في مُواجهةِ العاصفة: الفنُّ العظيمُ بين الأَسْلَبةِ والاسْتِلاب
في مُواجهةِ العاصفة: الفنُّ العظيمُ بين الأَسْلَبةِ والاسْتِلاب محمَّد خلف... لندن ممَّا يُفرِحُ القلبَ ويُثلِجُ الصَّدرَ أنَّ الفنَّانَ العظيم، مثلُ أيِّ إنسانٍ كبيرِ النَّفْسِ، لا ينحني أمام العاصفة، بل يُجابهُها رأسيَّاً، وفقاً لأُسلوبَيْنِ شهيرَيْنِ
في مُواجهةِ العاصفة: الفنُّ العظيمُ بين الأَسْلَبةِ والاسْتِلاب
محمَّد خلف... لندن
ممَّا يُفرِحُ القلبَ ويُثلِجُ الصَّدرَ أنَّ الفنَّانَ العظيم، مثلُ أيِّ إنسانٍ كبيرِ النَّفْسِ، لا ينحني أمام العاصفة، بل يُجابهُها رأسيَّاً، وفقاً لأُسلوبَيْنِ شهيرَيْنِ؛ أسمَينا أحدَهُما "أُسلوب الاستلاب"، بينما أطلقنا على الآخَر "أُسلوب الأَسْلَبة"؛ وكلا الأُسلوبَينِ يَحتاجانِ إلى شرحٍ قبل المُضي قدُماً في تبيينِ الوِجهةِ التَّحليليَّةِ لهذا المقال. على أنَّه يُلاحَظُ في البَدءِ أنَّ اللَّفظَيْنِ الواقعَيْنِ في موقع المُضاف إليه (الاستلاب والأَسلَبة) يَشتركانِ مع المُضاف (أسلوب) في حُرُوف الدَّال، وهيَ مادَّةُ [س ل ب]، ويَنفصلانِ عن بعضهما البعض في الدَّلالة، إذْ إنَّ لكلٍّ منهما معنًى مُتميِّزاً عن الآخَر، حسبما سيَرِدُ تفصيلُه في الفقرةِ التَّالية.
وَرَدَ مفهومُ الاستلاب، وأحياناً يُترجمُ إلى مفردة الاغتراب، أوَّل مرَّةٍ أو انتَبهَ إليه المُهتمُّونَ لأوَّلِ وهلةٍ، في "المَخطُوطة الاقتصاديَّة الفلسفيَّة لعام ١٨٤٤"، الَّتي اختطَّها كارل ماركس أثناء حداثةِ سنِّهِ الفكريَّة، وهيَ (أي "المَخطُوطة") لا زالت تَجذبُ إليها عدداً من المُتشوِّقينَ إلى هيمنةِ النَّزعةِ الإنسانيَّةِ في مجالَيِ الفكرِ والأدب. ويُشيرُ مفهومُ الاستلاب في "المَخطُوطة" إلى تباعُدِ المُنتَجِ الإنسانيِّ عن مُنتِجِه وتحوُّلِهِ إلى جِسمٍ مُعادٍ لمُبدِعِه، مثل عمل الأجيرِ الَّذي يُنمِّي ثراءَ المُنتفِعينَ به بقدرما يُضاعِفُ شَقاءَ صانعه، أو إبداعَ الفنَّانِ الَّذي يَذهبُ هَدَرَاً إلى الصَّالوناتِ الباذِخة، بينما يَتضوَّرُ صاحبُه جوعاً في الطُّرُقاتِ الباردة.
في المُقابل، يأتي مفهومُ الأَسْلَبةِ من الأُسلُوب، الَّذي يُقابَلُ عادةً مع الأُسلُوبيَّة؛ فبينما يكون الأُسلوبُ عملاً فرديَّاً يُميِّزُ صاحبَه عن سِواه، نجدُ أنَّ الأُسلُوبيَّة سِمةٌ جماعيَّة، يتَّفقُ فيها النَّاسُ في عصرٍ بعينِه، أو ضمن مدرسةٍ بعينها، تصريحاً أو ضمناً، على تَبنِّي أُسلوبٍ بعينِه، ولو كان صاحبُه، في الأصلِ، فرداً بعينِه. إلَّا أنَّ ما نُريدُ تبنِّيهِ إجرائياً في هذا المقال، وندعو القارئَ إلى قَبُوله مُؤقَّتاً لأغراضِ التَّفاكُر بشأنِ مفهومَي الأَسلَبة والاستلاب، يختلفُ كثيراً عن التَّفسير العامِّ المقبُولِ بشأنهما. وسنُوضِّحُ أوجُهَ هذا الاختلاف في الفقرةِ التَّالية.
