الحداثة والثقافة

الحداثة والثقافة أ.د. عبد الغفار الحسن محمد ما الحداثة؟ سؤال يطرح نفسه في بداية حديثنا عنها. فالحداثة ترتبط بالتحديث وهو ضد القديم، وبحسب الباحث والأكاديمي العربي (لؤي صافي):

الحداثة والثقافة

الحداثة والثقافة
أ.د. عبد الغفار الحسن محمد

 

 

 


       ما الحداثة؟ سؤال يطرح نفسه في بداية حديثنا عنها. فالحداثة ترتبط بالتحديث وهو ضد القديم، وبحسب الباحث والأكاديمي العربي (لؤي صافي):
         فقد ارتبط مصطلح الحداثة بلا شك بمرحلة تاريخية في الحضارة الغربية وهي مرحلة الانتقال من منظومة قيمية تصورية أخلاقية اجتماعية رافقت ما يسمى بالعصور الوسطى في الغرب (المجتمع الإقطاعي) إلى مجتمع حديث يقوم على مجموعة من القيم لعل في مقدمتها مفهوم المساواة وحرية الفرد وحقه في المشاركة السياسية والرقابة على الحاكم واستناد السلطة السياسية إلى الشعب وما رافق ذلك من مجموعة قيم وتصورات وممارسات على المستوى الاجتماعي المؤسسي فهذا هو ما نسميه الحداثة،
           ويرى لؤي صافي أنه على الرغم من أن الحداثة تمثل إنجازاً غربياً إلا أنها تتضمن قيم ومشتركات إنسانية ليست حكراً على الغرب ولكن تعبر عن امتداد خبرة إنسانية سابقة على الغرب ، فانتقال الغرب من المجتمع القروسطي إلى المجتمع الحديث كان نتيجة الاحتكاك مع حضارات سابقة ،وهذا التفاعل تم توثيقه في بعض الجهود والدراسات ،وحوارات كثيرة ما زالت تدور حول ذلك ، فمن يلاحظ عصر النهضة  لدى الغرب ومن ثم حركة الإصلاح الديني (البروتستانتي ) التي تبعتها يلحظ أن هناك مجموعة من القيم والمبادئ التي تمسك بها رواد النهضة والاصلاح ارتبطت بحضارة سابقة هي بالتحديد الحضارة الإسلامية .
               لذلك فالحداثة يمكن أن تفهم على مستويين ، مرحلة أولى هي مرحلة الحضارة وتشمل الإصلاح والنهضة والتجديد وإعادة تفعيل قيم سابقة وتأسيسها في المجتمع وهذه المرحلة تمر بها كل الحضارات ومن هذا المنطلق يمكن الحديث من حداثة إسلامية أو حداثة رومانية فالحداثة تعني هنا مرحلة النهوض الحضاري أما المستوى الثاني فيتعلق بالحداثة كمفهوم وهو لذلك لصيق بالتجربة الغربية التي أصبحت عالمية من خلال حركتي الاستعمار التي نقلت أنماط التفكير والسلوك الغربي إلى أنحاء كثيرة من العالم وشكلت نخب ثقافية متأثرة جداً بالفكر والمجتمع الغربيين ومن خلال حركة العولمة التي هي امتداد على مستوى مختلف للجهود الاستعمارية التي هدفت توسيع هيمنة الحضارة الغربية ونقلها إلى مناطق أخرى من العالم .فالثقافة الحداثية أصبحت عالمية وعابرة للقارات لهذا السبب.

العرب ومفهوم الحداثة: إذا كانت الحداثة كمفهوم منتوجا غربيا خالصا فما موقفنا نحن العرب ككل والسودانيين على وجه الخصوص من هذه الحداثة وما فهمنا لها؟
   يرى الناقد د. كمال أبو ديب أن مفهوم الحداثة عند العرب هو ترك الماضي وما به من تراث وثقافة ومفاهيم عفا عنها الزمن والانخراط في ثورة الاكتشافات الجديدة وابتكار مفهوم حداثي نهضوي.

ويستنكر أبو ديب مفهوم الحداثة هذا عند العرب لأنه سوف يحدث قطيعة معرفية، وظمأ روحياً بالتاريخ الإنساني العربي، بل دعوة انفصالية عن التراث الفكري العربي مما يتسبب في انهيار الثقافة العربية، بل ومحو الهوية العربية واقتلاعها من جذورها.

