بــــــانـــد الـــــطـــــيـــــب صـــــــالــــح

بــــــانـــد الـــــطـــــيـــــب صـــــــالــــح لمياء شمت ظل التشابه الكبير بين السودان وموريتانيا يسترعي ملاحظة الكثير من المهتمين، فهو تشابه يتجاوز نمط الحياة والعادات والأزياء والمظهر

بــــــانـــد الـــــطـــــيـــــب صـــــــالــــح

بــــــانـــد الـــــطـــــيـــــب صـــــــالــــح

لمياء شمت

 

 

ظل التشابه الكبير بين السودان  وموريتانيا يسترعي ملاحظة الكثير من المهتمين، فهو تشابه يتجاوز  نمط الحياة والعادات والأزياء والمظهر، إلى الحساسية الثقافية سليلة الدمج الإثني والهجانة العرقية الأفروعربية غابة وصحراء (رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس). وبالتالي تعدد الأعراق والأخلاط والثقافات من روافد عربية وبربرية أمازيغية وزنجية إفريقية، وما ينطوي على ذلك من أسئلة الهوية وقلقها الوجودي.

 


 
ولعل ذلك وكثير غيره هو ما جعل بعض من أهل البحث يجدّون في محاولة تقصي الملامح المشتركة بين التراث الغنائي والموسيقي السوداني، مقارنة برصيد الأغاني وتنوعها وموسيقاها في بلاد شنقيط، من حيث المقامات الموسيقية والإيقاع، وحتى طريقة الأداء وفنون التطريب. وهو ما وقف عنده الراحل إسماعيل عبد المعين وهو يهز جذع الفن المغاربي ليتذوق بديع ثماره، حيث أكد غير مرة أن إيقاع (التُم تُم) قد زُف الينا من قلب حدائق الحس والإبداعات المغاربية.

 

 

 وهي ملاحظة ظل يسوقها بإلحاح أيضاً الراحل عبد الهادي الصديق، الذي ظل  منشغلاُ ومشتغلاً لردح من الزمان بفض أوجه التشابه تلك، تحديداً في حقول الإبداع الموسيقي والغنائي. وقد سطر الكثير عن التلاقح الثقافي الخصب الذي أنتج السلم الخماسي والتم تم والجراري والمردوم. كما أتى كذلك على ذكر بعض الآلات الموسيقية كالمثلث والطار والمزمار قبل أن يدوّن مقولته الشهيرة بأن ( أغنية الحقيبة قد جاءتنا بكل ملامحها من واحات صحراء المغرب)، جازماً بأن (من يستمع الى عبدالله عديدات وهو يغني بالطبل والرق والمثلث "يا ظبية العرجون"، سيؤمن بأن أغنية الحقيبة قد جاءتنا من هناك).

 

 

وقد توفر البعض كذلك على اقتفاء الملامح المشتركة في اللغة كوجه إنساني حضاري هام، فانتبهوا، على سبيل المثال، لأوجه الشبه بين اللغة النوبية واللغة الأمازيغية، كلغات حامو_سامية كوشية الأصل، تتشابه كثيراً في معظم خصائصها صوتاً وصرفاً وتركيباً. كما تتميز برصيدها المعجمي والدلالي الثري الذي أتاحته المرونة الاشتقاقية والتركيبية لتلك اللغات. وأمتد البحث كذلك لتقصي الأثر الصوفي وأدب المريدين، والمنزلة الخاصة للبعد الأرواحي وللمديح النبوي والإنشاد الصوفي وعلو هامته في الحياة الاجتماعية والثقافية.

وتبدو هذه المجموعة من المكونات الثقافية مؤاتيةوكافية لتشكيل كيمياء مزاج متشابه، وطقس وجداني ونفسي متقارب يمتد عبر فضاء حضاري ثر وذائقة ثقافية خاصة، مما قد يسهم في إتاحة تفسير مقبول لطرب الموريتانين للغناء السوداني، وانفتاحهم اللافت عليه، وحرصهم على متابعته، واستساغتهم لمفردته وإيقاعه وموسيقاه. فعلى سبيل المثال فإن كثير من الأشرطة الموسيقية السودانية ظلت تنتشر هناك، بل وتشكل تجارة رابحة لا يكسد سوقها. ومن ذلك أغاني التهارقي المهيب محمد وردي، وكاسيتات البلابل التي تعتبر من الأغاني الرائجة جداً حيث تعرف بأغاني "بنات البلابل".

