فيروس "الجحيم"، وقِناع دانتي، و"تشايناتاوُن" على مرمى حجرٍ من فلورنسا

فيروس "الجحيم"، وقِناع دانتي، و"تشايناتاوُن" على مرمى حجرٍ من فلورنسا محمد خلف الله.. لندن ليس من مرامي هذا المقال الإفتاء بصِحَّة أيٍّ من نظريَّات المؤامرة المنتشرة في وسائل التَّواصل الاجتماعي

فيروس

فيروس "الجحيم"، وقِناع دانتي، و"تشايناتاوُن" على مرمى حجرٍ من فلورنسا

محمد خلف الله.. لندن


 
ليس من مرامي هذا المقال الإفتاء بصِحَّة أيٍّ من نظريَّات المؤامرة المنتشرة في وسائل التَّواصل الاجتماعي بشأنِ "كوفيد ١٩" أو تكذيبها، وإنَّما الإقرارُ بوطأةِ الورطةِ الحالية، التي تقولُ حكوماتُ الدُّولِ المتضرِّرة إنَّها جاءت حصريَّاً بسبب الفيروس التَّاجي ("كرونافايرس")، الذي خرج عن السَّيطرة لسرعةِ انتشاره، والتصاقِة بالأجسامِ الصَّلبة، مع طولِ مدَّةِ فعاليَّته بتلك الأجسام، ممَّا يزيدُ من خطرِ الإصابةِ به. ومن أشدِّ دواعي هذا الإقرار، هو تعزيزُ التَّكاتفِ الدُّوليِّ لدحرِ هذا الوباء؛ وعلى المستوى المحلِّي، العملُ على منعِ وصولِه للبلاد، والاستعدادُ لدحرِه بالتَّعاونِ المدنيِّ المتحضِّر، وتناسي كلِّ الخلافاتِ المؤقَّتةِ النَّاشئةِ حاليَّاً بين الثُّوَّار، ودعمُ جهودِ الحكومةِ الانتقاليَّة في صدِّ الوباء، رغم التَّحفُّظِ على سُلحُفائيَّتِها في تحريكِ الملفَّاتِ الأخرى؛ فالسَّببُ كما تبيَّنَ لكثيرينَ قد ظلَّ كامِناً ومنصَهِراً تماماً في بِنيتِها الثُّنائيَّة.
 
ونقصدُ بالتَّعاونِ المدنيِّ المتحضِّر استشرافَ أُفُقِ الحداثة، باستصحابِ القيمِ الجماعيَّةِ الإيجابيَّة، المتمثِّلةِ في التَّعاضد، ونصرةِ المظلوم، والتَّعلُّمِ من تجاربِ الآخرين، محلِّيَّاً ودوليَّاً؛ ففي فصولِ محوِ الأُمِّيَّة، يُمكِنُ استصحابُ قيمِ الإيثار؛ وفي لجانِ الأحياء، يُمكِنُ المحافظة على قيمةِ الانتصارِ للمظلوم؛ وفي وسائلِ التَّواصلِ الاجتماعي، يُمكِنُ إحياءُ قيمةِ التَّعلُّمِ من تجاربِ الآخرين. ففي نادي السِّينما، على محدوديَّته، قد محونا من قبلُ أُمِّيَّتنا السِّينمائيَّة؛ وفي "الفتيحابِ" و"الصَّافيَّةِ" و"غرفةِ القصَّاص" (إضافةً إلى "غُرَفيَّةِ تجاوز")، قد حذقنا سُبُلَ التَّعاملِ مع النُّصوص، قبيل تعرُّضها للمعالجةِ المسرحيَّةِ أو السِّينمائيَّة؛ ومن أكاذيبِ وسائلِ الإعلامِ الرَّسميَّة، قد تعلَّمنا القراءةَ بالمقلوب وفرزَ "الطُّرَّةِ" المُعيبةِ في "كتابتها"؛ مثلما يفرز شبابُ اليومِ إماراتِ "الفوضى الخلَّاقة" المختلطةِ بأرضِ الواقع، الأغربِ أحياناً من الخيال.
 
