رفاعيات 5

رفاعيات 5 أشكال الحوار الثقافي د. نعمات كرم الله تناولنا موضوع حوار الثقافات في مقال سابق، وفي هذه المرة نتحدث عن أشكال الحوار مع الغرب التي تبناها العرب عموما وهل تغيرت، وكيف أن الكاتب علي الرفاعي قدم، من وجهة نظرنا، رؤية مختلفة من خلال شخصية بروفيسور (حسون ود النعمان).

رفاعيات 5

رفاعيات 5

أشكال الحوار الثقافي

د. نعمات كرم الله

 

 

 


تناولنا موضوع حوار الثقافات في مقال سابق، وفي هذه المرة نتحدث عن أشكال الحوار مع الغرب التي تبناها العرب عموما وهل تغيرت، وكيف أن الكاتب علي الرفاعي قدم، من وجهة نظرنا، رؤية مختلفة من خلال شخصية بروفيسور (حسون ود النعمان). ولكي يصل إلى تحقيق أهدافه، عرض الكاتب شكل الحوار الديني التقليدي الأكثر شيوعاً. وذلك من خلال البرلمان الشعبي المصغر (أبناء المنطقة). اخترنا نموذجين للتقديم:
ران الصمت على المكان ردحا قبل أَن یقطعه صوت صبیر:
ــ سأَقول لكم شـیئا تدفنونـه فـي مكـانكم هـذا. فأَنـا حـین نظـرت إلـى الخواجیـة للمَّرة الأُولى ، قلت لنفسي: یاولَد تزوج هذه الكافرة علـى بركـة اللـه." (قبيلة من وراء خط الأفق: ص38).

الَعوام : الخواجات لا یخافون العین؛ لأَنهم لا یؤمنون بها.
لكنَّ ودالباشكاتب لا یتركه إلا بعد أَن یوجه حدیثه إِلى كِّل الحاضِرین:
الخواجات مـْثلهم مثلنـا یؤمنـون بـالعین، وأَكثـر مـا یخـافون عـین مـن ینظـر بمؤخرة عینه.
هنا التقط وداعة خیط الحدیث، الذي لم یكن یحتاج إِلى إدخال في الإبرة:
العین تنشر الخواجات نشر المنشار للخشب؛ لأَنهم لیـسوا مثلنا یتحـصنون منها بالقرآن." (قبيلة من وراء خط الافق: ص19).

 

 

 

 

