المؤتمر العلمي للرواية السودانيَّة الثاني عشر – أكتوبر 2015م

بسم الله الرحمن الرحيم المؤتمر العلمي للرواية السودانيَّة الثاني عشر – أكتوبر 2015م "الرِّواية السودانيَّة في الفترة 200-2015م " أصوات جديدة في فضاء متحوِّل ورقة نقدية بعنوان : تعدد الأبنية السَّردية في رواية مشروع إبراهيم الأسمر الرِّوائي إعداد وتقديم : أبوطالب محمد

المؤتمر العلمي للرواية السودانيَّة الثاني عشر – أكتوبر 2015م

بسم الله الرحمن الرحيم

المؤتمر العلمي للرواية السودانيَّة الثاني عشر – أكتوبر 2015م

"الرِّواية السودانيَّة في الفترة 200-2015م "

أصوات جديدة في فضاء متحوِّل

 

 

ورقة نقدية بعنوان :

 

تعدد الأبنية السَّردية في رواية مشروع إبراهيم الأسمر الرِّوائي

 

 

إعداد وتقديم :

أبوطالب محمد

 

المقدِّمة :-

تسعى هذه الورقة لتقديم قراءة نقديَّة تطبيقيَّة فِي رواية مشروع إبراهيم الأَسمر للكاتب حامد بدوي، وتركِّز على تعدُّد الأبنية السَّرديَّة داخل النَّص مِنْ خلال عنونة رئيسة وفرعيَّة؛ توضح أبنيته السَّرديَّة ودلالات نسقها التَّاريخي. وقرآتها للحاضر، وهي مِنْ ضمن الروايات التي فازت بجائزة الطيِّب صالح للإبداع الروائي فِي الدورة الخامسة أكتوبر 2007م (مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي)، ويُطلق عليها الرِّواية التَّاريخيَّة نسبة لتوظيفها لفترة المهديَّة بتقنيَّات سَرد تتداخل فيها مستويَّات أبنية متعدِّدة تعكس مرونة النَّص، واستيعاب كاتبه لأساليب الشكل الفنِّي فِي بنائه، ومقدرته علي سياق الحاضر اجتماعياً واقتصادياً ودينياً، التزاماً بنسق تعدَّد بنيوياً وانسجم موضوعياً عبر ثمانية فصول...... جريمة الصمت – الحضور – البدايَّات – التِّيه – انكسارات الشيخ حمَّاد – وجه مريم الحزين – أشواق النزوح – العودة، هذه الفصول تعيد على قارئها صفحات مِنْ تاريخ السُّودان، حيث أراد الكاتب مِنْ خلالها أنْ ينظر للحاضر بعين الماضي.

أشكال البنيَّات السَّرديَّة فِي النَّص :-

أ/ بنية الشكل التَّاريخي :

يشكل التَّاريخ منبعاً ثرّاً وشائكاً فِي الوقت نفسه، يستقي الكُـتَّاب والروائيون مواضيع كتاباتهم محللين، ومفكِّكين ومترجمين وقائع الأحوال ومعلِّقين على الحوادث التي يستقونها، أيّ يتمُّ استجرار بعضها وتقديمها بصياغة جديدة مع المحافظة على المضامين كما هي؛ أيَ التحلِّي بأمانة المؤرخ، وقديماً يمارس آخرون التَّدقيق والنظر إليها بمعايير العصر الجديد؛ والعودة إلى التَّاريخ تأتي مِنْ باب الشَّغف التَّاريخي، أو الانطلاق مِنْ رغبة انتصاريَّة أو استعراضيَّة أو تحليليَّة تفكيكيَّة تأخذ مِنْ الماضي لترسم خرائط المستقبل، أو للانتقال مِنْ راهن ضبابي عام، وقد تغدو الرِّواية شبه محاكمة تاريخيَّة لمرحلة بعينها، أو ربّما مِنْ باب التَّجيش لتاريخ يستميت الروائي لتقديم ولائة المفترض عليه، ليكون لائقاً بما قُدِّم له، وربَّما تُشكِّل بعض الحوادث التَّاريخيَّة ندوباً فِي الذاكرة لا محال للاستشفاء منها إلَّا بالرِّواية.(1)

