مربع الحداثة (الفارغ) (1 )

مربع الحداثة (الفارغ) (1 ) قراءة في رواية (الورد وكوابيس الليل) للروائي/ عيسى الحلو،، عامر محمد أحمد حسين يرسم (عيسى الحلو) في روايته الورد وكوابيس الليل, رحلة مجتمع طويلة, تتخللها صراعات مميتة للخروج من بؤرة الخلاف والتخلف, ويتكيء على اسلوب سهل, بلا تعقيد, على عكس مراحل كتابته السابقة الروائية

مربع الحداثة  (الفارغ) (1 )

مربع الحداثة  (الفارغ) (1 )
قراءة في رواية (الورد وكوابيس الليل)
للروائي/ عيسى الحلو،،
عامر محمد أحمد حسين

 

 

 

 

يرسم (عيسى الحلو) في روايته الورد وكوابيس الليل, رحلة مجتمع طويلة, تتخللها صراعات مميتة للخروج من بؤرة الخلاف والتخلف, ويتكيء على اسلوب سهل, بلا تعقيد, على عكس مراحل كتابته السابقة الروائية والقصصية, اذ تطل على روح نصه فلسفة متوهجة الفكرة, غامضة في الاسلوب والسرد, ولعيسى الحلو منهجه الفكري الذي يتسم بقوة الطرح, والمنهاج, اذ ان الخطاب مرسل على الذاكرة ونابت على صخر المجتمع, ومتحدياً للقوالب الجاهزة الفنية والمجتمعية والسياسية, دون خطاب مباشر فج اصطلح عليه وعاشه من يدعون النضال عبر الكلمة. والناظر للمفكر الراوي والرائي "عيسى الحلو" يجد أن استلهام العنوان في روايته يخرج من روح النص وتكامله أولياً على وقع رحلة يومية يمثلها المجتمع المدني في غدوه ورواحه إلا أن مبعث وعبرة العنوان في تواثقه مع الدلالات المتخذة وضعاً مختلفاً عن ماهية التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي, فتتماثل مع الوضوح, فيتمثل "النهار" اذ لا يتضح عطر الورد في داخل النص, بل "عطن" المدينة وتلتقي الكوابيس بالليل حيث العتمة, والكبت المجتمعي, والكبت السياسي والعنت الاقتصادي, وتخرج من شرنقة النهار "يرقات الليل" فتتصل الحياة اتصال النهار بخروجه من الليل, والماضي يخرج الحاضر من حظيرة المستقبل, ودلالة الكابوس في معناه الاصطلاحي واللغوي والفلسفي استمرارية الكبت وأدواته.. فطن "عيسى الحلو" مبكراً الى الروح الانتقالية والحياة الهشة التي يعيشها المجتمع السوداني, فالفكرة تموت بفعل اللا مبالاة, واللا مبالاة أداة الدولة لممارسة تضييع الحقوق مع الفشل في رسم خطط المستقبل, فالغياب عن الحضارة العالمية والمساهمة فيها هو الكابوس, والليل والورد ليس سوى عنوان استمرار دورة ليل ونهار الكبت, اللا مبالاة, اللا يقين, اللا ثبات, "ثم انجلى الليل وتبدد الظلام, وعادت الى عيني حدتهما السالفة, مثلما حين تهب ريح الغرب العاتية, تملأ السماء السوداء والكلام العاصف وتحتجب الشمس قبل الوقت الذي ينبغي ان تتلألأ فيه النجوم, ويلف الليل الأرض كلها, ولكن اذا انطلقت ريح الشمال من كهفها الطراقي, وجعلت تجلد الظلام بسوطها وتحرر النهار السجين, فإن الشمس تتألق بفيض مفاجيء من النور, وتبهر الأعين الطارقة بأسعتها"(1)

 

 

 