نلاحظ هنا تجسيداً للحوار الديني المنبعث من مشاعر تتصف بعمق جذورها الاسلامية، واندفاع وجدانها المسلم. إنّ استخدام مفردة (الخواجة) لها دلالاتها السلبية أيضاً. ولا ننسى أنّ هذه الرؤية فد فُدمت على لسان شخوص بسيطين باعتبار أنها رؤية بسيطة، ولا دور للعقل فيها بتقديم حجج قابلة للنقاش.
نموذج النوع الثاني من هذه الأشكال وهو أنّ معرفة ثقافة الآخر ضرورية للحوار معه، وقد أطلعنا عليه الكاتب علي الرفاعي، من الجانب البريطاني، من خلال سلوك الباحثة (جوهانا ريد)، فلنقرأ:
"تابع صائد السمك ود السخي بنظراته، فرآه یعبر القناة على سـاق النخلـة الَّتـي تـصل ضـفتیها برشـاقة، لكنـه لـم یـر وهـو یقـف علـى أَطـراف أَصـابع قدمیـه بـضفة القنـاة الأُخـرى، وهـو ینظـر إلـى الخواجَّیـة  یـا إلَهي!! كیـف ستـستطیع الخواجیـة عبـور قنـاة المـاء بالمـشي علـى سـاق النخلـة الَّتـي تـصل ضـفتَي القنـاة؟ مهمـة تستعـصي حتـى علـى بعـض أَبنـاء قـوزُقرافي الـذین نـشأُوا فـي المـدن یاإلَهي!! هل ستزحف الخواجیة على ساق النخلة؟ كـم سـیكون رائًعـا لـو أَنهـا ترَّنحـت فـي منتـصف سـاق النخلـة وسـقطت فـي طـین القنـاة! وفجـأَةً سـقطت على ود السخي الدهشة فجلس على الأَرض بعجزه  وهو يتابع الخواجیة وهي تمشي على ساق النخلة وتتحَّدث إلى عبید، دون أَن تنظر إلى ساق النخلـة، في تلك اللحظة أَحس ود الـسخي باللـذة  تعربـد تحـت فـروة رأسـه، ومـن یـدري، فرَّبما قال عبید في نفسه في تلك اللحظة: ‴هذه الخواجیة بمشیها علـى سـاق النخلة تتطاول على تُراثنا!‴ . ُرَّبمـا غَّیـر رأیـه فجـأَةً وقـال فـي نفـسه :‴ یـاإلَهي رَبمـا أَصـبحت هـذه اللحظـة لحظـة حاسـمة فـي حیـاة الخواجیـة .. ُرَّبمـا عَبـرت في هذه اللحظة من عالَم إلى عالَم آخر." (قبيلة من وراء خط الأفق: ص09).
أما السلوك الثاني، الذي اخترناه كنموذج، فهو تصرف (جوهانا ريد) صباح وصولها بيت (حاج النعمان):
 "راحت عوضــیة بْنــت النعمــان تتــذَّكر أَول یــوم أَشــرقت فیــه الــشمس علــى الخواجیة جوهانا بمنزل حاج النعمان. وفي واقع الأَمر لم تكن عوضیة تتوَّقع أَن یكون شعور الخواجیة أَكثر مـن شـعور أَي فـأرة تـدخل بیتـا للمـرة الأُولـى لكنها صـدمت فـي توقعهـا ذاك، حـین أَلَفـت الخواجیـة تتـصرف وكأَنهـا تعـیش فـي هـذا البیـت قبـل حـاج النعمـان نفـسه. ِفقـد أَخـذت مكنـسة وأَخـذت تكـُنس البیت، تماما كما تفعـل نـساء القریـة. الخواجیـة كانـت تعـِرف مكـان المخـزن ومكـان المطـبخ ومكـان الحمـام. وهـي تهـِّذب فـراش هـذا الـسریر، وتجـر إلـى الظـل عنقریـب حـاج النعمـان، وتـضع ذاك الكرِسـي فـي مكانـه الـذي خلـق لـه قریبـا مــن عنقریــب حــاج النعمــان، وتمــسح بخْرَقــة مــسقیة مــاء ســطح تلــك المنضدة وأَرجلها،..." (قبيلة من وراء خط الأفق 2004: ص26).
وهذا النوع من أشكال الحوار معروف ومرصود فيما يعرف بالإستشراق. إنّ استخدام مفردة (ربما) مرتين تفتح إمكانية تأويل السلوك لعدة احتمالات بحسب فهمه من وجهة نظر القارئ عموماً أو الناقد لموقف الغرب. وهو من الأشكال التي تم تناولها كثيراً ووصقت أيضاً بالقصور.
ولكننا نلاحظ أن هناك رؤية جديدة وتطوير في مستوى الحوار من خلال المحاور التي تناولها بروفيسور(حسون ود النعمان). إليكم هذا النموذج الأول من خطابه داخل حديقة هايد بارك:    
"أَیها الأُوروبیون: ِلقد جْئنـا إلـیكم مـن القـارة العاشـرة .. أَنـتم لا تعرفونهـا، ولكــن ســلوا عنهــا أَجــدادكم وآبــاءكم؛ فقــد كــانوا فیهــا. َّلقــد ادعــى أَجــدادكم وآباؤكم أَنهم اكتـشفوا القـارة العاشـرة، أَو كمـا تـَّدعْون الآن أَنهـم كـشُفوا لأَهـل القارة العاشرة أَنَّ هنالك مخلوقـات أَنبـل مـنهم تـشاركهم العـیش علـى الأَرض.
 
