مسامرات زمن حظر التجوال

مسامرات زمن حظر التجوال عثمان احمد حسن الأدهمية في مدينتنا ينتهي اليوم مع صلاة العشاء، ما بعد ذلك سهر حين أعود للبيت في التاسعة تصف أمي عودتي بانها عودة في انصاص الليالي.

مسامرات زمن حظر التجوال

مسامرات زمن حظر التجوال
عثمان احمد حسن

 

 


الأدهمية
في مدينتنا ينتهي اليوم مع صلاة العشاء، ما بعد ذلك سهر
حين أعود للبيت في التاسعة تصف أمي عودتي بانها عودة في انصاص الليالي.
توقيتي البيولوجي الداخلي يعتمد النوم عند العاشرة، في كل الظروف و الملابسات  التي مرت بها حياتي و حتى الآن، أنام عند العاشرة و ليحدث ما يحدث، ليالي الصيف تغريني بوضع مرقدي منتصف الحوش، كانت الإذاعة تحكم ضبط مواقيتها و تملأ الفرجات بين البرامج بمقطوعات موسيقية، خزانة الإذاعة عامرة بمقطوعات جيدة التأليف عبقرية التنفيذ، في صيف إحدى السنوات البعيدة تكررت مقطوعة جميلة، تذاع أكثر من مرة في اليوم الواحد، و تتكرر مرات في الليلة، استمع اليها في نشوة، لكن لم أعرف لها إسما و لا أعرف مؤلفها.
وأنا في الخرطوم، أتصيد الأفلام الجيدة في دور العرض السينمائي، والحفلات الجماهيرية و الخاصة و قد كانت مفتوحة للعابرين و السابلة، و مناشط المراكز الثقافية، الأمريكي و البريطاني و الفرنسي، ساقتني قدماي لدار فرقة الخرطوم جنوب للموسيقى، دخلت و كانت هناك فرقة موسيقية تتدرب برفقة مغني، جلست أستمع، العازفون و الفنان يوقفون العزف لمراجعة لزمة أو صولو يؤديه أحد العازفين، فجأة نشب خلاف لا أدري سببه و توقف العزف ووقف بعض العازفين تتطاير الجمل من أفواههم، وقفت استطلع مايجري، عازف العود أخذ يعزف، أقشعر بدني ولم تقو قدماي على حملي، جلست فاغرا فاهي، بلا مقدمات جلس كل العازفين و وواصلوا العزف، عازف العود كان منتشيا  وأدى أداءا مدهشا بصولات وترية غاية في الإمتاع، كانت مقطوعتي الأثيرة التي أجهل اسمها واسم مؤلفها مع نهاية المقطوعة تقدمت نحو عازف العود، شددت على يديه فبحلق في وجهي مستغربا، سألته عن المقطوعة، قال إسمها الأدهمية، ولما سألته عن مؤلفها أجابني أدهم، أجاب تساؤلي بلغز.
بعد سنوات التحقت موظفا ببنك التضامن، عملت بفرع السجانة.
خرجت من بعد نهاية الدوام متوجها لسكني القريب، فاذا بي أجد مجموعة أشخاص يتحلقون حول شيخ يعزف العود بمهارة فائقة، وقفت استمع نشوانا، عزف مجموعة من موسيقى اغنيات مسموعة، لا أدري كيف ولكن دون إرادتي نطق لساني بكامة واحدة: الأدهمية، الجميع بحلقوا في وجهي فقد كنت غريبا وكان فارق السن بيننا كبيرا، يبدوا انهم أصدقاء، العازف تطلع لوجهي مليا، أعاد ضبط أوتار العود وصمت برهة فخيم صمت رهيب على الجميع، ثم عبثت الريشة و الأصابع على الأوتار، يا الهي، تهاويت جلوسا، الأدهمية يعزفها الرجل بحذق و دربة و دراية بأسرار اوتار العود، هذه الآلة الساحرة،  بعد انتهاء العزف انفض السامر و جلست وحيدا قبالة الرجل، عرفني بنفسه، خليل أحمد.