يُصوِّر فيلم "روما" (أو "روما فيللِّيني") للمخرج الإيطالي فيديريكو فيللِّيني - الذي تمَّ عرضُه على شاشاتِ السِّينما في المدنِ الثَّلاث في منتصفِ السَّبعينات - العاصمةَ الإيطالية في أزهى عصورِها وأكثرِ أحيائها الشَّعبيَّةِ امتلاءً بالحياة، في مشاهدَ تقطَّرُ رونقاً وعذوبة؛ إلَّا أنَّ المتجوِّلَ في شوارعِها، في الرُّبُعِ الأوَّلِ من القرنِ الحادي والعشرين، يحسُّ بمظاهرِ الفوضى تضرِبُ أطنابَها عند كلِّ تقاطعٍ وعبر كلِّ طريقِ مشاة. وكما يقولُ عالمُ الفيزياءِ الكوانتيَّةِ الإيطالي، كارلو ريفولي، إنَّ الزَّمانَ يمضي في تجاربِنا المشاهدةِ عنه في ترتيبٍ منتظِم، مثلما يصطفُّ الإنجليزُ في انتظارِ بصٍّ أو قطار؛ ولكنَّه يتدافعُ في مستواه الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، كلُّه في نفسِ الوقتِ، مثلما يفعلُ الإيطاليون، عند استخدامِ وسائلِ النَّقلِ العام. فهل هذه الفوضى هي السَّببُ في تضرُّرِ إيطاليا أكثر من باقي الدُّولِ الأوروبيَّة في مواجهةِ الفيروسِ التَّاجي (أو "الكرونا")؟ أم أنَّ الجاليَّةَ الصِّينيَّة التي تُسيطِرُ على الأعمالِ في مدينة براتو، التي تقعُ على مرمى حجرٍ من فلورنسا، هي في واقعِ الأمر الصِّلة التي تربط إقليم توسكانا الإيطالي بمدينة ووهان الواقعة بإقليم هوبي الصِّيني؟ لا نُريدُ إجابةً، بقدرِ ما نُريدُ التَّنبيه إلى خطورةِ اللَّامبالاةِ واطمئنانِ النَّفسِ الزَّائف حِيالَ الكوارث، مع التَّشديد على أهميَّة التَّماسك وضبط النَّفس في مواجهتِها.
 
بالحديثِ عن فلورنسا، دعونا نقبِضُ أطرافَ موضوعٍ يتشابكُ فيه الواقعُ الرِّوائيُّ مع الخيالِ السِّينمائي، ليتداخلَ الاثنانِ معاً مع الواقعِ الفعلي (أو ما يبدو أنَّه كذلك). في عام ٢٠١٣، نشرت دار "بنتام برس" روايةً بعنوان "الجحيم" (إنفيرنو) للكاتب الرِّوائيِّ الأمريكي، دان براون؛ وهي واحدةٌ من خمسٍ (من مجموعٍ كلِّيٍّ وصل حتَّى الآن إلى سبعِ روايات) يظهرُ فيها نفسُ البطل، وهو "روبرت لانغدون"، الذي يعملُ أستاذاً متخصِّصاً في علم الرُّموز ("سيمبولوجيا"؛ وليس علم العلامات، "سيميولوجيا" أو "سيميائيَّة"). وقد استخدمه الكاتبُ في فكِّ شفراتٍ مستعصية، أشهرها "شفرة دافينشي"؛ ومنها أيضاً "ملائكةٌ وشياطين"، و"الرَّمزُ المفقود"، "وأُصول". كما تمَّ إخراجُ ثلاثةٍ منها في شكلِ أفلامٍ عاليةِ الإقبالِ والرَّواج (بلوكبسترز)، من إخراج رون هاوارد، وتمثيل توم هانكس.
 
