هرج إعلاني
هرج إعلاني لمياء شمت إعلان قديم لشركة ڤولڤو السويدية من عبارة واحدة مختصرة ومباشرة تقول: (صندوق ربما ولكنه آمن جدا). جملة مفردة هي الدعاية الأكثر رواجا وتأثيرا لشركة ضخمة وعريقة وذات تاريخ حافل، تتوجه خلاصة معارف وخبرات متراكمة، وتقانة متقدمة
هرج إعلاني
لمياء شمت
إعلان قديم لشركة ڤولڤو السويدية من عبارة واحدة مختصرة ومباشرة تقول: (صندوق ربما ولكنه آمن جدا). جملة مفردة هي الدعاية الأكثر رواجا وتأثيرا لشركة ضخمة وعريقة وذات تاريخ حافل، تتوجه خلاصة معارف وخبرات متراكمة، وتقانة متقدمة وإنتاج مواكب ومؤثر في نمط الحياة. لكن كل ذلك الإسهام لم يدوخ الشركة في متاهات التغني وتدبيج القوافي، ومواكب الطبل والزمر والاستعراض المبتذل. ولم يجمح كذلك بإعلانها تجاه التعقيد والتطويل، بل جعل اختيارها يقع على عبارة بسيطة ودودة لا تراوغ ولا تتحذلق.
ولان الشيء بالشيء يذكر، يلوح كذلك شعار شركة نايكي العابر للقارات. وكانت قد صممته حينها طالبة جامعية يافعة في مقتبل حياتها، وتقاضت مقابله مبلغ لا يزيد عن 35 دولارا. ولا زال هو الشعار الأوقع والأشهر عالميا، والذي كثيرا ما تتم الإشارة إليه كأيقونة إبداعية تنم عن ثراء الخيال ونباهة الفكرة. وكانت كارولين دافيدسون قد عكفت على تصميم شعار بسيط وكثيف هو علامة صاح ✅ أو جناح آلهة النصر، ومن ثم حولته إلى رمز مشبع بدلالات وظلال معنوية ترتبط بالنجاح والسداد والتميز، والطاقة الإيجابية. وهكذا فإن كلا النموذجين سواء إعلان الڤولڤو أو شعار نايكي قد اختصرا بتمهر آلاف الكلمات والعبارات ليصبح إعلانهما بمثابة مزج مثالي لمقادير العلم والإبداع والتقانة والابتكار.
أما إذا عدنا لتقفي تاريخ الإعلان فسنجد انه قد ولد بأسنانه كنتاج مباشر للمدنية والثورة الصناعية. حيث انطلق من بداءات المناداة والترغيب الذي يسخر السجع والتقفية والإطناب اللغوي لترويج بضاعته. وقد تطور وتمدد وتوسع مع استفحال المدنية واستشراء نمط الحياة الاستهلاكي متواتر الإيقاع، مع رافقه من احتدام التنافس بين الشركات عبر العالم لترويج سلعها وخلق أسواق جديدة لها. وبذا فقد تطور الإعلان بدوره مستعينا بجديد العلم والتقانة ليواكب المجتمع ويكتسب قدرات إضافية ومتجددة على مخاطبة حواس الجمهور والعمل على استمالته، الأمر الذي ساهم أحيانا كثيرة في التطويح بالدعاية خارج الحدود المرعية، وحولها إلى محض مبارزات تنافسية تستهدف الجمهور بالبدع والصعقات والمفاجآت الترويجية بكل ما يصاحبها من ضغوط نفسية ومعنوية تعمل بمكر على ترويض الجمهور وتطويقه، ومحاصرة وعيه بسيل كاسح من الرسائل الإعلانية المربكة والمزعجة بل والجامحة أحيانا.
وقد تطور الإعلان لاحقا ليصبح ضمن العلوم التي تدرس في الجامعات والمعاهد العليا كتخصص أكاديمي يتطلب بكارة الفكرة وعافية الخيال، والقدرة على الابتكار والتفكير الإبداعي الذي يعرف كيف يسخر نواتج العلم والتقانة والمعارف المختلفة لأقصى ممكناتها.
وهكذا فقد احتلت الدعاية موقعها المتقدم عبر العالم كتخصص تحشد له زمر الانتلجنسيا، ويرفد بالجهود البحثية الجبارة، مع الإحاطة المتضلعة بالعلوم التقنية والإنسانية، ومهارات التصميم والتحليل والاستقراء، كعمل الاستبيانات والاستطلاعات، وتحليلها من ثم للاستفادة من مؤشراتها لتطوير خدمات تتمتع بالكفاءة والجودة والمواكبة، بما يشمل عوامل الجذب والمزايا التنافسية في العرض والسعر وتوفير خدمات ما بعد البيع.
بالإضافة إلى مركزية علم النفس والدراسات السلوكية والديموغرافية، والإلمام بالملامح الثقافية والعادات والتقاليد والأنماط الحياتية والمعيشية للمستهلكين المحتملين للسلعة التي يراد الترويج لها. فالإعلان قد ظل يعرف نفسه كنشاط علمي إبداعي متخصص، وذو تأثير نفسي وعاطفي يخاطب العقل والحس ومجمل الحواس، وليس بحال مجرد تطبيل وتهريج وصخب خارج عن السيطرة، تزفه الأشعار الركيكة والألحان الباهتة التي تبدو وكأنها تتبارى في الخفة والتهافت بل والسوقية أحيانا لإفراغ العقول قبل الجيوب. فالمراقب للحال قد يلحظ دون مشقة حالة المشهد الإعلاني وما يسود معظمه من نتاج سطحي وفوضوي يبدو في صمم تام عن خبرات وتقنيات الإعلان وفنونه وتأثيراته. ودوننا بعض الإعلانات اليومية الفطيرة التي أعدمتها الحيلة فظلت تتخبط بلا طائل بين الإنشاد والتغني والصخب المؤذي، وبسيناريوهات رديئة وفجة ومقلدة في أغلب الأحيان، لا تستكنف التجني على المتابع بإعلان يزعق ويتخبل ويدور حول نفسه دون أن يقول شيئا بالضرورة.
ولعل تلك الفوضى غير الخلاقة هي ما حدا بكثير من الدول العكوف على صياغة واستصدار تشريعات ضابطة للسلوك الإعلاني. فالدول الاسكندنافية على سبيل المثال معروفة بصرامتها القانونية في وجه صناعة الإعلان، ذلك أنه يستهدف فئات مجتمعية مختلفة. وذلك لحماية المواطن من حملات الضغط النفسي والابتزاز العاطفي والمكر الإعلاني وما قد يرافقه من مبالغة وخداع وتضليل وإفساد للذوق العام. وهكذا فقد حظرت الإعلانات التي تمس الأخلاق أو المعتقد أو الإرث والحضاري والثقافي، والعادات المرعية والقيم الديمقراطية، كحماية حادبة وأمينة من الدولة للمجتمع من أحابيل الدعاية وحيلها ومراوغاتها وأهدافها المضمرو التي قد لا تراعي أبعد من الاندفاعات التنافسية، وتوخي الفائدة وجني المزيد من الأرباح.