يطرق "عيسى الحلو" بوابات النسيان التي تعيش الطاريء في الحياة, ويحرر النهار السجين, دون ان يكشف عن أشعة السرد اليقين بالتغيير والتحول من بنية متحجرة ومنسية الى بنية الانطلاق نحو النور والانعتاق, بروح المتصوف الواثق من نور الشمس حاحب العتمة والظلمة باهر الأعين بالأشعة والضياء اللا مترامي والمتعانق مع الكابوس في تبديد أشعة الخوف وارتياد الكلمة لتبديدها, واذا ارتفعت زاوية النظر باتجاه العنوان الفرعي الأول داخل متن النص الروائي "الورد وكوابيس الليل" نجد حالة استقصائية تتجاوب مع روح متفلسفة تختصر المعاني الكبيرة في كلمتين "الكتابة والكلام" فرعية الكتابة من جذر العنوان, وأما الكلام فيختصر تاريخ طويل من المشافهة والشفاهية, فالصراع هنا كمدخل للقراءة بين التدوين – الكتابة – والمشافهة – الكلام "اجلس على طاولة الكتابة, لأدون أحداث ما جرى, أمامي أوراق بيضاء صقيلة, ومصباح يلقي بالضوء الساطع على الطاولة, يدي متوترة ممسكة بالقلم.. أبدأ بكتابة الجملة الأولى, ورغم أنني لست كاتباً إلا أني أعرف أن نهايات الأحداث تفرضها منذ البدء الجملة الأولى"(2)
مفتتح التأويل أن السارد, يعلم جيداً, المعاناة التي تلجم الكاتب, هنا يقع الحدث "أحداث ما جرى" الجلوس في المساء, الطاولة, التوتر, الجملة الأولى.. رفض الكتابة, فالحدث أكبر من التدوين والخوف من التدوين, أكبر أيضاً بمقياس التوتر, "الجملة الأولى" مفتاح الكتابة "أعرف أن نهايات الأحداث تفرضها الجملة الأولى"(3) "فتلازم التخاطب وآلية الإحالة بين وواضح عندما يبني الكلام على منحى الإحالة المقيدة الإشارية"(4) "فهو يرى البدايات, ولا يرى النهايات في ذات الرواية"(5) "ويبقى هذا التلازم عندما يساق الكلام على منحى الإحالة المطلقة"(6) "الآن أنا محاط بالضوء والصمت والورق"(7)
"يحيط بالسارد الصمت, الضوء, الورق, وكان المصباح يلقى بالضوء الساطع على الطاولة, "أستعين بالخيال, وبقدرات الذاكرة لاستدعاء كل ذلك الغياب لأضعه فوق الورق, لأعيد هذه الحيوات لتلعب ذات اللعبة من جديد"(8) "الغياب عن التدوين لخوف الظاهر من تتبع الأزمات, واشعال المصباح, والورق للعودة الى فعل تأباه روح الكبت السائدة نهاراً ليلاً, جلوساً, قعوداً, عاملاً, عاطلاً, عاشقاً, مهجوراً.. تتساقط الأوراق وتلتف الساق الجرداء على ما تبقى من أوراق لم يتسرب إليها الإصفرار, فتصيبها بالصمت والشحوب, إلا ان الأمل يتجلى في "يدى متوترة ممسكة بالقلم"(9) "من هو هذا الانسان الكوني؟ أهو الانسان دون اضافة أخرى, أي درجة الانسانية بين كل البشر؟ نعم ولا, نعم بقدر ما يدور حول الانسان الخيالي الذي يستجيب في كل مكان للصور بالتماهي أو بالاسقاط, نعم اذا دار الأمر حول الانسان الطفل الذي يوجد في كل انسان, الفضولي الذي يحب اللعب واللهو والاسطورة والحكاية"(10) "هناك الآخرون الذين أحاطوا بالرجل الذي تدور حوله الأحداث – أو بالأحرى المحر الأساسي لكل الحكاية, وأجد نفسي وسط اللجة حيث كلام كثير يصدر عن هؤلاء الآخرين الذين أحاطوا بـ عبدالمنعم ياقوت"(11) "حين أفكر في نيويورك يجتاحني شعور مختلف, مختلف تماماً, فنيويورك تجعل حتى الثرى يشعر بحقارته, نيويورك باردة, براقة, خبيثة, الأبنية مسيطرة, وهناك أنواع من السعر, يسربل النشاط السائد, وكلما ازداد عنف الخطو, ازداد انسحاق الروح, هياج مستمر, لكنه هياج يمكن أن يحدث أيضاً داخل أنبوب اختبار, لا أحد يعلم سببه" "رواية مدار السرطان – ص 87 – هنري ميللر – ترجمة اسامة منزلجي" يطل السارد على الساحة "أجد نفسي وسط اللجة" هذه اللجة فرضت عليه, فاجأته بغتة, وهو في طريقه, حيث لا تدري أين محطة النزول من مركبة "اللجة" أول هل لا زال موقف المواصلات في مكانه, عزلة السارد تقف على مسافة واحدة من المجتمع, الذي يعيش العشوائية, تقف على مساحة واسعة من التفكير واللا تفكير, الكتابة واللا كتابة هذه الانعزالية تتوقى في تجلياتها خوف المدينة, النائمة بلا نوم, والمرهقة من سهر الجوع, حيث تتكدس عشوائية المبنى مع داخل الروح وتنسرب رويداً رويداً الى المجتمع, فتغلفه بالصديد الداخلي, والصدأ الخارجي, تحيل داخله وخارجه الى ماكينة "لحام" تغلي عند الكي وتغلي في انتظاره وعند تسليم المشتري بضاعته, دنيا المتاهة التي تتغلب عليها متاهة نيويورك بالحيوية ومؤسسية النظام, ومؤسسية اللا نظام الحر, هناك افتراض الخيال بأن نيويورك باردة, خبيثة, السعر الذي يسربل النشاط الزائد.. وفي مدينة سرد عيسى الحلو تتكيء العشوائية والغبار العالق على السياج العام, والحركة الثقيلة, والروح البدائية, والكبت المسيطر, "أحاطوا بـ عبدالمنعم ياقوت – أجلس الآن على الطاولة, وقبل الشروع في الكتابة أجد أنه لا مفر من أن أستجلى الفروق بين الكتابة والكلام" "وهل من العسير أن ننجز مشروع الاقناع الذاتي, وان ننجز هذا الأمل: معاكسة المعادلة الشائعة في أن حرية الرأي حق من حقوق المفكرين بتحويلها الى حق من حقوق المجتمع على المفكرين"(12) "واستجلاب الفرق بين الكتابة والكلام, يرتبط بحرية الكتابة والكلام المفيد, فتكتمل الروح باكتمال التأويل والتفسير, اذ الحاجة ماسة للخروج من النمطية "الفارغة والمفرغة من مضمونها, الى آلية الجمع بعد "الفرقة" نظماً خطابياً, وتدويناً كلامياً للخروج من عصر ما قبل الحداثة الى عصر الحداثة وما بعدها.
"عملي الأساسي, باحث في أدائية النص المكتوب من الناحيتين اللغوية والجنائية, وان الجاني تستخدم لإزالة الغموض عن الوقائع واستحضر الوقائع – كلام, كلام كثير يتدفق من أفواه هؤلاء الناس, أصوات تتلاقى.. تتقاطع.. تتداخل.. تتوازى.. تتفق, تلتقي خطوطها.. وتتفارق" (13)