ومِنْ خلال هذا تظهر طبيعة العلاقة بين التَّاريخ وكتابة الرِّواية فِي اللحظة التي تبدأ بها الرِّواية؛ فهي علاقة غير مستقرة مع التَّاريخ يبدو فيها القلق والرغبة والتوجيه الجديد لمسار التَّاريخ، أو نقده، أو التعالي على جبروته، وعليه تقسِّم الباحثة ديانا شطناوى فِي كتابها "تمثيل العصر المملوكي فِي الرِّواية العربيَّة" الي ثلاثة أتجاهات :-

ا/ التَّمثيل السَّردي للتاريخ – سرد المطابقة.

2/ التَّقنع التَّاريخي – سرد المطابقة الموحيَّة.

3/ الميتاقص – كتابة التَّاريخ (2)

رواية مشروع إبراهيم الأَسمر تندرج ضمن تقسيم الاتِّجاهات أعلاه بغض النظر عن التمرحُّل التَّاريخي، حيث مثلَّت الرِّواية الاتِّجاه التَّمثيلي السَّردي وفق أبنية مطابقة للأبنية التَّاريخيَّة المُستعارة وأعادت صياغتها بــ Modern Structure، وفِي الاتِّجاه الثَّاني تقنَّعت الرِّواية برؤية موحيَّة فتحت الماضي على الحاضر

واحتفت بالحظة التَّخيُّليَّة السَّاردة، وفِي الاتِّجاه الثَّالث تحاورت الرِّواية بوعي مع التَّاريخ والقص لا بشكل نوستالجي إنَّما قدَّمته فِي مواعين ناقدة للفترة الزمنيَّة التي إتكأت عليها الرِّواية.

 

 

 

ب/ بنية الرِّسالة :

      وظَّف السَّرد شكل الرِّسالة أو المراسلة إلى ضمير الغائب  ( إبراهيم الأَسمر ) عبر صوت الراوي العَليم موجِّهاً خطابه السَّردي حول دخوله وتأسيسه لعالم سردي يكون فيه بمثابة مُحرِّراً، وعبره ينتقل السَّرد ويحكي بداية عودته للوطن عام 1991م بعد خمسة عشر عاماً قضاها فِي الاغتراب، وتفاصيل السَّرد لعودته توضِّح ارتباطه ببنية أمكنة تتضمَّن رسالته وفق فضاء مفتوح فِي عتبات النَّص يُمثلِّها الصندوق الذي عثر عليه أثناء حفر أساسيَّات المنزل؛ حيث يحتوي على أوراق ومذكِّرات. الورقة الأولى  تحتوي علي تفاصيل الصراع القبلي وانفصال الشيخ هزلول بعد اإنفصاله مِنْ بني زيد الهلالي، وتحوي الورقة الثَّانية السَّرد الماضوي لحروبات الزبير ود رحمة واقتراحاته لحروب جديدة ضدّ التُّرك.

 

ج / البنية السِّيريَّة ( المذكرات ) :-

دفتر صغير يحتوي على سيرة إبراهيم الأَسمر وميلاده فِي مدينة أم درمان، وعن وفاة أمه وعدم معرفته لأبوه، لأنَّه غادر وتركه صغيراً مع والدته قبل 47 عاماً كبر بدونه وحقد عليه، كلما استدعي ناظر المدرسة آباء التلاميذ، وبدأ يبحث عنه وعن معرفته بأصل قبيلته، ومِنْ خلال سماعه لسيرة القبيلة وسيرة شيخها الذي واجه امتحان اندلاع الثَّورة المهديَّة وواجه أيضاً غزو الفتح الإنجليزي المصري فِي صدر القرن العشرين، وتخبرنا سيرة بإصراره  لكتابة رواية.