            ويتساءل: إذا كان مفهوم الحداثة عند العرب هو القضاء على كل ما يمت بصلة بالماضي العربي فماذا يكون الأمر إذا دخل العرب في إطار مفهوم ما بعد الحداثة؟

            ويوضح أن المجتمعات العربية تحاول مواكبة الحداثة من خلال اتجاهين متجاورين، الأول هو انبعاث الأطر الثقافية الماضية بالرغم من المناداة بقطع الصلة بالتراث، والثاني هو الالتحاق بالحداثة القائمة. لعل كلا الاتجاهين موجود عند النخب السودانية.
             ويرى الناقد العراقي عبد الله إبراهيم أن الثقافات الأصلية للشعوب غير الأوربية تواجه تحديين في آن واحد: الذوبان أو الجمود. وكلا الأمرين عسير فكيف لأمة من الأمم أن تتخلى عن ثقافتها الأصلية وهي مناط اعتزازها وفخرها وهويتها الجامعة كيف لها أن تتخلى عن ثقافتها الأصلية والتي تتمثل في الدين والعادات والتقاليد والأدب والفنون كيف لها أن تتخلى عن كل ذلك وتندرج في الثقافة الغربية؟ أما الخيار الثاني وهو الجمود بمعنى عدم القدرة على تفعيل هذه الثقافة وما تحويه من قيم دينية وأخلاقية وعادات وفنون في واقع حياتنا العلمية والعملية الراهنة ونستعير بدلا عن ذلك مناهج وأفكار الثقافة الغربية لتحل محل قيمنا المجمدة، ولعل القيم الكامنة إن لم تذوب في ثقافة الآخر وظل جامدة وغائبة قد تحين لها فرصة انبعاث عندما تستطيع الأمة ان تنهض حضاريا.
           ولعل هناك من يدعو إلى ما يسمى بالمثاقفة أو التبادل الثقافي بين الغرب والشرق، ونقول إن إمكانية التبادل غير قائمة لغياب التكافؤ بين الغرب والشرق العربي الآن خاصة، فالذي يملك القوة هو الذي يستطيع أن يفرض ثقافته وبالتالي فمسألة التبادل هذه غير ممكنة في ظل هيمنة الغرب.
          ويرى عبد الله إبراهيم أن ما ظهر من تهجين ثقافي يتسم بكونه مشوها، لأنه لم يستند إلى علاقات متكافئة فالغرب هو الذي يهجن عقولنا بمناهجه التربوية ومناهجه النقدية وبفرضياته، حتى أصبحنا نضع النظرية الغربية كأساس ونبني عليه مقارباتنا لأي موضوع تربوي أو منهج نقدي أو فرضية علمية. وأفضى ذلك إلى تفريغ الأنساق الأصلية لثقافتنا من مضامينها.     كذلك استطاع الغرب أن يخلق نخب ثقافية في مجتمعاتنا العربية والسودانية تدافع عن مفاهيم الثقافة والحداثة الغربية. بل وتتصدى بنفسها لهدم ثقافتنا الأصلية؛ مما يدعو إلى التنازع والتخاصم داخل المجتمعات وبين النخب المثقفة فيه.
          وإذا كانت الحداثة في الأصل تسعى إلى بناء مجتمع موحد حول قيم منتقاة يتقبلها عقل ثقافة التنوير والمعرفة الغربي، فهل نجحت في تحقيق هذا الهدف؟
         يرى الدكتور عبد الله إبراهيم أنه: بدلا من أن تقوم الحداثة بمحو الحدود الفاصلة للمجتمعات القومية والتقليدية وتفك الانحباس التقليدي المتوارث فيها- بخاصة في الانتماءات الدينية والعرقية- بذرت خلافا جديدا تمثله مفاهيم مركزية الثقافة الأوربية والتفوق الفكري الغربي على كل شعوب العالم. ومن ثم تهميش ثقافة الآخر.
           وعليه فقد نشطت المفاهيم السجالية التي كانت سائدة في العصور الوسطى وصارت تبعث اليوم بصورة إشكالات الهوية والخصوصية الثقافية والأصالة والحفاظ عليها بطرق عنيفة.
              إن الثقافة هي الكل المتنوع من تجارب الماضي والتاريخ والتخيل والاعتقاد واللغة والتفكير والانتماءات والتطلعات وهي بالتالي تمثل جوهر الرأسمال الرمزي للمجتمعات البشرية المتشاركة بها، يمثل هذا الكل المركب علاقة رابطة وموحدة داخل المجتمعات البشرية الخاصة بها فتدفعها إلى التوحد والتجمع والمواجهة إذا أحست بخطر الإلغاء أو التهميش، وقد تتراجع ولكنها قابلة للانبعاث مجددا في حالة التحديات والتطلعات الحضارية الكبرى التي ينبغي ان تتغذى بمفاهيم جديدة تندرج فيها من اجل موافقة العصر الذي تتجدد فيه.
