رفاعيات 2

رفاعيات 2 بقلم د. نعمات كرم الله تبجيل العلم والعلماء ذكرنا في نهاية المقال السابق إنتحار العالم (حسون ود النعمان) بسبب الصدمة التي تعرض لها والتي فاقت، من وجهة النظر الإنسانية، تحمله

رفاعيات 2

رفاعيات 2

بقلم د. نعمات كرم الله

تبجيل العلم والعلماء

 

 

 

 

ذكرنا في نهاية المقال السابق إنتحار العالم (حسون ود النعمان) بسبب الصدمة التي تعرض لها والتي فاقت، من وجهة النظر الإنسانية، تحمله. ولكن الأوروبيين لم يهتموا لانتحاره بقدر اهتمامهم بعلمه وعقله الفذ الذي تفوّق عليهم. وكانت النتيجة أن تملّك، الأوروبيون عموماً وصديقه وزميله بروفيسور مايكل خصوصاً، الحقد والحسد ليس فقط تجاه حسون (ود النعمان) ولكن تجاه أفراد عائلته بل كل منطقته، وبدأوا أولاً في تدبير شأنهم حتى يقضوا على الجينات التي أنجبته لكيلا يظهر حسون آخر يبذهم، وذلك بمحاولتهم قتل كل القرية.
ثمّ إختار الدكتور مايكل، في إطار تجربة علمية،  شخص إنجليزي يدعى(مستر أندرسون) ليلعب دور (نعمان حسون النعمان)، أي كأنه إبن (لحسون ود النعمان). وتمّ تفريغ عقله الباطن وشحنه بآخر يتقن كل ثقافة وسلوك إنسان قوزقرافي. كما استعانوا بسيدة تدعى (جوهانا ريد)  كباحثة اجتماعية  للقيام بدراسة عن الحياة والبيئة التي نشأ فيها (حسون ود النعمان). وبالفعل عاش الإثنان لفترة في قوزقرافي. وعند قراءة النص نجد أنّ(جوهانا ريد) طلبت من والد حسون أن يسمح لها بالإطلاع على صناديق تخص حسون " یاجــِّدي النعمــان أَنــت تعلــم أَننــي  أَكتــب بحثــا عن قوزقرافي، وابنك  حسون في رأْيِ ركن مهم من أَركان القوز؛ فیجب أَن  أُلم بطرف من حیاته. هكـذا نـاولني  جـدي النعمـان مفـاتیح تلـك الـصنادیق، وأَصـابعه الممـسكة بهـا ترتعش ؛ وذلك بعد أَن وعدته بترتیب محتویاتها كما أَجدها ، وأَلا أَحمل ورقة  منها." (قبيلة من وراء خط الافق: ص210).
 ثمّ تُطلعنا على ما وجدت في هذه الصنادیق "وجدت ملف  أَفریقیا .. شهادات تقدیرَّیة لكفاءته العالیة في العمل .. رسائل من مؤسـسات ومعاهــد وجمعیــات كیمیائَّیــة وفیزیائَّیــة وطبیــة وجیولوجَّیــة وفــضائیة وذریــة وروحَّیة، تدعوه إلـى زیارتهـا والقـاء محاضـرات بهـا .. دعـوات مـن جامعـات إنغلیزَّیـة وأُوروبیـة وآسـیویة وأَمیریكَّیـة ، للانـضمام إلـى سـلك التـدریس بهـا."  (قبيلة من وراء خط الأفق: ص211/212). وهذه قصاصات من صحف إنجليزية قديمة كُتب فيها (النابغة حسون النعمان أحمد طه سبق له اكتشاف ثلاث مواد كيماوية لم تكن معروفة من قبل)...(بروفيسور حسون النعمان يدهش عباقرة العالم)...(حسون النعمان أصغر بروفيسورات العالم سناً، أول مسلم وعربي وأفريقي يراس مجمع الفيزياء النووية، ونادي الطاقة الذرية بأوروبا)..." (قبيلة من وراء خط الأفق: ص147).

 

 

 