في رواية "الجحيم" (الذي يُشيرُ إلى الدَّرَكِ الأسفل من معماريَّة "الكوميديا الإلهيَّة" للشَّاعرِ الإيطاليِّ الملحمي، دانتي أليغييري)، تقومُ "الدكتورة إليزابيث سينسكي"، رئيسة منظَّمة الصَّحَّة العالميَّة، بإشراك صديقها الشَّخصي "روبرت لانغدون" في محاولةٍ لحلِّ لغزٍ للوصولِ إلى مكانِ فيروسٍ أخفاه عالِمٌ مختصٌّ في مجال علم الوراثة ("جينيتيكس")، وهو شابٌّ مليارديرُ متهوِّرٌ يؤمِنُ بجانبٍ من نظريَّة توماس مالتوس بشأن تقليص الانفجار السُّكاني عن طريقِ التَّدخُّلِ البشريِّ بالتَّعديلِ الجينيِّ ونشرِ الفيروسات، إنْ تعذَّرَ تسارعُ الكوارثِ بشكلٍ طبيعي. إلَّا أنَّ شركةً أمنيَّةً عالميَّة عهِد إليها المليارديرُ بتدشينِ الفيروس، قد قامت باختطافِ بروفيسور "لانغدون"، وأخضعته إلى عملياتِ إيهامٍ متعمَّدٍ للوصولِ عبره، بمعاونةِ صديقةٍ للملياردير، إلى مكانِ الفيروس، بعد أن قامت جهةٌ تتعاونُ مع منظَّمةِ الصَّحَّة العالميَّة، ولكنَّها تخدِمُ أهدافاً خاصَّة، بمطاردة الملياردير، ومحاصرته داخل برج بالاتسو فيكيو بفلورنسا، ممَّا أدَّى في نهاية الأمر إلى تفضيلِه السُّقوطَ من أعلى البرج، بعد أن استيقنَ من تَركِهِ لصديقتِه ما يكفي من المؤشِّراتِ الفرعيَّة وخارطةِ الطَّريق التي يُمكِنُ أن تقودَها خطوةً على إثرِ أخرىَ إلى مكانِ الفيروس.
 
بعد ارتكابِ عناصرِ الشَّركةِ الأمنيَّةِ لعدَّةِ هفواتٍ قاتلة، ونجاةِ البروفيسور بجلدِه عدَّةِ مرَّات، خشيتِ الشَّركةُ الأمنيَّة من افتضاحِ أمرِها وانهيارِ سمعتها، التي تعتمدُ في الأساسِ على بُعدِها عنِ الأضواءِ وتنفيذِ وصايا عملاء الشَّركةِ بحذافيرِها من غيرِ تساؤلٍ أو تشكيكٍ في دوافعِهمُ الأخلاقيَّة، فاضطرَّت إلى خرقِ بروتوكولها ورفض تنفيذ الوصيَّة، بعد أنِ اكتشفت قبيل أربعٍ وعشرينَ ساعةٍ فقط من تنفيذها، وهي في شكلِ شريط فيديو، أنَّ بثَّ الشَّريطِ سيكونُ متزامِناً مع انفجارِ عُبُوَّةٍ للفيروس ستؤدِّي إلى تقليص الجنس البشري إلى النِّصف. وبعد أن فاقت من هولِ الصَّدمة، تحركتِ الشَّركةُ الأمنيَّةُ بسرعة، متعاونةً في ذلك مع منظَّمة الصَّحة العالميَّة، ممَّا قاد في النِّهاية إلى الكشفِ عن مكانِ الفيروس، وإحباطِ المؤامرة، ونجاةِ الجنسِ البشريِّ من كارثةٍ كانت قابَ قوسينِ أو أدنى من الوقوع. هذا باختصارٍ مخلٍّ ما جاء في الفيلم الذي أخرجته هوليوود في أكتوبر 2016.
 