يشير هنا إلى تعنتهم وتحيزهم لأصلهم وثفافتهم وجغرافيتهم. يضاف إلى ذلك عزلهم جغرافياً. كما أنّ استخدام الفعل (يدعي) له دلالاته التشكيكية في رصد التاريخ. ثم يواصل خطابه محَدِثا إياهم عن جانب آخر:
أَجـدادي وأَجـدادكم كـانوا كالـديك والحـْدأَة .. الديك یخـاف الحـدأَة لأَنهـا أَقنعتـه بالخوف منها منذ أَن كان كتكوتًا. ِ لكنَّ أَبي دفن أَحـد آبـائكم فـي طـین جـدول بقریة نائیة بمركز مرِوي .. أَتعرفون موقع مـرِوي مـن القـارة العاشـرة؟ أَنـتم لا تعرفون شیئا عنها، لكنَّ أَجدادكم وآباءكم یعرفونها، تماما كما نعـرف بنـاتكم بوصة بوصة .. َّبناتكم اللاِئي یعرفن أَسعار البتـرول العربـي أَكثـر ممـا یعرفهـا  المواطن العربي .. یا أَسفي على المواطن العرِبي!" (الطاحونة: ص25/26).
في هذا الجزء من خطابه، يضيف (حسون) بعداً جديداً في الحوار وهو الحديث عن التخويف وإرهاب المستعمِر في إشارة إلى ضرورة مراجعة المواقف لأن المستعمِر يقول أنّه أخاف أجدادهم ولكن (حسون)، وهو يمثل الأجيال الجديدة، يقدم حادثة دفن أبيه لأحد آبائهم. ثم يثير جانباً مهماً وهو التأكيد على عدم معرفتهم بالقارة العاشرة جيداً، وفي هذا تدليل على عدم المعرفة الثقافية الكاملة بالشرق.
ثمّ يتحدث عن ضرورة مراجعة المواقف من جانب الشرق والغرب معاً. وقد أضمر ذلك في حواره مع موظف الجمارك في مطار هيثرو: "حین وقفت أَمام موظف  الجمارك سأَلني عَّما بداخل حقائبي؛ فقلت له: حقائبنا یاضابط الجمارك لیست فیها ممنوعات .. الممنوعات الوحیدة ــ بالنسبة لكم ــ هي المصحف وأَسـماء اللــه الحــسنى، الَّتــي لــیس مــن بینهــا ــــ كمــا حفظونــا فــي المــدارس ـــــ اســم المنعم.
نظر إليّ موظف الجمارك ثمّ خاطبني بخبث: يبدو أنّك عبد فصيح. ضحكت، وقلت له: لقد كان ذلك فیمـا مـضى. لقـد كنـت عبـًدا؛ لأَننـي لـم أَكـن أَعـرف معنـى الـسیادة. فنظـر فـي وجهـي بحـذق، وسـأَلني أَتقـصد أَنـك قـد عرفـت معنـى العبودیــة بعـد أَن ذقـت ویلهـا؟ فـرددت علیــه بـسرعة:ِ بـل أَقـصد المعنیـین معـا. وفـي سـري خاطبتـه: " لـو علمـت أَنَّ بعض أَهل الواقف أَمامك یعتبرون فئة من مواطِنیهم عبیدا لهم، بـل یزعمـون ملِكیتهم لهم؛ لعشت الشق الآخر من مْأساتي؛ ولصرت ساخراً مْثلي. كنت أَقـــول ذلـــك فـــي ســـري، وفجـــأَة وجـــدت نفـــسي أَقـــول لـــه بـــصوت وِاثـــق: یاسِیدي كل شيء ــ حَّتى العبوِدیة ــ نسبي. وكأَنَّ الملعون قد حـدس مـا كنت أفكر فیه؛ فضحك وهو یضع العلامات على حقائبي، دون أَن یفتش ما بداخلها. لقد كان أَظرف أَبیض قابلت ، ولا شك أَنهم یضعون أَمثاله في نقـاط الدخول لیعطوا الانطباع لما بالداخل. وحین أَولیته حفرة قفائي، سمعته یقول لزمیـل لـه:یـاإلهي! أَیمكـن أَن یملـك هـذا العبـد كـل هـذا القـدر مـن الـذكاء؟ فیرَّد علیه زمیله: لو كان كـل العبیـد فـي ذكـاء هـذا العبـد؛ لكـانوا اسـتعمروا بریطانیا قبل أَن تستعمرهم. فحمدت الله فـي سـري علـى أَننـي قـد أَرغمتهمـا على الاعتـراف بأَنَّ العبد قـد یملـك شـیئا ثمینـا كالـذكاء."  