ثمّ قامت (جوهانا ريد) بإبداء ملاحظاتها (...لكنني للأَسف لم أَقف على رسالة واحـدة مـن جامعـة عربیـة قـدمت  لـه الـدعوة بهذ ا الشْأن."  (قبيلة من وراء خط الأفق: ص212). ثمّ أردفت بقولها" "أليس غريباً أن تأتي إنجليزية لتكتب سيرة ابن من دفن أحد أجدادها في طين جدول ساقية (حامد)؟ أليس غريباً ألا ينهض بهذه المهمة واحد من بني جلدة حسون، الذين ظلوا مكتوفي الأيدي في انتظار الخواجية." (قبيلة من وراء خط الأفق: ص148).
وهكذا نشرت (جوهانا ريد) كتاباً يوّثق لحياة (حسون) العلمية والعملية والذي  عنونته ب(قوز قرافي المنبع والمصب). وقد كتبت على صفحة الإهداء (إلى أهل قوز قرافي رغم كل شئ).
 وأخيراً يأتي قرار مجلس اللوردات البريطاني، بإيعاز من دكتور مايكل، وهـو" "أَنَّ عظـام حـسون یجـب أَن تـدفن بمـا یلیـق بــصاحبها مــن تكــریم ــــ بــسبب مكانتــه العلمَّیــة ــــ فــي إحــدى مــدافن العبــاقرة والعظماء في بریطانیا." (قبيلة من وراء خط الأفق: ص234).
يرسل الكاتب علي الرفاعي، بدربةٍ ودهاء، مضامينه ودلالاته من خلال الحوار الذي جرى بين شخوص الرواية (الذين يشكلون برلماناً شعبياً متحركاً ينعقد في مناسبة العزاء، أو الفرح أو أمام دكاكين الحلة أو في بيت حاج النعمان أو قبالة النيل على الرمال حيث يشربون عرقي التمر،...)
بــدأَ رضــوان متسائلا
ــ هل قرأتم كتاب الخواجَّیة عن حسون ود النعمان؟
عبدالعاطي : أَتقصد كتاب : قوزقرِافي المنبع والمصب؟
رضوان : أَجل
فرح، بنبـرة من لا یثـق كثیرا بمعلـوماته الجغرافیة : عنـوان الكتاب یوِحي بأَن مجتمع قوزقرِافي مجتمـع مغلـق؛ فـالمنبع والمـصب لا یجتمعـان إلا فـي بحیـرة مغلقة.
المیجر: الخواجیة تعني عكس ذلك، ولكن لیس هذا هو المهم.. َّ الذي یحیرني هو إهداء الكتاب :( إلى قوزقرِافي رغم كِّل شـيء) ، مـاذا تقـصد الخواجیـة بهـذا الإهداء؟
العَّوام : الخواجیة تقصد أَنَّ قوزقرِافي هو بلد حسون ودالنعمان رغـم ظلـم أَهـل قـوزقرِافي لـه؛ لعـدم تقـدیره النـابع مـن عـدم فهـم شخـصیته ؛ أَو علـى الأَقـل فهمها فهًماً خاطئا.  
العـوام : بـل تفصد أنّ حسوناً مـا كـان یجـب أَن یكـون مـن قـوزقرِافي، وعلـى الرغم من ذلك كان منه.
ود العالیابي: بل تقصد أَنها تهدي الكتاب إلى قوزقرِافي، رغم ممارسات كثیرةِ فیه تضایقها.
ود الـسخي : بــل تقــصد بــرغم كــل شـيء أَنهــا تهـدي الكتــاب إلـى قــوزقرِافي، رغم أَنها لا تملك حق الكتابة عن قوزقرِافى؛ لأَنها أَقل مـن ذلـك، إلا أَنهـا فـي النهایة قد كتبت عنه.
فرح : بل تقصد رغم تجاهل العالم لقوزقرِافي الذي أَنجب حسوًنا.
رضوان وهو ینظر إِلى فرح : الخواجیة تقصد رغم غباء أَهل قوزقرِافي؛ لأَنهم لم یفهموا أَنَّ العالم قد خَّلد حسوًنا وتجاهلهم.
 ود العالیــابي : ولكــنَّ التجاهــل لــیس بــدلیل علــى غبــاء المتجاهــل فــي جمیــع الحـالات، وهـو أَیـضا لـیس بـدلیل علـى ذكـاء المتجاهـل فـي جمیـع الحـالات.
ودالباشكاتب: أَنتم جمیعا لم تقرأُوا كتـاب الخواجیـة، أَو قرأتمـوه ولـم تفهمـوه، قرأتموه بأَعینكم فقط؛ فأَولتم الإهداء ولم تربطوه بالمحتوى. (كي لا يستيقظ النمل: ص108/110).
لم يتناول الأديب علي الرفاعي هذا الموضوع فقط في هذا السياق ولكن لأهميته القصوى تطرّق إليه أيضاً في روايته (جينات عائلة ميرو)، من خلال الحوار الذي دار، على متن الطائرة، بين الشخصية الرئيسة وإحدى المسافرات من نيجيريا  فنقرأ :
قلت لي ما هي علاقتك بالدكتور عبد الله الطيب؟
 عبد االله الطیب أُستاذي، أَو إذا تحرینا الدقة تخرجت في قسم اللغة العربیة الذي أَنشأَه بجامعة أحمد بيلو. (...). وبهذه المناسبة فقد قرأت لعبدالله الطیب دیوان أَصداء النیل، والقصیدة المادحة، والأحاجي السودانیة وهو أَحدث كتبه. أَنتم مثلنا، تخلدون أَصحاب زَبَدِ الأدب لا أَصحاب زُبَدتِه." (جينات عائلة ميرو : ص03).  
يطرح الأديب علي الرفاعي هذا الموضوع لأهميته وللتنبيه على ضرورة احترام وتوقير العلم والعلماء خصوصاً كوننا أمة أول أمرها قراءة، والعلماء هم ورثة الأنبياء. ليس هذا فحسب، ولكن من وجهة النظر العلمية، يجب على أي أحد معرفة تاريخ وحكاية أي موضوع أو كتاب أو أي مجال من مجالات العلم قبل الحديث عنه وإبداء الرأي فيه وإلا سيحكي قصته الخاصة به، ولا ننكر انّه إلى يومنا هذا يمكن أن نسمع، في محافلنا وندواتنا ومؤتمراتنا، من يرفع اصبعه ليقول (لم أطلع على الموضوع، او لم أقرأ ولكن أريد,,,). يضاف  إلى كل هذا ضرورة التفكير بصورة علمية، وهو ليس وقفاً على العلماء، وإنما الذي نقصده هو ما وصفه أستاذ الفلسفة الدكتور فؤاد زكريا في كتابه بعنوان (التفكير العلمي:1978، ص6) ، بأنه "ذلك التفكير العلمي الذي لا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها من المشكلات التي يعالجها العلماء (...) وإنما هو ذلك النوع من التفكير المنظم الذي نستخدمه في شئون حياتنا اليومية أو المهنية أو في علاقتنا مع الناس. وكل ما يشترط في هذا التفكير أن يكون منظماً، وأن يُبنى على مجموعة من المبادئ التي يطبقها في كل لحظة دون أن يشعر بها  شعوراً واعياً، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشئ ونقيضه في آنً واحدً، والمبدأ القائل لكل حادث سبب، وأنّ من المحال أن يحدث شئ من لا شئ..."