انتفضت كالملدوغ، خليل أحمد الملحن المهول، قدم وردي للفن السوداني باغنيتين لا تزالا من أجمل ما غنى وردي بصوته الآسر
 ياطير ياطاير من بعديد فوق الغمام
و رديفتها
 يا سلام منك أنا آه يا سلام
 خليل أحمد يشغل استوديو للتصوير الفوتوغرافي ملاصق للبنك حيث أعمل، أجلس بجواره وهو يعرف حتى الثامنة يأتيه أحد أقاربه بسيارة و يذهبا. خليل أحمد فتح لي نافذة الموسيقار أدهم بمعلومات شحيحة.
في فترة الديمقراطية الثالثة عملت بالصحافة كهواية، ذلك قادني للإقتراب من الأب فليب عباس غبوش، التقيه في ردهات الجمعية التأسيسية نتبادل الأحاديث و التعليقات، دعاني يوما لبيته بحي البوستة أم درمان، ذهبت مبكرا وفي ذهني مجموعة أسئلة تنتظر الإجابة.
وقفت  وقبل أن أطرق الباب تناهى لسمعي صوت الكمان، شخص ما يعزف قريبا من الباب، فتح الباب الأب فليب، عرفت أنه وحيد و قد خرجت ربة الدار تجلب مؤونة البيت، نسيت ما جئت من أجله و سألته من كان يعزف، سألني عن علاقتي بالموسيقى أجبته أني مستمع ولا أعرف كيف أمسك أيا من الآلات الموسيقية، دخل غرفته و عاد يحمل الكمان، حياني بثلاث مقطوعات من تأليفه، غاية الروعة و الإتقان، تحدثنا عن الموسيقى و دورها في ترقية الذوق و التفاهم بين الأفراد و المجموعات، استحضرت ما ذكره لي خليل أحمد فسألته عن الموسيقار أدهم، الأب فليب تركني و دخل غرفته، غير ما كان يلبس و تعطر بدأ حديثه قائلآ هذا رجل عظيم نتحدث عنه بما يليق بمقامه.
تطرق للدكتور أدهم و تحدث عنه بإعزاز و تبجيل، قلت جيلنا لا يعرف عنه الكثير، بحلق في وجهي و قال لي جملة لا زال صداها يرن في أذني و قد شكلت مدخلا لفهم و تعامل مغاير مع الأحداث، قال: لأنكم لا تعرفون أنفسكم فلن تعرفوا أمثاله.
أمسك الكمان و ضبط أوتاره و عزف معزوفتين مع مقدمة عن كل واحدة و مناسبتها، ثم جاء الدور على الأدهمية، المقطوعة الموسيقية التي لا أستطيع سماعها وأنا أقف على قدمي، استعدتها مرات و مرات وكان يستجيب لطلبي في كل مرة، مع أذان الظهر تطلعت لوجهه، وجدته دامعا يغسل أحزانه.
في  العام 1992م كنت أسير بين بيوت الحارة الأولى بمدينة الثورة، جاءني صوت الكمان الطاغي يعزف مقطوعة، إقتربت من الباب فوجدته موارباً، فتحته و دخلت، وجدت شيخاً مكتمل الهندام بادي الأناقة يجلس وحيدا يعزف الكمان، تطلع لوجهي و هو مستمر في العزف، لما انتهى كنت ساهما و كأنما أدرك ما بي، فقد أعاد عزف المقطوعة، و أنا جالس بين يديه، فرغ منها و نظر في وجهي، أدرك ما يعتمل في صدري، قال أنا بدر التهامي عازف باوركيسترا الإذاعة، هذه مقطوعة الأدهمية للدكتور أدهم، شكرته و خرجت.
الأدهمية دنيا من الشجن الشفيف تمشيه فتخفف الأحزان و تغسل الران و الأدران.
رحم الله الدكتور الموسيقار أدهم.