حفنة بذور

حفنة بذور لمياء شمت احتياطي عظيم من المحبة والإيثار، وطاقة جبارة على التجرد والعطاء، ترفدها إنسانية واسعة رؤوم، وطوية

حفنة بذور

حفنة بذور  
                                           لمياء شمت

    

 


احتياطي عظيم من المحبة والإيثار، وطاقة جبارة على التجرد والعطاء، ترفدها إنسانية واسعة رؤوم، وطوية نقية وهابة. ذلكم هو محجوب شريف الذي عرفه الناس بالتزامه الراكز وحسه الفائض المدرار. اعتادوا جوانيته السمحة الخيرة التي تنعكس على محياه الأليف الودود، وسجية تواصله العفوي الحفي، وفطنته الوقادة، ووقاره النبيل، وهو يزجي المحبة ويجزل الود، يعطي ويؤثر ولا يستأثر، صيباً سخياً من فيض روحه الوهاجة، مسرفة الوسامة.

 

 

 

تستحضره الأذهان في قلب المشهد المضطرب، وهو ينافح بيقينه المتماسك، وبقدرته الهائلة على الاستيعاب والتفاعل. وتتذكره وهو يتوهج بحضوره في تلك اللقاءات النادرة التي ظل يسرجها بالطيبة والعذوبة، والدفء وبهار الأنس. والجموع تحفه مستزيدة من فيضه الشعري، وسروده السمعية. فتنصاع الأسماع لنبرته الصافية العميقة، وصوته المتروي الروي، المتزن الإيقاع. يتحدث فتتدافع عباراته طرية عفوية، بظلال رخية من الود الصافي. في موجات اتصال دافئة، ومد ساجٍ من الحميمية الإنسانية، التي يتآخى بها مع كل من وما حوله، ليتجلى بكل ذلك الفرق الهائل بين جلال الحضور وشهوات الظهور، بين التهوس بالأضواء، والمهابة الساطعة من عمق الأصالة والبساطة والصدق.

تدفقت برحيله الجموع وهي تكابد طعم الفقد واليتم، وقد ارتسمت على الوجوه بلاغة أن "تغوص الدموع بعمق المصاب إلى المنبع". فتغص الشوارع بالمواكب، تترى وكأنها قد طلعت هادرة من أحناء شعريته الوارفة، وثنايا قصيده الدفاق. وهو يتطوف بالأزقة العتيقة، والبيوت الصابرة يتفقد أهلها، ويتفرس حالهم، لينشك في لحم الواقع الحي الملتهب بالحاجة والاضطرار. ملتقطاً أدق الخطرات، ومتوغلاً في صميم كدحهم اليومي، وطقس رهقهم المعاد. وهو يحايث وقائع عيش التعب، ويحازي التدبير العجائبي لمعيشة اليوم بيوم، ليتفصد شعره بعرق كدحهم المر، وينضح بأسئلتهم الملحة، وأحلامهم المهشومة.

 

 

يستحضر بوجد عظيم وحزن خاشع فلذات الوطن في خريطة الوجع القومي العريض. يستنطق أوجاعهم ويكتب بذاكرتهم فيعمق ملامحهم. يبكي الأعمار الخضراء التي تذروها رياح الحروب. ويواسي أولئك المبعثرين بين أوجاع المنافي، ومدافعة داء الغربة القتال. ويمد حسه ليتفقد أبناء وبنات الحياة المنكودين، المطوقين بالبؤس في أكواخ الكرتون والزنك، وعشش الأسمال، والمدن المتجبرة تلفظهم إلى أطرافها، وتداورهم كهامش، فتخفض ذواتهم الإنسانية إلى محض أرقام زائدة، وموجودات طارئة. ويضيق بهم السلطوي الذي لا يكتفي بأن يزدريهم ويغمط حقوقهم، بل ويسطرهم بحبره السري في قوائم من أُسقطت عنهم جدارة الحياة.

يخفّ محجوب إلى إنسانها المجبول من طينة البؤس والأسى والاصطبار الفاحش المحتقن، فيستصرخ الضمائر لأجل طفولة تسرق الفاقة ملامحها، وينضجها أوار المكابدة والشقاء قبل أوانها. ويمضي ليوثق ارتحالهم في رمضاء الشقاء، بلقطات حية مقربة، مكتوبة من داخل أتون المشقة. محتفياً في ذات الوقت بتشبثهم الجاسر بحقهم في الحياة، كالعشب وهو يجدد نفسه في دورة حياة عنيدة، رغم وطأة القحط. يرسمهم محجوب كما يراهم في طوايا الفقر الشفيف، خفافاً ضحاكون، أنيقون ما استطاعوا، ومنحازون للحياة.

وهكذا فإن صنيع محجوب شريف اليومي يوفر على الراصد مشقة تفحص موقفه الفكري، وإرثه الفلسفي ورصيده النضالي، فمنجزه الإبداعي رافد من روافد مشروعه الإنساني النهضوي الكبير، المتخلق من خامة اليومي، في كامل أفقه الذي يمتد من رغيف العيش إلى جراح الوطن المنكوب. هكذا تنهمر حزم الدلالات، وتنهض الركائز التعبيرية، وتتمدد بيادره العفية سخية الغلة في موسوعة وجدانية للإنساني العريض، في أفق كينونته الكبرى، إنتاجاً للمعنى، واغترافاً من ضفاف اليومي. وسيرة للمكان والكائن، الذي ظل يعكف على رسم ملامحه وأيقنة ذكرياته.