نُشيرُ بكلمةِ الاستلاب إلى كشف الخطر المُحدِق بالإنسان وتعريتِهِ أمامهُ تماماً، بنزعِ القُدرةِ على تجاهُلِه أو تناسيه؛ لا لإثارةِ الرُّعب أو نشر ثقافةِ الخَوَر، وإنَّما لفتلِ السَّواعد وتكشيرِ الأنياب لمُواجهتِه بكلِّ الجسارةِ النَّابضةِ في القلب، وبكلِّ الطَّاقةِ المُودَعةِ في الرُّوح؛ فبينما يَكتسي مفهومُ الاستلاب في الاستخدام الدَّارجِ بُعداً سلبيَّاً، باعتباره حالةً أو وضعيَّةً لا مناصَ من حُدُوثها أو لا قِبَلَ للمرءِ بها، نجِدُ أنَّ لفظةَ الاستلاب في الاستخدام الَّذي ندعو إلى تداوُلهِ - أو على الأقلِّ قَبُوله لأغراضِ متابعةِ هذا المقال - يَكتسبُ نزعةً إيجابيَّة، إذْ إنَّه يُحرِّضُ على نزعِ عناصرِ التَّخويفِ بإظهارِ أبرزِ ملامحِها، لا بإخفاءِ أيٍّ منها، مهما صغُرَ حجمُه أو قلَّ شأنُه.
كما نُشيرُ بكلمةِ الأَسلَبة إلى استخدام الأُسلُوب الفرديِّ المُتميِّزِ كأداةٍ لإزالةِ ذاتِ الخطرِ المُحدِق بالبشر، بتحييدِهِ وتجريدهِ وشَلِّ طاقتهِ المدمِّرة عن طريقِ تفهُّمِه وإعادةِ صياغتهِ وإلباسِهِ أزياءً تمويهيٍّة صُنِعتْ من نفْسِ المادَّة الَّتي صِيغ بها في الأصلِ ذاتُ الأُسلُوبِ المُتميِّز. بهذا المعنى، لا يُصبِحُ الأُسلُوبُ أداةً مُميِّزةً للمُبدِع فقط، وإنَّما أيضاً وسيلةً لحمايته، بدرءِ الأخطارِ القائمة في الطَّبيعة أو من صُنْعِ البشرِ أنفسِهم، والَّتي عادَةً ما يَتضاعفُ أثرُها بالانكسارِ والخُنُوعِ والقَبُولِ بالأمرِ الواقعِ وكأنَّه قَدَرٌ محتوم لا مَهربَ منه إلَّا إليه.
في لَوحتِه "مَنظرُ توليدو" أو بالأحرى "ريحٌ هوجاءُ في طُليطلة"، يَرسمُ الفنَّانُ الإسبانيُّ ذو الأصلِ الإغريقي، إل غريكو "الكريتي"، ريحاً صَرْصَراً عاتيَةً تُحيطُ بالمدينة الَّتي تقعُ في وسط إسبانيا إحاطةَ السُّوارِ بالمِعصم أو تَجثُمُ عليها كما يَجثُمُ المُهتصِرُ بفريستِه؛ ولا شيءَ في المدينةِ يُصبِحُ بمنأًى عن هذا الخطرِ الدَّاهم: فالقلعةُ على يسارِ اللَّوحةِ في متناولِه، والسُّورُ لا يقفُ حائلاً أمام الرُّعبِ القادم من السَّماء؛ أمَّا الكاتدرائيَّة والمباني المرتفعةُ في قمَّةِ هضبة لامانتشا (الَّتي تُذكِّرُ برواية "دون كيشوت")، فقد أصبحتْ على قابِ قوسيْنِ أو أدني من الهلاكِ المُرتقَب، ولا أحدَ يَظلُّ بمَنجًى منهُ إلَّا حِفنةً من النَّاسِ اعتصموا بمياهِ مَجرًى تحت جسرٍ لا يُمكِنُ تبيُّنُه بوُضُوحٍ أو رؤيتُهُ بدونِ عونٍ من مُتصفِّحٍ إلكتروني. بهذا النَّهجِ المُتعمَّد، يَتكلَّفُ إل غريكو أُسلُوباً يضَعُنا وجهاً لوجهٍ أمام الكارثة، وكأنَّه يَهتدي بذلك إلى مُعالجةِ البردِ القارسِ بالتَّعرُّضِ لمزيدٍ من الزَّمهرير، وبطردِ الخوفِ بالتَّعرُّضِ لمزيدٍ من التَّخويف!