 

 

 

 

د/ بنية التعليق :-

تجمع التعليقات مقدِّمة إبراهيم الأَسمر مثل (عرفت أنني بإذاء كتابة رواية ولم يكن هنالك شئ مُرتَّب وواضح التَّسلسل فِي الأوراق التي عثرت عليها سوى هذه المقدِّمة )،  صار الراوي متورِّطاً فِي كيفيَّة مواصلته لمشروع إبراهيم الأَسمر، أم ينفض يده عن المهمة ويصرف النظر عنها، وصرف النظر جريمة ارتكبها تجاه مذكرات إبراهيم الأَسمر.

                                             المحرر- أم درمان 12يوليو 1994م

لذا صارت استهلاليَّة النَّص الأولى مُستندة على بناء سردي معكوس يُمثِّله المسمَّى الأوَّل فِي النَّص (جريمة الصمت)، بمعني إذا صمت عن تحرير المذكرات صمته يمثل جريمة، وإذا واصل فِي تحريرها يصير مُحرَّراً ممَّا جعله مشرعاً فِي تحريريها (المذكرات)، وأصبحت بنية السرد فِي عنونته ومداخله معكوسة إيجابياً.

و/ البنية الأسطوريَّة :-

وظَّف النَّص أسطورة الغريب الحكيم، وقيل عنها سادت بشكل جلي فِي الثَّقافة الإفريقيَّة خاصَّة تلك التي تلاقحت بالثَّقافة الإسلاميَّة عبر مختلف المراحل التَّاريخيَّة، والثَّقافة السودانيَّة واحدة مِنْ نماذج هذه الثَّقافات، والأمر الذي يفسِّر بروز الأسطورة فِي الأدب الشعبي للمجموعات السودانيَّة المتأسلمة، ولهذا لَمْ يكن مِنْ الغريب ظهور الأسطورة أو بعض موتيفاتها فِي روايات الطيِّب صالح الذي ظلَّ يقترب مِنْ الأسطورة ويوظفها توظيفاً  جمالياً....تزخر الثَّقافات الأفريقيَّة بالعديد مِنْ الإشارات لظاهرة (الغريب الحكيم) فِي آدابنا الشعبيَّة.... والحديث عن (الغريب الحكيم) الذي يظهر فجأة وسرعان ما يصبح واحداً مِنْ هذه الجماعة، ويكون ظهوره عاملاً مؤثِّراً فِي تفسير واقع الجماعة وتطوُّرها (1).        

و(الغريب) فِي النَّص اِندمج فِي المجتمع منذ وصوله يأمر وينهي كأنه شيخ القبيلة صار مؤذناً لها، ويؤم الناس فِي الصلاة، ويأمر بملء أواني الماء ويرتِّبها، ويعلِّم بعضهم الوضوء، ويقرأ عليهم القرآن بصوتٍ جهور، حدَّثهم عن ظهور المهدي المنتظر؛ وأمر القبيلة باتباع نهجه، وحدثهم عن تشابه معاركه مع معارك سيدنا محمَّد (ص) وعدد جيش الأنصار ومطابقته بجيش المسلمين فِي غزوة بدر، ويتلو عليهم مِنْ منشوراته ويأمرهم بالجهاد، هذا جعله مُحدِثاً أثرا ًكبيراً فِي توجُّه القبيلة واتباعهم لسبيل المهدي، لأنَّه داعية ومُبشِّراً لظهور المهدي، لأنَّ الفترة التي كثرت فيها الأقاويل عن المهدي كانت القبائل تعيش فِي حالة ضيق وقلق مِنْ حكم التُّرك وفرض نفوذهم، وسيطرتهم على أموالهم، وإجبارهم على دفع قيمة مِنْ الضرائب بثمنٍ باهظ، هذه مرجعيَّات ساعدت على ظهور (الغريب) وتنبيهه للقبائل بظلم التُّرك ممَّا جعله يتمكَّن فِي الاندماج، ويرحَّب به، ويتعامل كفرد مِنْ أفراد القبيلة.