 

 

 


"ان جمالية السرد ترتبط ببعد المسافة بين اللغة الموظفة والواقع, اذ يوحي الخطاب التلفظي بواقع ممكن أو مفترض, يعبر عن صورة ذهنية وتخييلية لها سحرها, وتترك أثرها, لذلك تجسد الصيغة بعداً تواصلياً يحتاج اليه الراوي"(14) "وظيفة السارد باحث في ادائية النص المكتوب لغوياً وجنائياً" والمفارقة التي تصل درجة السخرية "جنائياً" فالوظيفة رقابية تتصادم مع البحث والتقصي في الأدائية للنص المكتوب "ومن العنصرين ما استطعنا الى ذلك سبيلاً لتفهم مغزى ظهور النظريات السياسية والاجتماعية والثقافية ومغزى انتشارها, ومن أين جاءت ومتى ولماذا وكيف جاءت, ولنفهم ايضاً فيمن اثرت ومتى ولماذا وكيف اثرت"(15) "وقد واكب التغيرات التي عرفها الغرب الاوروبي, في سياق تطور المجتمع, وتطور علاقات الانسان بالطبيعة وبالتاريخ وسعيه لمعرفة مظاهر السلوك الانساني في مختلف أبعادها, فان محصلة كل الاشارات التي ذكرناها آنفاً وباختزال شديد, أسهمت في تحقيق ثورة فعلية في مجال الإحاطة بالظواهر الانسانية في مستوياتها المتعددة"(16) والظاهرة الجديدة هي الاحاطة بالنص سردياً لغوياً وجنائياً بحكم عمل السارد الذي يتناسب التغيير المعكوس درجة تحضره بالخروج من البدائية الى ما قبلها, فالحجج التي تطلق الصيحة في الوجوه تتوازى مع غياب الحرية الشاملة والفردية فتحيل النص المكتوب الى نص "جنائي" بالبحث عن ليس المسكوت عنه بل المسكوت عليه ضمنياً بآفة التأويل سلطوياً ومجتمعياً.. "لم تكن السلطة ولا الشهرة ولا الجاه ولا المنصب هو ما يطمع فيه بوئثيوس يوم زاول السياسة فالفلسفة لا تترك في قلب مريدها مكاناً لمطمع, دخل يوئثيوس معترك السياسة حرصاً على الصالح العام, ولكي يطبق في السياسة العامة ما تعلمه في درس الفلسفة استجابة لدعوة افلاطون بأن يزاول الحكماء السياسة حتى لا تترك دفة الحكم لأيدى الجهال والمجرمين فيلحقوا الدمار والخراب بالمواطنين الصالحين"(17)
من هو عبدالمنعم ياقوت؟(18)
"هو ذاك الذي أثر في حيوات كل الذين كانوا حوله, بل ان أثره تجاوز كل الحدود وان كان الناس لا يعرفون هذا التأثير بشكل واضح, وهم أيضاً لا يستطيعون ان يحددوا شكل هذا التأثير"(19) التأثير الذي تجاوز الحدود, وكبل الجميع داخل سياج عقلي له مفتاح واحد اسمه عبدالمنعم ياقوت ولقوة التأثير فالناس لا يعرفون نسبته في عقلهم الجمعي, ولا حتى شكل التأثير, تنويم مغناطيسي يقود الجميع الى زحام النهار وكوابيس الليل, "فالرجل له حضور شديد وسطوة, كما لو كان فكرة, أو هاجساً عصابياً"(20)
الفكرة الساطعة تتمثل في السطوة والسلطة "حولت هذه العلاقة الغامضة "ياقوت" الى سر كما حول الصمت المتكتم الرجل الى شفرة ورمز واسطورة, ولم يسأل أحدهم نفسه أبداً من هو عبدالمنعم ياقوت, وكيف يكون"(21) "ومن المؤكد أن ظاهرة سياسية ثقافية تاريخية من نوع الظاهرة التي نحن بصددها يصعب تفسيرها, كما يصعب الركون الى تفسير أحادي وواحد بشأنها, ونحن لا نتوخى تقديم تفسير لها, ونفضل في الوقت الراهن إثارتها من أجل أن نتمكن من معرفة مواقع أقدامنا, ونتمكن أيضاً من تشخيص جوانب من تحولات الممارسة السياسية في عقولنا وواقعنا"(22)