تلك الخاصِّيَّةُ أو ذلك الأُسلُوبُ المُتعمَّدُ الَّذي يَسلُبُ الجذوةَ عنوةً من لهيبِ الجمرةِ، هو ما أسميناه بأُسلُوبِ الاستلاب؛ وهو ذاتُ الأُسلُوب الَّذي دفع نيكوس كازنتزاكس إلى تقبُّلِهِ وتبنِّيهِ صراحةً، بتوجيهِ "تقريرِه" (أي سِيرتِه الذَّاتيَّةِ الأدبيَّةِ المنحى) إلى غريكو، بتوسُّلٍ ظاهِرُه الانتماءُ المشترَكُ إلى طينةٍ من كريت، وباطنُه اعتبارُ هذا التُّرابِ الدَّامي ضريبةً للوطن ضدَّ الاستبدادِ العُثماني، وكلِّ عَسَفٍ محلِّيٍّ يقفُ عائقاً أمام التَّسلُّقِ إلى أعلى قممِ التَّوقِ الإنسانيِّ الرَّفيع. ليس هذا فقط وإنَّما هو أيضاً تِرياقٌ ضدَّ عَسَفِ الواقع وتحويلِه روائيَّاً إلى مَلحمةٍ خالدة؛ فالصَّداقةُ القائمةُ بين كزنتزاكس والشَّخصِ الفعليِّ، المُتشرِّد جيورجيس زُوربا، يُحوِّلها الكاتبُ إلى شخصيَّةٍ روائيَّةٍ باسم أليكسيس "زُوربا الإغريقي"، فتُجابِه المستحيلَ، وتحتفي بالقسوةِ البارزةِ الأنيابِ، وتَرقصُ رقصاً رائعاً أمامَ أفدحِ كوارثِ كسبِ العيشِ اليومي.
إذا كان تصويرُ إل غريكو يَدعونا إلى مُجابهةِ العاصفة دون تردُّدٍ أو خَوَر، فإنَّ رُسُوماتِ فينسينت فان غوخ تَختزنُها، وتُحوِّلُها إلى طاقةٍ إبداعيَّةٍ يَتكشَّفُ قَدْرٌ منها في عددٍ من أعمالِه المُتميِّزة، مثل "ليلةٍ مُرصَّعة بالنُّجوم"، و"حقلِ قمحٍ به غِربان"، و"شُرفةِ مقهًى في اللَّيل"، وحتَّى في عددٍ من صُوَرِه الذَّاتيَّة، وإلى حدٍّ ما في لوحتِه الأشهرِ "زهرةِ الشَّمس" أو "عبَّادِها". وسرُّ هذا الاختزانِ يَتجلَّى في انتقالِه من التَّنقيطيَّةِ ("بوانتاليزم") إلى ما يُمكِنُ تسميتُهُ بالانحنائيَّة؛ وهو في ذلك يُشبِهُ كازانتزاكس الَّذي أخذ يَنتقلُ من الثَّباتِ إلى الحركة، بعد تلقِّيهِ دُرُوساً فلسفيَّةً على يدِ هنري بيرجسون في باريس؛ وكلاهما يُمثِّلانِ الانتقالَ من الجُسيمِ إلى الموجة؛ ومن الثَّباتِ إلى الحركة؛ أو من الزَّمنِ الخطِّيِّ النِّيوتونيِّ إلى الانحناء الزَّمكانيِّ الآينيشتايني.
بشكلٍ تلقائيٍّ، اِقتفى شعبُنا في ثورتِه الخالدةِ ذاتَ الأثر واتَّبعَ ذاتَ المَسار، بالانتقالِ من الخُضُوعِ والانكسار إلى مُقاوَمةِ الظُّلمِ ومُجابهتِه؛ فلمْ ينحنِ للعاصفة أو ترتعدْ أوصالُه لمرأى السُّحُبِ الدَّاكنة، بل قاد الخُطى إلى أُتُونِ الإعصار، ولم تُخِفْه ضراوتُه أو تَتضعضعْ عزيمتُه أمام عصفِه واهتياجِه. وفي استراحاتِ المحارب الَّتي تَخلَّلتِ الصِّراع، ظلَّ شعبُنا يُجلِّلُ السَّاحةَ بالأغاني ويُطرِبُها بالجلالاتِ الصَّادِحة؛ كما زيَّنَ الحِيطانَ بالجداريَّاتِ الباذِخة، والشَّوارعَ بالشِّعاراتِ وإشاراتِ المُرُورِ المُؤدِّيَةِ مباشرةً إلى أرواحِ الشُّهداءِ وقلوبِ الملايينِ الهادِرَة، القابضينَ طولَ الوقتِ على الجمرِ في ساحةِ الاعتصام، ومايزالون - كما تُشيرُ عِدَّةُ دلائلَ - على العهدِ حافِظِون؛ وفي انتظارِ أوَّلِ إشارةٍ، إذا ما تَلَبَّدتِ السَّماءُ بالغُيُومِ ولاحَتْ في الأُفقِ نُذُرُ العاصفة.