هـ/ سيرة بني هلال :-

يوضِّح الراوي العليم مِنْ خلال انفصال القبيلة الأمّ عن إبي زيد الهلالي ونزوحها مِنْ تونس الخضراء جنوباً عبر الصحراء (انظر – إبراهيم إسحق "هجرة الهلالين")، ويشير السَّرد الى الأهوال كأمكنة مفتوحة تعكس الصراع المحتدِّم بين أبناء القبيلة داخل بيت الشيخ هزلول، ويوظف السَّرد الألغاز التي يرسلها هزلول عبر زوجته إلى أبيها لكي يثبت لها تفوُّق عنصره على عنصرها، وكما يشير السَّرد الى تفشِّي وباء الجدري الذي أصاب الشيخ حمَّاد المجدور، وحمَّاد بحكم معرفته بتاريخ القبيلة متَّن علاقتها مع جيرانها مِنْ النِّيليين، وخلق علاقة مع كبيرهم لحسم الصراعات، وتزوَّج مِنْ أحدي بناته، وأعطى ما يملك مِنْ ثروة لتزويج شباب القبيلة مِنْ النِّيليَّات، وكان يسخر مِنْ يعترض على ضياع دم القبيلة العربي قائلاً :( أنهم جهلة لا يعلمون شيئاً مِنْ أصل العرب؟ أليس جدهم إسماعيل بن إبراهيم مِنْ هاجر النِّيليَّة)، ويعكس السَّرد التفاصيل التي حدثت بعد مماته (حمَّاد المجدور)، ودخول القبيلة مِنْ جديد فِي حروب بقيادة ابنه أبو حوَّة الأَسمر؛ الرجل الذي نصفه عربي ونصفه نيلي، واتُّهم حمَّاد المجدور لإنشائه لقبيلة محاربة وعنيفة وعدوانيَّة دبرت ودمَّرت ونفَّذت لأنَّه جنى سعادته الشيطانيَّة، وابنه أبو حوة جنى مجده الدَّموي، وترك حمَّاد حنكوك يدخل فِي حروبات ضدّ عيسي الإحيمر رجل الحكومة التُّركيَّة بعد خلاف معه، بهذا يندمج فعل السَّرد ويعمِّق ماضويته بظهور الفقير أبوبكر؛ ومعرفته بالصراعات المحتدِّمة، وسعى لهزيمة عيسى الأحيمر، وأمر أنْ يعطوه بنتاً بكراً، ونُفِّذ شرطه، وأعطاها أرنباً وأمرها أنْ تُطلقه، إذا ركض ناحيَّة العدو فأعلموا أنَّكم منتصرون، وإنْ ركض تجاهكم فليس أمامكم سوى الثَّبات والقتال، وركض الأرنب تجاه العدو وصارت نتيجته وفقاً لمعتقده النَّصر، بهذا حُقِّق الإنتصار وتجمَّعت القبيلة فِي بيت الشيخ وبايعوا المهدي.

 

الشكل الفنِّي للرواية:-

أ/ الشَّخصيَّات :-

 احتشدت الرِّواية بالعديد مِنْ الشَّخصيَّات منها شخصيَّات تاريخيَّة مثل: حمدان أبو عنجة، والزبير ود رحمة وغيرها، وشخصيَّات متخيَّلة مثل:الغريب،

ومريم الحزينة، والفقير أبو بكر، وحمَّاد المجدور وغيرها، جميعها شخصيَّات فاعلة فِي النَّص لعبت أدواراً مُفتعلة ومحدَّدة تفاعلت فِي بنية السَّرد، وساهمت بطرح خطاب متفاعل مع رؤية النَّص ونظرته للماضي وقراءته للحاضر.

ب/ الأمكنة- مفتوحة ومغلقة :-

مِنْ الأمكنة المفتوحة فِي الرِّواية ميادين المعركة التي تشير إلى حروب المهديَّة ضدّ التُّرك، والأرض السكنيَّة التي قرِّر أنْ يبنى فيها منزلاً وصارت مسرحاً للأحداث أتكأت عليه الرِّواية فِي عتباتها الأولي، ومِنْ الأمكنة المفتوحة فريق الشيخ عيسى؛ باعتباره المكان المنصهر فِي الزمان ودلالاته الإيحائيَّة لاستقبال أبو حوة الأَسمر إلى أهله، لأنَّ المكان مثَّل ارتباطه بصباه وشبابه ومعرفته لأوَّل مرَّة فِي حياته لأهله.