              ويرى عبدالله إبراهيم إن من دواعي ابتعاث الماضي والتفكير فيه واستحضاره، عندما تشرف المجتمعات على حالات تغير جذرية في قيمها وأخلاقها وتصوراتها عن نفسها وعن غيرها، ينبثق تفكير ملح بالماضي حينما يكون الحاضر مشوشا وعلى عتبة تحولات كبيرة إما بسبب تغيرات داخلية (كحالتنا في السودان بعد ثورة ديسمبر 2018) أو بفعل المؤثرات الخارجية. وهو ما يفسح فرصة للعنف في ان يكون جزءا من إستراتيجية الدفاع عن النفس.
            إذا فما هو المطلوب إزاء كل ذلك لمواجهة مشكلات الحداثة بمفهومها الغربي وتقاطعها مع منظمة قيمنا الثقافية والحضارية؟
            لعل كثير من الباحثين يرون ضرورة أن ينهض مشروع حداثي خاص بكل شعب؛ يقدّر ضروراته الثقافية، ويراعي تنوعه الثقافي، فلا يمكن أن نظل رهينين لفلسفة غربية غير قابلة للمحاكمة بمعاييرنا الثقافية، بل داعية لإدماجنا في سياقها الثقافي، وضاربة بعرض الحائط كل موروثنا الثقافي والقيمي؟
            فنحن في السودان مثلا لا بد لنا من مشروع حداثي سوداني مشتق من السياق الثقافي الخاص بنا، ويسعى لاستلهام صور الماضي وقيم مجتمعاتنا السودانية، كمقاومة رمزية للقيم الغربية.
          وهنا قد ينشأ تساؤل حول الهوية السودانية الجامعة، باعتبار أن الشعب السوداني شعبا متنوعا ومتعددا.
          وللإجابة على هذا التساؤل نطرح هذه الرؤية لمفهوم حداثي نهضوي سوداني يقوم على الآتي:
-اعتبار كل المشترك الثقافي بين مكونات الشعب السوداني من محددات هويته الثقافية، هذا مع احترام ثقافات أيا من المجموعات الخاصة من الشعب السوداني التي ترتبط بإثنية عرقية أو جهوية محددة.
-انتخاب مجموعة من القيم الإنسانية المتفق عليها عند غالب الشعب السوداني كمكونات للثقافة السودانية، وترك غير المتفق عليه في إطار المجموعات الخاصة، بشرط ألا يضر بوحدة البلاد او يخرق قانونها المشترك والذي ينبغي أن يسود على كل فرد سوداني.
-  من هذه القيم الثقافية المشتركة الجامعة تنبي استراتيجيات الدولة في شتى المجالات الأخرى (الإعلام-الاقتصاد-القانون- التعليم- والتربية ... إلخ) بحيث لا تخالفها أو تتعارض معها، ومن هذه القيم الجامعة والمتفق عليها ما يلي:
-الأمانة- الصدق –الحب- التسامح- الحرية- وسيادة حكم القانون أو العدل - والشورى والديمقراطية - والإخلاص والتفاني في العمل.
            ولعل هذه القيم أصبحت من المشترك الإنساني الذي تتفق عليه أغلب شعوب العالم، بل أصبحت جزءا أصيلا من دساتيرها.
            بعد ذلك فليحترم بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه من ثقافات خاصة، طالما أنها ليست ثقافات مرجعية تؤثر على تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين أفراد المجتمع في احتكامهم لمنظومة قيمية متفق عليها.  
          إن موضوع النهوض الحضاري على أسس ثقافية سودانية في ظل الواقع الذي نعيشه –خاصة بعد ثورة ديسمبر 2018م - بات ضروريا للغاية؛ وذلك لحماية البلاد من التشتت والتشرذم والضياع. ولبناء مجتمع متكافئ في الحقوق والواجبات والتمثيل الثقافي، بحيث لا تفرض الجهة التي تملك السلطة-أيا كانت- مشروعا ثقافيا لا يلبي طموحات وتطلعات غالبية الشعب السوداني.