يمكننا أن نستشف  من أشكال الحوار التي عرضت أنّ الأول منها يتسم بالسطحية لتركيزه فقط على المحتوى الديني ولم يستند على معرفة بالآخر وثقافته. وتعتبر هذه، من وجهة نظرنا المحللة لهذه الحوارات، تلميحة ذكية من الكاتب علي الرفاعي للإخفاق في فهم أعمال المستشرقين من جاانب بعض النقاد العرب الذين ربما تنقصهم المعرفة التامة بالغربيين، وبالتالي لم يعرفوا ثقافتهم. فجاءت الاحكام سريعة ومتعجلة.
في الشكل الثاني للحوار، نعتقد أن الإشارة إليه تفيد أنّ الغربي يدّعي معرفته بثقافة الآخر غير أن الحقيقة تثبت غير ذلك وهو أن معرفته بالشرقي تتم في الحدود التي تحقق مصالحه وهي معرفة غير مكتملة لأنها لا تصب في معرفة الآخر بعمق، وبالتالي لا تقود لحوار يقارب بين الثقافات.    
وبناءً على قراءتنا لخطابات الحوار بشكله الأول والثاني، نقول بأنّ الرفاعي قصد الإشارة إلى أنّ الكتاب العرب حاولوا دراسة الإستشراق من زاوية واحدة وهي نظرتهم لما يكتبه الغربي عنهم وعن ماضيهم وحاضرهم.
لذلك جاء نموذج شكل حواره الثالث ليستكمل هذه النظرة القاصرة من خلال حثه، عبر جيل حسون الثالث في الترتيب بعد جيل الأجداد والآباء، على ضرورة مراجعة المواقف والأخطاء، ومعرفة ثقافة الآخر باستفاضة ومقارنتها، والمحاسبة تجاه التحيزات والتقوقع... ويجب أن يتم ذلك من الجانبين.
ليس هذا فحسب، ولكن بحديث (حسون) عن نسبية العبودية يُلمح الكاتب علي الرفاعي لضرورة إجراء مقارنات بين نظرة الغرب لنا ونظرتنا نحن لأنفسنا (لـو علمـت أَنَّ بعض أَهل الواقف أَمامك یعتبرون فئة من مواطِنیهم عبیدا لهم، بـل یزعمـون ملِكیتهم لهم؛ لعشت الشق الآخر من مْأساتي؛ ولصرت ساخراً مْثلي) و(لغتنا لعانة).
وبهذا النهج المقترح يتم استكمال بناء أشكال الحوار وتحقيق التماثل الكامل في مستوى الخطاب بندية وليس بخطاب مستعمِرِ_مستعمَر. وهكذا يتم التقارب والإلتقاء بين الحضارات.
نلفت النظر إلى أنّ تقديم الشكلين الأولين من الحوار فيه استعراض لتاريخ الكتابة عن عدائية الغرب للشرق من بُعدها الديني، ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر، من هؤلاء الكتاب الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده... إلى أن تحول المفهوم مع إدوارد سعيد إلى الإستشراق،  حيث تمّ التركيز أكثر على البعد السياسى الحضاري. وذلك باعتبار أنّ إدوارد سعيد علمانياً وبالتالي جاءت نظرته للإسلام سياسية حضارية في المقام الأول.
وبالتالي جاءت المعالجة، من خلال خطابات البروفيسور (حسون ود النعمان)، شاملة وذلك بالجمع بين الثقافتين المختلفتين من خلال مقارنتهما ومقاربتهما.
  وهذه القراءة والإستنطاق لخطابات الكاتب علي الرفاعي تفضي إلى القول بأنّ المشكلة الأساسية في موضوع الإستشراق هو أنّ سوء الفهم والتجني عملية متبادلة يشترك فيما الطرفان معاً، وعليه لا بد من إجراء هذه المقارنات والمقاربات حتى تتاح فرصة فهم أوسع من خلال منظور الإختلاف.
ونختم بما أورده إدوارد سعيد عن موقفه من الإستشراق مما يسهل فهم المعالجة الشاملة التي اقترحناها في الفقرة السابقة والتي فيها حل لإشكالية تمترس كل فريق حول مواقفه " الاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي للبحث، أو ميدان تعكسه  الثقافة أو الدراسة أو المؤسسات الأكاديمية بطريقة سلبية، كما أنَّه ليس مجموعة النصوص الضخمة أو المتنوعة عن الشرق، ولا هو يُمثِّل أو يُعبر عن مؤامرة إمبريالية غربية لعينة من أجل إخضاع العالم الشرقي. بل إنه توزيع للوعي الجيوبوليتيكي على نصوص جمالية وأكاديمية واقتصادية وسوسيولوجية وتاريخية وفيلولوجية، وهو توسيع لتمييز جغرافي أساسي هو تقسيم العالم إلى جزأين غير متساويَين،(الشرق والغرب) ولسلسلة كاملة من المصالح يخلُقها الاستشراق ويُحافظ عليها من خلال الكشف العلمي والتحقيق الفيلولوجي والتحليل النفساني والوصف الجغرافي والاجتماعي … والواقع أن الفكرة الحقيقية التي أدافع عنها هي أن الاستشراق هو ذاته بُعد هام من أبعاد الثقافة الحديثة السياسية والعقلية، وليس مجرد ممثِّل لهذه الثقافة، ومن ثَم فإنه يَتعلق (بعالمنا) أكثر مما يَتعلق بالشرق."

المراجع والمصادر
. 1. سعيد، إدوارد: الإستشراق- المعرفة-السلطة-الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، 1980، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت-لبنان
2. سعيد، إدوارد: الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، ط4، 2014، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت-لبنان.
3. سلامة، غسان: "عصب الأستشراق"، المستقبل العربي، 1981.
4. النجار، شكري: "لِمَ الاهتمام بالإستشراق؟"، مقال في مجلة الفكر العربي، 1983.
4