خارج المتاهة / محمد عتيق*   "أعرافٌ"  بين كتلتي الثورة وأعدائها

خارج المتاهة / محمد عتيق*  

*خارج المتاهة / محمد عتيق*
  "أعرافٌ" 
بين كتلتي الثورة وأعدائها
--------------------------------------------------
"الحوار السوداني السوداني" مطلب صحيح في مبناه وفي معناه ، بل هو هدف دائم . ولكنه يأتي(غالباً) مشفوعاً بعبارة "حوار لا يستثني الّا المؤتمر الوطني" ، "إجراء الانتخابات العامة في موعدها" أو "ما تبقى من الفترة الانتقالية" ، وغيرها من عبارات ومصطلحات أصبحت من لغة هذه المرحلة ، وهي تطرح بقوة أسئلة عن : هوية الثورة ؟ لماذا هي وما معنى هذه المصطلحات فيها ؟

   الثورة تعني أن هنالك كتلتين متناقضتين ؛ الأولى تمثل الوضع السائد ، والثانية تمثل النقيض  لذلك الوضع السائد ، أي ما يجب أن يكون عليه الوضع في ذهن الثوار ..
  كان الوضع السائد في بلادنا هو هيمنة قوى دكتاتورية فاسدة مستبدة ، كاذبة وفاشلة ، تقول الشيء وتفعل عكسه .. أما ما يجب أن تكون عليه الأوضاع في معتقد الثوار فهو تحقيق تحول ديمقراطي وتأسيس سلطة مدنية بالكامل تعمل - بالتنسيق مع مؤسسات متخصصة تؤسسها - على إعادة بناء كل ما دمرته سلطة "الوضع السائد" ووضع الأسس اللازمة لها ، تحقيق السلام في كل اقاليم الوطن ليعود النازحون واللاجئون من أهالي دارفور والمنطقتين إلى ديارهم الأصلية وفي حواكيرهم وممتلكاتهم ، وتعويضهم : مالياً على مفقوداتهم  وتنموياً باعطاء مناطقهم أفضلية ورجحاناً في خطط التنمية التي يجب أن تنتظم البلاد ، ثم إجراء التحقيقات اللازمة في كل الجرائم وتنفيذ مبدأ العدالة الإنتقالية لبعضها وتسليم المطلوبين لدي المحكمة الجنائية الدولية ، تفكيك بنية النظام السائد والتمكين الذي أسس له ومارسه واستعادة الأصول والأموال المنهوبة ، وإشاعة الامتثال لحكم القانون مع الحريات الاكاديمية والعامة الأخرى...
    ولكل كتلة من الكتلتين أطراف وقوى اجتماعية لها مصالحها وطموحاتها ورؤاها التي تتناقض تماماً مع تلك التي للكتلة الأخرى :
- فالكتلة الأولى التي تمثل الوضع القائم ، هي الحركة الاسلاموية السودانية بمختلف فروعها ومسمياتها : المؤتمر الوطني ، الشعبي ، الإصلاح الآن ، وغيرها ، مع حلفاء لها في الحكم ، استفادوا من نفوذها وسلطتها ، فمارسوا معها النهب وتحقيق المغانم والجاه مُمّثَّلين في بعض الفروع المنقسمة من حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي مع أسماء أخرى من الانتهازيين كالذين التحقوا بالسلطة بعد مفاوضاتِ سلامٍ خاضوها معها باسم الثورة في دارفور ، ثم بعض القوى الاجتماعية الانتهازية وسط الإدارات الأهلية والطرق الصوفية وغيرهم من الذين يمثلون معها الطبقة الراسمالية الطفيلية ، السمسارة العرجاء ، طبقة الفساد والمحسوبية والنهب والاعتداء على المال العام وممتلكات الدولة ..
- الكتلة الأخرى في الصراع ، كتلة الثورة ، يقف فيها شعب السودان بشرائحه المنتظمة في القوى السياسية والاجتماعية المختلفة أو غيرها من الشرائح غير المنتمية ، ومعها (هنا وهناك) قوى الشباب ، الأجيال الجديدة ، خاصةً تلك الشرائح التي رأت النور وأتت إلى الحياة في عهد الكتلة الأولى،  كتلة السلطة الاسلاموية، ولم تَرَ غيرها سلطةً وحكماً ، الأجيال التي لا تعرف من الحريات والحكم المدني الديمقراطي كثير شيء ولم تشهد تنميةً وبناءاً وحفظاً للممتلكات العامة واحتراماً لها ولا رعايةً حكوميةً للمواطنين في التعليم والصحة ومختلف الخدمات العامة ، لم يروا شيئاً من ذلك الَّا في وسائل التواصل التي - ولحكمة - جاءت ثمرةً من ثمار الثورة العلمية الضخمة في عالم الاتصالات، فشاهدوا كل ذلك أمامهم في الدنيا ، وشاهدوا أقرانهم  في دور العلم ومؤسسات الصحة والترفيه ، ينظرون إلى المستقبل بثقةٍ واطمئنان في ظل دول تنعم بالاستقرار والتبادل السلمي للسلطة...إلخ لتنعقد المقارنات في مخيلاتهم وتنهض عزماً وقوة .. فانضمت تلك الأجيال الجديدة إلى بقية الشعب وقواه تنادي بسقوط النظام وتصفية كافة ركائزه لمصلحة تحولٍ ديمقراطي وحكم مدني أساسه الحريات وسيادة حكم القانون ونهضة شاملة تعم البلاد ومستقبل مليء بالوعود الزاهية يلوح للشباب .. 

