ذاكرة شرير مقاربة في خطاب التابع التاريخي
ذاكرة شرير مقاربة في خطاب التابع التاريخي أبوطالب محمد تمثل رواية ذاكرة شرير للروائي منصور الصويم نقطة تحول مركزية في المشهد السردي السوداني، لأنها تطرّقت إلى قضايا جوهرية في المجتمعات السودانية
ذاكرة شرير مقاربة في خطاب التابع التاريخي
أبوطالب محمد
تمثل رواية ذاكرة شرير للروائي منصور الصويم نقطة تحول مركزية في المشهد السردي السوداني، لأنها تطرّقت إلى قضايا جوهرية في المجتمعات السودانية، وركّزت بشكل محدّد على فئة مجتمعية مقموعة مهمشة تعيش على هوامش الحياة، حيث أولت الرواية الاهتمام بهم وبدورهم في الحياة، وهم جماعات متنوّعة الأفعال: منها الخيّر ومنها الشرير، وفي النوعين، وقف متنها السردي حول دورهم ونمط حياتهم في أزقة المدينة. اقتربت الرواية إلى حدٍّ كبير من توجهات جماعة التابع التاريخي، وهي جماعة ذات توجهٍ فكريٍ نشأت في الهند على أيدي عدد من المفكرين رأوا أن التاريخ. لم يُكتب بعد، إنما التاريخ الذي كُتب عن المجتمعات الإنسانية اهتم في مسارات رصده الممتدّة بالملوك والأمراء والسادة العظماء، وأهمل جانباً مهماً من حياة المجتمعات التي تعيش على هامش الحياة، والتابع في رؤيته السابقة عند جرامشي و رانجيت جحا وغيرهما ركّز على دور مناهض ضدّ المستعمرات الأوروبية؛ لأن المستعمر اهتم بفئة مجتمعية محدّدة أرّخ لها وفق أجندة تخدم سياساته، وأهمل ما تبقى من فئات لها دور ناجز في كتابة التاريخ. إن رواية ذاكرة شرير بقضاياها وشخصياتها وأمكنتها وأزمنتها ومسارات تحركات سردها أعادت كتابة التاريخ من أسفل أي من المجتمعات الإنسانية التي تعيش على الهامش بسبب الحروب والمجاعات والتشرد والفقر وغياب الخدمات المجتمعية؛ مما أجبرهم على المجيء إلى المدينة لممارسة حقّهم الطبيعي في الحياة. وهم في الرواية جماعات تضمّ معسكرين معسكر المتسولين المسالمين ومعسكر المتسولين الأشرار، وفي التصنيفين دفعتهم أسباب مُلحّة إلى المدينة. هذا التوجّه السردي أعاد كتابة التاريخ الاجتماعي من أسفل لأنه وضع فئة المقموعين والمهمشين في موقع المؤرخ المنحاز إلى قضايا التهميش في المجتمعات ذات التناحرات القبلية والحروب المستعرة.
منحت الرواية دراسة تاريخ المهمشين برؤى سردية بحيث ركّزت على قضاياهم وشرحت نمط حياتهم المجتمعية، عاشت هذه الجماعات وما زلت تعيش في أزقة المدن، وجسّدت الرواية بحرفية سردية عالية وقائع الحياة اليومية الخاصة بهم وممارساتهم المختلفة في التسوّل والسرقة والحيل الدرامية في الحصول على حياة يرون أنها الأفضل. وتاريخ كل شخص من شخصياتها له مسبباته المدفوعة صوب التشرد إذ أعطت الرواية الاهتمام بهم لأن تاريخهم الاجتماعي المتخيّل في بنية السرد نتاج لتاريخ واقعي له مسبباته ودوافعه، ومن جانب آخر لا يختلف عن تاريخ الفئات المجتمعية المسيطرة. وعليه قدمت ذاكرة شرير شخصياتها على مسارح أحداث من زوايا أعمق في التجسيد واقتحمت فضاء المدن الشاسع، وفي هذا الشأن يقول الناقد عامر محمد حسين ( تقوم رواية ذاكرة شرير على جدل الذاكرة والواقع، ذاكرة مَن لفظه المجتمع، وواقع من دخل حيّزاً مكانياً لم يسطر معالمه أو زواياه. اعتمد البناء للشخصية في زوايا على التنشئة – المكان، أي البيئة وسيرورتها في إضفاء معالمها على صفحة وجه التاريخ الخاص ) . بناءً على كتابة التاريخ الخاص، حكى آدم كسحي عن ذكريات ماضيه، وهي ذكريات شاهدة على كتابة تاريخه الاجتماعي وجذوره وثقافته ( أنا آدم كسحي، آدم كسحي أنصت الآن بكياني ومسامي، بتاريخي وذاكرة أيامي الماضية أنصت إلى القطار، إلى صافرة القطار، إلى اهتزاز عرباته وتوجع وأنين سكته الحديدية ... الهدهدة ما كنت أحسّها و أمي العظيمة مريم كراتية تضعني على حجرها، تطوقني بيد وتدس بالأخرى خرقة القماش