قصة حقيقية عشتها في السودان

قصة حقيقية عشتها في السودان: حميد الرقيمي... اليمن عندما وصلت إلى السودان أول مرة قبل حوالي ثلاثة أعوام من جبهات القتال التي شكّلت شخصيتي بكل مافيها من صلابة وهشاشة، رأيت لحظتها الخرطوم فردوساً هادئاً غير مشوه بالحروب ولغة العنف

قصة حقيقية عشتها في السودان

قصة حقيقية عشتها في السودان:

حميد الرقيمي... اليمن

 

 

 

 

عندما وصلت إلى السودان أول مرة قبل حوالي ثلاثة أعوام من جبهات القتال التي شكّلت شخصيتي بكل مافيها من صلابة وهشاشة، رأيت لحظتها الخرطوم فردوساً هادئاً غير مشوه بالحروب ولغة العنف، كنت قد فقدت الكثير من أصدقائي في الجبهات، ولم يكن يمر أسبوع إلا وأنا أحمل عبراتي من جديد إلى حيث تحتضنهم القبور لنملأ قبوراً أخرى بأجسادٍ تأبى أرواح أصحابها أن تغادرنا، والحق لقد وجدت في الخرطوم ضالة الإنسان الطافح بالغيض والهارب من ملامح الواقع الدامية، استقبلني  في المطار أعزاء على قلبي، وكنت بين الحين والآخر ألتفت إليهم وأقول بصوتٍ متدهج تأملوا السكينة هنا كيف تسير في شوارع هذه المدينة رغم صخب مركباتها، كان هذا القول يخرج من فوهة الحرب التي ظلت على أبواب قلبي مفتوحة بلهيبها وقذائفها، ذات ليلة خرجت من مقهى جلست فيه مع بعض أصدقائي بعد فراق طويل ظلّت الحرب جاثمة بيننا حتى التقينا في قلب الخرطوم، وقفت على أطراف الشارع، لم أكن حينها إلا كقشة تصارعها الرياح دون أن تجد مرساها الهادئ، مرت حينها ذكريات وتفاصيل وأشياء كثيرة أخرجتها من دهاليز الماضي تلك الجلسة الجميلة التي تبادلنا فيها حكايات عدة وسرحنا في سمائها نفتش عن ذواتنا المفقودة، كنت أتأمل المارة وبلادي تراقبني من خلف أعينهم، أردت معانقة كل سوداني يمر من جواري دون أن يقول شيئاً، دون أن يتذمر من مشردٍ أتخذ بلاده المتهالكة بجوعها وفقرها مسكناً ووطناً، مرت بضع دقائق وأنا على هذه الحالة حتى خرجت من أحشاء شرودي لأفرش يدي أمام مركبة حديدة صغيرة ، تستخدم في نقل الركّاب بين شوارع وأحياء الخرطوم وتسمى "ركشة" وقف صاحبها، شابٌ في منتصف العشرينات ، هكذا قدرت عمره من خلال ملامحه، بشرة سمراء داكنة، حليق الذقن، تحتل تقاسيم وجهه بعض الندوب التي تشعر وأنت تتأملها بأن صاحبها خاض معاركاً مع الزمن القاحل حتى صار بهذه الهيئة الصلبة والقوية، كنت أتوقع بأنه شديد المعاملة وصعب المراس، طلبت منه أن يأخذني إلى حيث أسكن، بالكاد فهم طلبي وأنا أحاول توضيحه باللهجة السودانية وكان بين الحين والآخر يمسك على ضحكته حتى تكاد تخرج من عينيه، وربما حينها عرف بأنني مستجد في بلاده، ركبت وبعد دقائق سألني بهدوء عن الحياة في السودان ومتى وصلتها وتفاصيل أخرى دائماً ما يسردها لنا السودانيون بلطفٍ صادق ونقي، أسعدتني هذه اللحظات وقلت في نفسي لابد من أن أتعرف على السودان أكثر عبر نافذة هذا الشاب اللطيف، ناديته بعد أن عرفت اسمه، ياسين أنا يمني ولا شك بأن لليمنيين مكانة خاصة وعظيمة عندكم ، قال نعم ، ليس فقط اليمنيين بل كل الجنسيات ولكنكم أقرب إلينا وهذا ما يميزكم عن البقية ويجعلنا نشعر بالألفة معكم دون حواجز أو مصاعب، وأخذ يشرح لي عن التاجر اليمني الذي كان يعطيه حلوى العيد بطيب خاطر، قلت له: يا عزيزي أنا جئت قبل يومين، في اليمن الحرب أكلت كل شيء ولم أجد بلاداً مفتوحة لنا دون تأشيرة أو فيزة إلا السودان، لا أملك هنا مسكناً ، حتى إنني الآن لا أمتلك قرشاً واحداً أستطيع به دفع أجرتك، وأتمنى أن تعفو عني وتقدر حالتي إذا ممكن.. لقد كنت حينها متزن وأتحدث بجدية مع ياسين، وكان هو ذاهلاً يقود المركبة وعيناه مفتوحتان لا ترمش أو تغمض لحظة، شعرت وكأن كل جوارحه وقفت فجأة أمامي تُخرج من فمي الكلمة تلو الكلمة، والحرف تلو الحرف، رد مواسياً "ولا يهمك" لم يقل بعدها شيئاً سرحنا في صمت، ليس لأنني خيبت ظنه في أجرته التي يخرج ليلاً من أجلها متحملاً أتعاب السهر ومثقلات الحياة اليومية التي تعينه وأسرته على البقاء، لقد شعرت بأنني حينها أتحدث بلسان كل مشرد في هذا