   إذا كانت تلك هي الكتلتين المتواجهتين،  المصلحتين المتعارضتين البارزتين في واقعنا ، فإن هنالك "أعرافاً " بين الكتلتين تقف عليها مجموعات من هنا وهناك (من الكتلتين) ، لا تلتقي مع كتلتها حتى النهاية ؛ معها إلى حدود معينة ثم تلتفت للكتلة الأخرى فقد نشأت لها مصالحَ تلتقي فيها معها ... وهنا فقط نجد التفسير لأسباب الشعارات والمطالب المتضاربة التي تصدر عن البعض ؛ تنادي بمبدأ "الحوار السوداني السوداني" وتصف ذلك الحوار ب "الذي لا يستثني الا المؤتمر الوطني"، وتطالب ب "إجراء الانتخابات في مواعيدها" وتشير إلى "ما تبقّى من الفترة الانتقالية" :
- كيف يجوز لنا وصف الحوار السوداني السوداني بالذي لا يستثني سوى المؤتمر الوطني ؟ ، ألم يكن للمؤتمر الوطني حلفاء يجب أيضاً استثناءهم من الحوار السوداني حول شؤون الثورة ؟ .. نعم ، كانت هنالك  تيارات ورموز على حلفٍ مع المؤتمر الوطني ، تنعَّمت معها بخيرات البلاد ورمت الثوار بأقذع الصفات وهم يتلوُّون في مراكز الاعتقال والتعذيب تحت السياط وأدوات التعذيب .. تيارات ورموز اشتركت مع المؤتمر الوطني في نهب الممتلكات العامة وتدميرها ؛ فهل هنالك من همومٍ للثورة والتغيير يُشاركون فيها ؟ .. 
- وكيف لنا إجراء انتخابات عامة دون أن نضع اللبنات اللازمة لتأسيس دولة السودان في مؤتمر وطني يضع دستوراً للبلاد فيه الإجابة على كيفية حكم السودان ، وقانوناً للانتخابات على ضوء ذلك الدستور ؟..
- وقبل ذلك ، كيف نقول : "ما تبقَّى من الفترة الانتقالية" ؟ هل هي أصلاً بدأت ؟ ، ألا تعني "الفترة الانتقالية" ، فيما تعني ، انتقالاً من وضعٍ لآخر ، من دولة لها سماتها وأهدافها وقواها إلى دولةٍ أخرى نقيضة ؟ من عهدٍ دكتاتوري مستبد وفاسد إلى عهد ديمقراطي تنموي يسود فيه حكم القانون وتتأسس دولة الرعاية الاجتماعية والإنسانية ؟ إلى اعلاء شأن الوطن وقيم الأمانة والشعور بالمسؤولية ؟ ، ثم ألا تشمل الفترة الإنتقالية واجبات تتمثل في وضع اللبنات اللازمة لإعادة بناء كل الدمار الذي أحدثه الاسلامويون وحلفاءهم في الوطن ؟

  ليس رفضاً ذاتياً بالمعنى المتخلف "كما عزلوا وأقصوا الآخرين" وإنما للأسباب الموضوعية الظاهرة ..
 16.10.2022