محمد نجيب ويوسف الحبوب وعثمان تراث وسواهم؛ حتى نتصعلك تحت شمس شباط في الأسواق الشعبية؛ والحانات السريَّة؛ ونجلس في المقاهي مع الثائرين؛ لكنَّ الحلم انصهر مع دماء الأبرياء؛ ترى هل سأراك تجلسُ في الصف الأول ذات مساء مضيء؛ تومئ بيدك لي فرحاً وأنا احتضنُ الجائزة؛ ومعي صديقي علي حسين عبيد الذي قال لي: أما يكفي إنَّنا أصبحنا أصدقاء هذا العبقري والإنسان البسيط. أجل هذا يكفي والله؛ فأنت الذي قلت ذات يوم: نحنُ قومٌ نخافُ الفرح! إذا ضحكنا نستغفر؛ نخشى البهجة