سيكونُ هناك متَّسعٌ من الوقتِ لفحصِ التَّعديلات التي أجرتها شركة أفلام كولومبيا على الحبكة الرِّوائيَّة حتَّى يتناسبَ الفيلمُ مع ذائقةِ الجمهور الذي يضمن نجاح البلوكبسترز؛ وسيكون هناك متَّسعٌ لمناقشة تبنِّي رئيسة منظَّمة الصَّحَّة العالميَّة طرفاً من إستراتيجيَّة "بيرتراند زوبريسكي" وصديقته "سيينا بروكس" الخاصَّة بالتَّعقيم الجزئي للسُّكَّان؛ وسيكون هناك متَّسع أيضاً لتوضيح دلالة قيادة اِمرأةٍ عالِمة لمنظَّمةٍ دوليَّةٍ تُكافِحُ وباءً يُهدِّدُ العالمَ قاطبة. وعلى مستوى الواقع، سيكون هناك متَّسعٌ من الوقت لإجراءِ التَّحقيقات وغربلة كافَّة نظريَّات التَّامر المنتشرة في وسائل التَّواصل الاجتماعي؛ وسيكون هناك متَّسعٌ لمعرفةِ المزيد عمَّا رَشَحَ بشأنِ "مناعةِ القطيع"؛ كما سيكون هناك متَّسع لتقييم دور دكتور تيدروس أدحنوم غيبريسوس، الإثيوبيِّ الأصل، والرئيسِ الفعليِّ لمنظَّمة الصَّحَّة العالميَّة.
 
وفوق كلِّ ذلك، سيكون هناك متَّسعٌ لزيارة فلورنسا، واعتلاء درجات "الدُّومو" لتأمُّل أرجاء المدينة التي سيطرت على حياتها السِّياسية والثَّقافيَّة عائلة ميديتشي، التي خرج من أعطافها عددٌ من البابوات والأباطرة الأوروبيين؛ وسيكون هناك متَّسعٌ للتَّنزُّهِ في السَّاحات التي كان يتجوُّل في أرجائها بوتيتشيلي وليوناردو دا فينشي ومايكل أنجلو؛ بل من الممكن في معرض أوفيزي مشاهدةُ النُّسخةِ الأصليَّة للوحة "ميلاد فينوس" أو "العائلة المقدَّسة" أو تمثال "داؤد" ("إل دافيد") أو عدداً من النُّسخ المنتشرة من التِّمثال في عددٍ من ساحات المدينة؛ وفي الأمسيات، يُمكِنُ مشاهدة "الدُّومو" نفسه من ميدان مايكل أنجلو الكبير، من فوقِ تلٍّ مرتفعٍ بشرقِ المدينة. كلُّ هذا ممكنٌ ومتاحٌ للجميع، فقط بعد انحسارِ الوباء.
 
إلَّا أنَّ ما هو مطلوبٌ الآنَ هو أقصى درجاتِ التَّماسكِ، والتَّعاضدِ، والتَّكاتفِ، والتَّآلفِ، والإيثار. فالثَّورةُ التي بهرتِ العالمَ بقدرةِ شبابِها على التَّوحيدِ وتناسي الخلافات، هي الآنَ مطالبةٌ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى بإنزالِ هزيمةٍ سَّاحقةٍ بهذا العدو المستتر، الذي لا يُجدي معه سوى الحكمةِ والصَّبرِ والجَلَد، باتِّباعِ إرشاداتِ السُّلطاتِ الصَّحَّيَّة المحلِّيَّة والدَّوليَّة، وضبطِ النَّفسِ عند الشَّدائد، ومحاربة الشَّائعات، وتقديم العونِ للمحتاجين؛ ومن بعدُ، التَّوكُّلُ على الحيِّ القيُّوم الذي لا تأخذُه سِنَةٌ ولا نوم؛ وبمعنًى أبلغ، "اِعقلها وتوكَّل"، أي اِستخدمِ العقلَ أوَّلاً، ومن ثمَّ توكَّل على الله.