العالم، وشعرت به أيضاً كما لو كان هو المسؤول الوحيد عن هذا البؤس الذي تقطر من فمي باكياً وحزيناً، كسرت الصمت بطلبٍ آخر "أنا أشعر بالجوع يا ياسين ، هل تعشيت" قال بإن أمه وزوجنه واخوته ينتظرونه كل ليلة للعشاء، وقال لي بإمكاننا أن نروّح الآن ونتعشى في البيت ، اعتذرت وطلبت منه أن نتعشى في مطعم على حسابه، رد بصوت شعرت به يخترق قلبي عطفاً وصدقاً، لا عليك نأخذ لك سفري من أقرب مطعم، وما هي إلا ثواني ونحن على أبواب المطعم ، أعطاني مبلغاً معيناً، نزلت مسرعاً أخذت عشاء لي وله دون أن يعرف، رجعت إليه قلت له الفلوس لم تكفني أعطاني مبلغاً آخر، ونحن في الطريق تحدثنا كثيراً، كان يبدو على صوته مزيج من السعادة والحزن، سألني عن طبيعة عملي قلت له لا شيء ولكنني مضطر أشتغل هنا حتى أستطيع توفير حاجاتي للبقاء على قيد الحياة، عرض عليّ عرضاً أهتزت له كل جوارحي وهو يقول" هذه الركشة تبعي وحدي، نشتغل فيها معاً، نتداول الصباح والمساء، أيضاً معنا غرفة في البيت تعيش معنا، ولا يهمك أعرفك على شوارع الخرطوم وإذا خائف من السواقة أعلمك رايك شنو؟" كان كل حرف من حروفه  يتوغل في قلبي، يفترش على حدقات عيني، أجدني إنساناً وأجد فيه الإنسانية كلها، وصرت أهم كيف لي أن أصارحه في الحقيقة بعد هذا كله، لم أستطع الرد، أكتفيت بالصمت، لكنه على عكس ذلك، ظل يفرش لي فردوسه الخاص كما لو كنت من رحم أمه وأهل ديرته، سواعده كانت تقف على أبواب حريقي، يخمد الأولى ويحترق بدلاً عني في الأخرى، تحولتُ إلى دمعة كبيرة في قلبه، إلى ندبة نازفة، إلى رعفة مرتعشة في روحه ، وهذا كله بقدر ما أسعدني ، جعلني أتوسل سهولة لحظة المصارحة، قلت في نفسي لقد أقترفت بغباءك يا حميد جرماً إنسانياً كبيراً، لم يتوقف حتى وصلنا ، نزل من على المركبة يسلّم عليّ ويودعني، أعطاني رقمه ونبهني بحرصي على نفسي، قلت له أنا هنا مع شباب يمنيين، قال إذا تحب نروح البيت الآن ما في مشكلة، احتلني الصمت مرة أخرى، عاد إلى مركبته وهو على وشك الرحيل، اقتربت منه وفمي يرتعش، أصابعي على جيبي بالكاد تقبض على ورقة المال، لم أجد أي مخرج، بدأت معه من جديد ، أثني على السودان، وكنت بين الحين والآخر أجلد نفسي بقوة على هذا الموقف، ولم أجدني إلا أنا أقبل رأسه وأطلب منه العفو ، لم يفهمني حينها، ظن بأنني أشكره، أخرجت المال من جيبي ، وقلت له ياسين كنت أمزح معك، سامحني، وليتني لم أقلها، ليتني بقيت على حماقتي الأولى دون أن أراه يبكي ويجعلني على وقع دموعه أهذي بدموعي وصوتي، كان معاتباً غاضباً، شديد القسوة عليّ ، مرت دقائق ثقيلة، تمنيت لو تلتهمني حينها الأرض،  لم أكن أعرف ماذا أفعل وكيف أتصرف،  قلت له هذا حساب مشوارك وهذا حساب العشاء الذي اشتريته لي ولك، قذفني بكل ما أعطيته وهم بالذهاب ، قبضت عليه مرة أخرى وحاولت معه حتى تفهم موقفي وبالكاد قبل بأخذ الفلوس، رحل ياسين وبقيت أنا في الشارع ، لا جالساً ولا قائماً، كنت بعيداً عني، شعرت بنهر النيل يسري في عروقي وقلت هذا موطنك أيها الإنسان، هنا تكمن رحمة البشرية وهنا تنمو عظمة الكرام، مرت الأيام وكنّا على تواصل، نلتقي تارة على مائدة يمنية وتارة أخرى على مائدة سودانية ، ذات يوم وصلني إتصال منه  في وقت متأخر من الليل، قال لي زوجتي في المشفى للولادة، أريد منك مبلغاً بسيطاً وسأرده لك في أقصر وقت، حينها شعرت بسعادة البشرية كلها ترقص على قلبي، لبيته وأعطيته المبلغ، لم أفكر أبداً إن كان صادقاً أو مخادعاً، بقيت على نشوة السعادة حتى جائني بعد إسبوع، رأيت فيه فردوس السعادة، وكأنه في خلقٍ جديد، مبتمساً متأنقاً سعيداً، مركبته تضج بالموسيقى وسعادته بالكاد تحتويها الأرض، قال لي الحمدلله جتني بنت وتمنيت لو كان ولداً حتى إسميه حميد، شكرته وعانقته بصدق وفرحت له من أعماق قلبي، بعدها قال لي بصوت موسيقي عجيب "يمان يا زول يمان" لم يترك لي فرصة للاستسفار حتى قال إسميتها يمان، رأيك شنو يازول؟؟

وما حدث بعدها يفوق الوصف والسرد وكل قول.

لهذا أحب السودان أرضاً وإنساناً