 

 

 

 

 فترتفع بذلك جدارياته العامية كخيار تعبيري جمالي لا يُستنفد وسعه الدلالي. وككشف وجودي مكتوب بأوردة الحبر والدم، بمفردته المصعدة من سجل اليومي. وإفاضات قاموسه المتجدد الطليق، ودمغته المتجاوزة وديباجته الأصيلة. حيث يتفجر قصيده هادراً محتدماً حيناً، أو ينبسط طيعاً أليفاً، صاعداً في مداه الدلالي. متفصحاً بعامية باهرة نافذة، تتشكل دلالتها في الوعي والوجدان، فتتلقفها القرائح وتكنزها الأرواح.

هكذا يكون نهجه الحياتي هو امتداد طبيعي لعطائه الإبداعي، الذي يترجمه إلى منظومة أفكار وأعمال، إعلاء لشأن الفرد وكرامته الإنسانية، وجهراً بصوته المصادر. تتوافق وتتطابق اشتغالاته الإبداعية مع انشغالاته الإجتماعية الإنسانية، والتزاماته الفكرية والأخلاقية، حيث يشكل الوعي والرسوخ على المبدأ، وعقيدة المحبة والعطاء جوهر نظامه الداخلي.

وذلك تحديداً ما يملك أن يفسر مفردات مشروعه الذي يبدأ من المستوى الجمالي الرمزي، بمراس تنويري دؤوب، لكنه لا ينتهي بأحلام ومتكآت طوباوية، بل يتجسد رؤى ومبادرات تمتد من أفق الإبداعي إلى تضاريس الاجتماعي والحياتي، بأبعاد تنويرية توعوية وتربوية تعليمية، وتكافلية طوعية.

يقارع القبح والزيف والتجريف القيمي، وتجفيف الحياة. ويناهض التسطيح والرخاوة والخدر وحيادية الفرجة. ويكدح رغم النكالات والروادع، والمرض ووهن الجسد ليرتق الفتوق، ويرمم الشروخ، ويردم الصدوع ما استطاع. وليفتح فوهة "الممكن" المسدودة بوحل التجهيل والتثبيط. يجمع إليه الأيدي القادرة ليزيح الركام، فترتفع المداميك، وتنفتح أقواس الإمكان، وتبقى منصوبة مشرعة.

 فينشعب المكسور، فتنهض ساق وتتبرعم ورقة خضراء طرية وراء كل ورقة تذوي .ليظل يراهن على الإنسان وطاقاته الخيرة، ويملأ جوانحه بالعشم الكبير ليسقى ذلك "الحقل الكامن في حفنة بذور" .وهو يرجو أن يتضاعف لحقول إمكان وخلايا عمل يومية، ومنصات ارتكاز معنوي. تفتح الأسئلة، وتبتكر الجهات. وتدفع بدورة إنتاج فاعلة، ترفد الحياتي اليومي بإرادة الفعل الإيجابي، لأجل استفاقة عاتية، ونهوض جبار، وثورة في صميم جوهر الإنسان.

تمثل حياته وثيقة ماثلة للقيمي والروحي في أنصع تمثلاتهما، وللوجود المتجاوز ببينة الصدق والعفة والزهادة، وببرهان السعة والوعي المتجرد. وبشهادة العنفوان النضالي المنضبط الملتزم، الذي توثقه تفاصيل حياة مبذولة للناس، وعامرة بالتجابه الجسور، والرفض الجهير، كموقف أخلاقي صلب، لا تميعه مساومة أو مراوغة. راسخاً في مفترق الدروب الشائكة. ممتشقاً جسارته، وواقفاً على حد شفرة الالتزام، في زمن انحسار القيم وتحلل الضمائر، وترمد الأرواح، ورخاوة المواقف. ليظل منذوراً لقضيته حتى أخر زفرة، حتى أنه لا يكف عن غرس فسائله الخضراء حتى وهو في مواجهة ضراوة المنون. يدخل إلى الكتابة من تحت كمامة الأوكسجين، وكأنه يخرج بها من حشرجات الصدر وضيق الأنفاس، إلى وساع نفح انسجامه مع الناس، مكرساً لهم حياته حتى الردح الأخير.

هكذا يشيد محجوب شريف نموذجه الساطع، وهو رهين محابس الأذى والضيم، والجور وعيش الكفاف. بطاقته المدهشة على الإشراق في صميم الإحن والمحن. وبإلفته مع المرض والعوز، يطوي حشاه على جمر السقم والأوجاع، وهو يتوهج صبراً ومحبة وعطاء.
ذلك هو مرقاه الشاهق الشاق، الذي يعلو في مقابل النموذج المتهرئ للسلطوي، في فصاماته وتناقضاته الأخلاقية، وهشاشته القيمية، وسقطاته الفادحة. حيث الشعاراتية الزائفة، والاحترافات الربحية لسماسرة الكلام وسارقي القوت ليظل أبو مريم ومي مرتفعاً عن حضيض الصفقات والمهادنات. يستعصي قتله رمزياً بالتحييد والتدجين، أو بحيلة تحويل رصيد الجماهيرية الشعبية إلى نفق سري إنتهازي يفضي إلى الحرير النخبوي. لتسطع المفارقة بين من يحصد رهق البسطاء، فيحلب غيمهم، ويخرط سنابلهم، ويتركهم للعدم. وبين من يظل مبذولاً واسع المحبة، راكز الولاء، لا يتبضع مستربحاً بين التحولات والانشقاقات، بعد أن اختار بجماع كيانه أن يكون بيته الدائم الوطيد بين الناس، في عمق الوجدان الشعبي.