شعرية فضيلي جماع .. عصف الذاكرة واستحضار المكان

شعرية فضيلي جماع .. عصف الذاكرة واستحضار المكان لمياء شمت يكشف المنجز الإبداعي الشعري للأستاذو فضيلي جماع، في كثير من نصوصه

شعرية فضيلي جماع .. عصف الذاكرة واستحضار المكان

شعرية فضيلي جماع .. عصف الذاكرة واستحضار المكان

لمياء شمت

 


يكشف المنجز الإبداعي الشعري للأستاذو فضيلي جماع، في كثير من نصوصه، عن شعرية تبدو فارطة في حسها الجغرافي، وتغلغلها المكاني الحميم، حتى أن النصوص تتمدد هناك كجغرافيا شعورية مترامية، يشكل فيها استدعاء المكان واستحضاره غاية ومرادا كامنا، يجعل الشاعر يتبوصل به في توق عنيد، حتى يطأ تلك التخوم، ثم يمضي ليتفقد أركانها، تاركاً لنا اقتفاء أثر خطواته الولهى على رمل القصيد، حيث يجعل من ذلك الحيز متكأ طوباوياً، تتوامض فيه الذكريات، ويفوح منه شميم الصبا والطفولة الخضراء. ويرتبط ذلك تلقائياً بكونها أيضاً شعرية شغوفة بنبش الذاكرة، ويتضح هذا المنزع في التورط الغائر في ثيمة الاستدعاء، بكل ما تحمله من مختزنات ذهنية ونفسية ووجدانية. وكذلك في كثافة استحضار الأمكنة، وعمق انغراسها في الوعي. فالنص الشعري للأستاذ فضيلي جماع يظل يهجس بالمكان، ويلهج بموجوداته، ويقابس جذوة الذكرى، التي يبدو أن لا شيء يفلح في تخميد أوراها. وهكذا لا يبقى للشاعر سوى أن يهمز نواصي قصيده، ملبياً لتلك النداءات اللحوحة المُستحرة، ثم يمضي ليقترفها إلى أقصاها:

فوق زندي وشمُكِ السمْحُ النبيلْ
وبقلبي ضجّةُ الغاباتِ
تسْكابُ الينابيعِ
وأصداءُ الفصولْ
غرسوني في حواشيكِ فأينعْتُ
سقوني من رذاذ المطر الناعمِ
في الليْلِ تفتّحْتُ
هنا يكبر حجمُ القمر الناعسِ
تحبُو الشمسُ بين السحبِ الحُبلى
كما الطفلِ
هنا يصبحُ طعمُ العشق
في ذاكرتي كالبرتقالْ

غير أن الشاعر لا يختزل التسفار وسوانح الإطلال على الأمكنة الحبيبة إلى محض تفجع نوستالجي، بقدر ما يجهد ليحولها إلى مرقى استبصاري، يتيح فسحة التأمل والتفكر والنظر، حتى لكأنه يحاول عبرها إعادة التعرف إلى العالم وكائناته وموجوداته بإحساس ينحاز لجوهرانيتها. وهكذا فإنه يمضي في محاولات تواصل لا تكتفي بالإصغاء ولكنها تعمل على إنطاق تلك الموجودات واستعادة صوتها الخفيت أو المُغيّب.

 

 

من حدقاتِ الأيتامْ
يتسلّلُ ضوْءُ الفجرْ
يمتدُّ لطيفاً بيْنَ فروعِ الأشجارْ
يتساقطُ بين أصابعِ طفلٍ يحلُمُ بالألوانْ
عن أكمام الزهر أمد العنُقَ لأبحثَ
وعن أقواسِ النُّورِ وكفّ النارْ
أهيمُ فتختلطُ الأشياءُ
وتولدُ في المنْفَى أعراسُ الشعرْ
من جوفِ اللّيلِ ومن أعماق البحرْ
تنتفِضُ الرّيحُ مُدوّيةً فوْقَ الشطآنْ
يا ريحُ.. جميلٌ هذا الضرب
على جنباتِ الصخرْ
أحبُّ جمال الغضبِ الراعفِ
حين يدقّ جدار الليلِ َ
ويكسِرُ بابَ الصمت