في فمها وتمص ذرات السلسيون المعطونة بين ثنايا القماش على سطح عربة تتأرجح برتابة وتتحرك ببطء، بدأت أتعرف على الأشياء وألحظ الناس والوجوه المحايدة والأجساد المتعبة... الرواية ص١٠)، يعطي هذا التعريف ملمحاً تاريخياً عاماً يلتقي فيه مع شخصيات أخرى مثل تاريخ حياة شخصية مرتوق ويقول عنه كسحي: ( وحكى في لحظات صفوه عن أسرته التي تقطن أطراف المدينة، وقال بأنه أحياناً يمضى لقضاء أيام معهم لمساعدتهم في مكافحة الجوع والمرض بالأشغال هنا وهناك، وبممارسة مجازفات خطرة برفقة الرفاق الشماسة. أخبرني بأنه درس بالمدرسة حتى وقت قبل أن تدفعه قسوة الحياة للغوص في مستنقع المدينة الآسن.... الرواية ص٣١). يوضّح هذا المقطع التعريفي السردي أن غالبية المتشردين الذين يقطنون المدن لديهم صلات اجتماعية مع ذويهم في أطرافها ويمارسون داخل المدينة حياة التسول نسبةً إلى تدني الخدمات المجتمعية في مناطقهم مما دفعهم إلى البحث عن حياة معيشية في أماكن أخرى. ومن المفارقات التي تحملها شخصية آدم كسحي بأنه شخصية لا تحمل أي بذرة شرّ تجاه المجتمع الذي يمارس فيه حياته الخاصة نسبةً لأنه التحق بخلوة الحاج محمدو وحفظ بعض سور القرآن وأجبر على ممارسة مهنة العلاج مع الشيخ لعلاج المرضى من النساء تحت ضعوطه واستغلت فحولة كسحي في هذا التداوي مما فكّر في الهروب إلى الشارع مرّة أخرى؛ لأنه يرى أنه لا يمكن أن يكون وسيلة استغلال لعلاج النساء. وتبنّت الرواية في طرحها المجتمعي فكرة التكاتف الاجتماعي أو التبني. عندما توفيت والدة كسحي بالطريقة الدرامية اهتمت المجموعة بتربيته وعنايته، وهي رؤية تؤكّد على الجانب الخيّر في المتسولين وتكاتفهم مع بعضهم بعضاً. يتضح أن الذاكرة التاريخية في السرد نشطت صوب توثيق اجتماعي لفئة المقموعين وأبرزت جوانب الاستغلال الذي واجهوه من السطات المجتمعية ذات الجاه والمكانة، وبناءً على هذا تلتقي رواية (ذاكرة شرير) مع رواية (إضراب الشحاذين) للروائية السنغالية أمينة ساوفال التي تناولت فيها قضايا شحاذي المدن الذين اتخذوا مقراً خارج العاصمة احتجاجاً على استغلال الناس لهم. فهنا كسحي اختار أن يكون حراً وبعيداً عن حياة الاستغلال ويمارس دوره الطبيعي في حياة الشارع. والتقاء الروايتين في مناقشة فئة المقموعين يؤكّد دورهم في الحياة الاجتماعية وإسهامهم في كتابة التاريخ من أسفل، أي من فئة المهمشين. وفي هذا الشأن يقول الناقد صلاح النعمان( وعالم آخر هو عبارة عن منظومة اجتماعية منبوذة لا تحكمها قوانين، بل متمردة عليها، وتبدو في مظهرها الخارجي، أن أي هذا العالم ليست لديه منظومة قيمية تحكمه، وهذه حقيقة نستشفها من خلال أحداث الرواية إلا أن الكاتب بدأ ينحو مسارات داخل النص ابتدع فيها فكرة أنسنة الحياة الداخلية لهذا العالم "عالم المنبوذين والشماسة ومعاقي الحرب... إلخ " وذلك عبر التواصل الإنساني بينهم الذي أتقنه المؤلف والذي تم بين مجموعة أصدقاء كسحي البطل ليخلق من هذا العالم المشرد والمقصي عالماً إنسانياً متكاملاً شيّده بحميمية وصدق في مقابلة العالم المادي)
تطابقت مقاربات توجه الرواية مع خطاب جماعة التابع التاريخي لأن التوجه الذي أسس عليه منصور الصويم روايته انطلق من كتابة التاريخ من أسفل لقضايا فئة مجتمعية تلعب دوراً كبيراً في الحياة.
احالات مرجعية:
١/ عامر محمد أحمد، ذاكرة شرير سرد الأنا المفرد لسجن الروح والجسد، بحوث في نقد الرواية - أوراق المؤتمرات العلمية لجائزة الطيب صالح ٢٠٠٣/ ٢٠٠٨، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي.
٢/ صلاح عوض الله النعمان، ذاكرة شرير خطاب المقموعين أنسنة الهامش،بحوث في نقد الرواية - أوراق المؤتمرات العلمية لجائزة الطيب صالح ٢٠٠٣/ ٢٠٠٨، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي.