أبو عركي البخيت: عن بعد المسافة وقربها

أبو عركي البخيت: عن بعد المسافة وقربها لمياء شمت كثير هو الذي سُطّر عن دور الإبداع وتشكلاته في المراقي العليا، وفي مدارك الذوق والوعي، وأنسنة الوجود، وصولا إلى ما يجب أن يطمح إليه الفن كمشروع جمالي نهضوي

أبو عركي البخيت: عن بعد المسافة وقربها

أبو عركي البخيت: عن بعد المسافة وقربها             

             لمياء شمت


 

كثير هو الذي سُطّر عن دور الإبداع وتشكلاته في المراقي العليا، وفي مدارك الذوق والوعي، وأنسنة الوجود، وصولا إلى ما يجب أن يطمح إليه الفن كمشروع جمالي نهضوي، ينطلق من حيزه الثقافي الخاص إلى دلالته الإنسانية القصوى، لتنبلج شعاعاته من نقطة تعامد الجمالي التذوقي على خط استواء الإدراكي الإنساني العريض. ويقع ذلك بلا شك ضمن حدود ما حاوله إدوارد سعيد، وهو ينقب عميقاً للإحاطة بتعريف المبدع المثقف، كذات متململة مناوشة ومتجاوزة لليقينيات السهلة، لا تخضع بطبعها للمستقر بأعرافه وحدوده المسوّرة وأفكاره المقولبة، وأنماطه الجاهزة. لذلك ربما اصبح قدرها أن تُسوّط وتنُفى وتُحرم من الحفاوة، بل وتُستهدف بالمقولات التصغيرية المبتذلة غير المسؤولة، في أتون نزاعها الشاق والدائم مع أوكار السلطة والوصاية والأوصياء.

 

ويمضي إدوارد سعيدفي محاولة إتمام جهوده لإعادة تعريف المثقف المبدع بشكل إحاطي دقيق، بتركيز كبير على حرص المثقف الإنساني، رغم المناوئة والقهر، على التغلغل وراء التجربة المادية المباشرة، مستهدفاً تكريس الخير والمنفعة والوعي والحرية لمجتمعه. ووفقاً لذلك يبدو إدوارد سعيد مطمئناً إلى تعريف شريحة المثقفين كجماعة ملتزمة منهمكة في إنتاج التنوير والوعي، تربط مصيرها بحياة الإنسان وهمومه، على الرغم من حملات التشويه المنظمة، التي تثابر بمكر زعاف لاختزال صورة المثقف الذهنية إلى محض نموذج بوهيمي منخرط في محاربة الطواحين.

 

 

ولعل ما ذكرناه يقودنا بخطوات واسعة إلى مشهدنا الإبداعي لمعاينة مشروع الفنان أبو عركي البخيت، في أفقه الإنساني الواسع، بجدارته الفنية، وشارته التنويرية، وعلو هامته الوطنية. خاصة وأن الأستاذ أبو عركي البخيت قد أعلن ضمناً عن إدراكه العميق لجسامة مسؤولية الإبداع في المراحل والانعطافات الحاسمة بكل تأرجحاتها العنيفة. وكذلك عن تدبره لحقيقة أن كل أرض يعزف عنها النخل تصبح سهلة مباحة لغزو عرائش المتسلقات الزاحفة ومسطحات العوالق الرخوة، وأن كل أفق يغادره النهار تتمطى فيه العتمة ويستوطنه العطن لا محالة.

 

وما أبهى استدعاء لحظة صعود أبو عركي ليمتلك صدر المسرح، فإذا بالحكايات تترى من هنا وهناك، تضج بها الأسافير وتتناقلها الألسن وتحرثها الأقلام. يهلل بعضها لعودة العافية للحواس، لتنعتق من المعاقرة الجبرية لطعم الرداءة. وتزهو فرحة انسكاب بهجة الألوان الأصيلة على تلك المساحات الملساء، التي انفرد بها الرمادي حيناً من الدهر، فأنشب فيها قسوته، ودلق عليها بؤسه ومخياله المتقشف. وتعلو من هناك أصوات مستبشرة برزق إبداعي سخي آت بعد أتراح المخامص، وتوالي مواسم الخصب الخاسرة، وتفشي داء "الاستسقاء" الفني، ذلك الذي يجعل المهزول يكترش من إملاق. تنطلق البشارات في المدى برزق إبداعي وثروة وجدانية هتون، لا يجوز الاختلاف على اقتسامها، فهي مبذولة بمحبة، تسري للجميع بعدل وسعة.

 

 

حكايات وحكايات عن أبو عركي وهو يصدح هناك في صبر أم در، فإذا النفوس خلجان مفتوحة يتصاعد مدها، ليحكي وقائع إشهار عشق كتيم بين ثبج الماء وجاذبية القمر. وهناك الحكايا العجيبة عن أوقيانوس الشتات الذي يختض وتمسه الرعدة حين يدرك الكل، وبوجدان جمعي أنهم في مرمى تراشق بذخيرة الشجن الحية. وتتوالى الحكايات من كل فج عن غناء ظاهره عذوبة وباطنه رفق يتغمد الذين ينتهبهم عصف المخاوف، في خيمة الوطن قليلة الأوتاد، وأولئك المبعثرين في كل وادٍ. فالكل في الفرح الصادح والأسى الجارح سواء. يغني أبو عركي "يدخل رواكيبنا وأوضنا"، يطوف بأرجاء البيت الكبير، يريح الأنفس لبرهة من شقوة منادمة سراب الشاشات، يهدئ القلوب الواجفة من أجواء ركلات الجزاء الخطيرة، وخشونة اللاعبين القساة الدهاة.

 وتنهمر الحكايا التي تزُفّ من داخل المسارح عن معارج التلقي، التي تبلغ شأواً في التفاعل، ومنزلة في الحسن ترتسم به على الروح والمحيا، بما يعفي من تجشم تفسيرها، حيث يتحول بها المسرح دهشتئذ إلى كنف حميم رحيم، يتضام فيه الحضور بآصرة دفء أسري، ووحدة شعورية روحية النفح، عرفانية المقام، تعرج بهم لقطف رحيق متع فارعة. يحملهم الصوت إلى معارج أخرى فلكأن مئات الوجوه تلوح هنالك، فهذا الخليل "من شعاره دخول المآزق"، وذاك محمود درويش بتجربته الشاقة، التي كشفت للملأ سوءة "خوف الطغاة من الأغنيات"، وهو يأتمن رياح الغناء اللواقح على بذوره، فتحملها عبر المدى. يستوي في مقام الهم الفادح والرجاء الجامح الخليل ودرويش وأبو عركي ومارسيل خليفة، وهم يهدهدون أوجاع السامعين بأمنية عزيزة، وإن اختلفت الكلمات..  "تصبحون على وطن".