لابد لنا كذلك في هذه العجالة من الإشارة إلى سعة الخيال وحيوية أحاريكه، ما يكشف بدوره عن قابلية اللغة للانفتاح أكثر على المغامرة، واستيعاب المزيد من توسعات الأطياف الدلالية وطاقتها التعبيرية، وكذلك الانزياحات الأسلوبية المباغتة، وما تتركه من وسم جمالي على أفق التلقي، حيث تتمرد اللغة، حين يشاء لها مبدعها، لتنضو عنها الارتهانان البنائية والقاموسية، وتنطلق، كما ينبغي لها، إلى أقصى عنفوانها الجمالي وإمكاناتها التأثيرية.

 

 

ونعود إلى النصوص التي تظل مشدودة إلى غلاف ذلك المدار الطاقوي الجاذب، حيث يبدو الشاعر حريصاً على إبراز خصوصية المكان الكردفاني المستدعى، واستزراع الذكرى، واستنباتها على حافة الهنا والآن، حيث يختار أستاذ فضيلي جماع أن يظل ابن القرية المدنف الضارب في حقول الذاكرة، دون أن يتسيج بها. مرسلاً صوته في مناداة نغيمة عذبة، لاهجة بالمحبة وإشارات الود الرهيفة، وهو يدعو الأماكن بأسمائها، وتسوخ خطواته في رمالها، وهو يتطوف بها، ويزور باحاتها وأزقتها وبيوتها، بملامحها البسيطة الأليفة. وقد تتماور حينها تدافعات الذكرى واعتمالاتها، فتتداخل الأصوات، ليُسمع عبر النصوص غناء الحكامات وهسيس الأهازيج الشعبية، وإيقاع رهز الرقص الجماعي، ونفح حكمة الأحاجي، ورنات الضحك البض وشهقات الانخطاف البكر. ولتطل من هناك وجوه من مضوا، بل وملامح الذين لم يولدوا بعد. فلكأن النداء عبر النصوص الشعرية يستحيل منادمة روحية، وتباوحاً عرفانياً، يتخطى الشوفينيات المغلقة، ويرتحل إلى أفق أوسع، ليتموضع في رحابة الإنساني، وليترسخ في ذلك الحقل الوسيع، الحفي برعاية تبرعماته الطرية.

صدح الصوت الطروبْ
إيه يا حكامتي..
صوتك عرس وصلاة
فيه ما فيه من الحب
وأحلام العذارى
وتعلات الملايين
بخبز وحياة

ولا تخلو النصوص الشعرية لأستاذ فضيلي جماع كذلك من نسيج حكائي، بتوتر درامي يلامس تفاصيل اليومي في لقطات مكثفة، يعرج بها الشاعر من حدود النص إلى سردية الحياة المركبة، حيث تتوزع الحكايا هنا وهنا بزوايا تصويرية، تعج بالمرئيات والمسموعات والتعابير الحركية، حيث تسجيل المشاهد الحية، وتركيم الأصوات وتسخير المفردات البيئية الخاصة لمزيد من توثيق الإحساس بالمكان وأشيائه، حيث يُظهر الشاعر ميلاً جارفاً للحكي المروحن، ويمضي ليجمع أطرافه، ويشد عصبه، في تداعٍ متصل قد يربك خطية الزمن وإحداثيات الجغرافيا، لكأنه يختار أن يظل مخلصاً لإحساس لا نسقي ولا زمني، يتبع منطقه الخاص، رغم تلك المراوحات المضنية بين الآن والكان، وبين الهنا والهناك، ليتجمل مصطبراً على المشقة وهو يرعى نطف المقاطع والحكايا وهي تتخلق في كبد، حتى يتناهى لحسه طرق تلك الركلات الحميمة على جدار رحم القصيدة.

عندما غنّيْتُ
قام العُشبُ يرقصُ والحجارة
كان صوتي رائعاً
فالحزنُ أكسبَه النضارة!