 

 

وقد توقف الطيب صالح طويلاً عند العلاقة وثيقة العرى بين السودان  وموريتانيا، التي زارها في العام 1975 بدعوة من الحكومة الموريتانية، واستقبله حينها الرئيس مختار بن داداة بتشريفات كبرى وحفاوة استثنائية. وكان الطيب يشغل حينها منصب مدير وزارة الإعلام القطرية. وقد أبدى الطيب صالح اهتماما مخلصا بالأدب الموريتاني بإدراك  عميق لمآزقه الاجتماعية واللوجستية والعلمية المتمثلة في الانكفاء على الذات، وندرة التدوين وضعف الإمكانات. وما ترتب عليها من صعوبات النشر والحفظ. بالإضافة لغياب بيئة وأدوات البحث والتوثيق العلمي، والوعي بأهمية التصدي الجاد للمعوقات الاجتماعية والمؤسساتية والمالية والإدارية، التي جعلت معظم التراث الفكري والإبداعي خارج خزين الحفظ والتوثيق والتدوين.

 وهكذا فقد انبرى الطيب صالح بكل ثقله لإطلاق حملة كبرى لجمع المخطوطات والوثائق التراثية، ولرفد مفاصل المؤسسات الثقافة الموريتانية بما تحتاجه من أدوات وإمكانات. والعمل الحادب لتمويل وتأهيل المعهد الموريتاني للبحث العلمي. بل وقد عمل الطيب صالح بجهد وصبر عظيم على تحصيل دعم مالي ولوجستي وتقني مقدر لوكالة الأنباء، ولهيئة الإذاعة الموريتانية.

 

 

وقد تعددت، خلال تلك الزيارة، الجلسات والمسامرات العذبة والمؤنسة التي تحدث فيها الطيب صالح باستفاضته المتمكنة عن جذر الأواصر السودانية الموريتانية، ومآثر الشناقطة في السودان من العلماء والمتصوفة القدامى، والأسر العريقة التي طاب لها المقام بالسودان، وصولا إلى محمد صالح الشنقيطي، أول رئيس لمجلس تأسيسي سيادي سوداني بعد الاستقلال. وقد أدهش الطيب صالح مجالسيه بتبحره المتضلع وتذوقه الحفي للفن الغنائي والموسيقي الموريتاني، مما حدا بالإذاعة الموريتانية الإعلان عن تسجيل أول أغنية على شرف الطيب صالح. وفي حضور وسيم فخيم قامت  المطربة الموريتانية القديرة ديمي بنت أبا بتقديم الأغنية. وديمي من المغنيات والعازفات الموريتانيات الباذخات، فهي ابنة سيداتي ولد أبا، نقيب الفنانين الموريتانيين، وملحن النشيد الوطني الموريتاني. وقد راج ذلك الكاسيت، الذي حوى تلك الأغنية في بلاد شنقيط لردح من الزمان باسم "باند الطيب صالح".

وعلى هامش مهرجان الجنادرية 1993، وفي مقابلة صحفية، أجراها سيدي ولد الأمجاد، تحدث الطيب صالح روياً عن التلاقي الحضاري العميق بين البلدين، والأثر الهام لبلاد شنقيط على دولة سنار. منوها بدور قوافل العلماء والأدباء التي ظلت تترى من تلك الأصقاع الوهابة، وما حملته معها من خصوصية وحساسية بيئية وثقافية. وقد سرد الطيب صالح، ببشاشة أصيلة وبمحبة جزيلة، تفاصيل صداقته مع عدد من المبدعين الموريتانين من أمثال محمد سالم ود عدود، والدبلوماسي والإعلامي محمد محمود ودادي وغيرهم.