  • الأمكنة المغلقة : تتمثَّل فِي المنزل الذي مثَّل انطلاقة مجريات الأحداث واحتفاء الراوي بقراءة أوراق ومذكِّرات إبراهيم الأَسمر، ومنها السجن وإيحاءاته بانهيار دولة المهديَّة على يد جيوش الإنجليز واستغلَّه لصالحهم، وبالإشارة إلى مكاتب الحكومة الجديدة بالخرطوم، ومنها أيضاً المسجد وبيت الخليفة التي تُعقد فيه جلسات لتدبير شئون الحروب، ومنها القطية التي شكَّلت حمايَّة لأبو حوَّة الأَسمر عندما وجدته مريم الحزينة جريحاً وظآمئاً أطعمته وسقته وضمدت جرحه، ومثَّلت القطية أيضاً حمايَّة لأبو حوَّة مِنْ عسكر الغُزاة، عندما قصدوها؛ أسرعت وغطته بثوب مُتسخ وخرجت للقائهم، وأجابت على أسئلتهم قائلة: (هذا أبي يرقد بين الموت والحياة بسبب الجزام والسُّل – ارتعب الجنود؛ وهربوا)، ومِنْ الأمكنة المنفى إلى الريف المصري  وشكَّل لدى الشَّخصيَّات إبعادهم عن الوطن والخوف والحذر مِنْ الإنجليز.

 

ج/ اللُّغة :

عاميَّة وفصيحة، والمستوى الأكثر تدعيماً فيما يخصُّ اللُّغة وذاكرة الماضي (الشِّعر)؛ يعكس الراوي عبره واصفاً جمال فزاريَّة بأنَّها أجمل بنات الشيخ تغنَّى الشُّعراء بعيونها وشعرها وقوامها اللَّادن وقال فيها الشاعر الصديق الجرداقي :

                                   عجيلة الدّور الراعيها عليها خائف

     هيبة الباشا الحُراسها واقـــــــــــــــــــــــف

     للـــبنات بلاك قليـــبــــــــــــي عايــــــــــــــــف

               بتين يا صيد الخلا النافر توالــــــــف.

 

تداخل الشِّعر كأيقونة فنيَّة عمقت تقنيَّة السَّرد الماضوي؛ واصفاً لشخصيَّة فزاريَّة وبكائها على ماضيها ونفورها مِنْ الزمن الحاضر، واستدعائها يوم عُرسها؛ يوم ضُرِبت نُقارة (جودة)، وتطرح أسئلة مبكيَّة على ماضيها :- ماذا قالت بخيتة يوم عرس إبراهيم؟ وتغنِّي.... وماذا قالت أم سلمة يوم ختان ابنها يس؟ وتغنِّي....

ومِنْ خلال حاضرها المُبكي تتداخل سرديَّات الراوي مع سرد فزاريَّة، ويصير صوتها مسيطراً فِي السَّرد الماضوي بأزمنته وأمكنته، ورابطةً تاريخ القبيلة ووجودها فِي أماكن منعزلة تفصلها عن تلقي الأخبار وما يجري فِي أمكنة أخرى؛ طارحة نمط يحمل فيه السَّرد خبراً.

مَنْ مِنْ الشيوخ قد توفى؟ ومن مِنْ أبنائه قد خلفه؟ ماأخبار التُّرك وحملات جباية الضرائب؟ ماذا فعل التُّرك بالزبير ود رحمة بعد أنْ سجنوه فِي مصر وقتلوا ابنه؟ ماهي أمراض الحيوان لهذا العام وفِي مال أيّ مِنْ القبائل ظهر؟  

بهذا الطرح الماضوى للسرد يقفز النَّص الى الحاضر، ويستشهد بأمكنة حديثة تمثِّل أحداثها قرية (جويكرة)، التي وصل إليها أبو حوَّة الأَسمر، ويشير الراوي الى التحوُّلات التي حدثت فِي (جويكرة) واهتمام الحكومة والشركات بها وازدياد سُكَّانها، ويقارن الراوي تحوُّلاتها مِنْ الماضي إلى الحاضر، حيث كانت يقطنها نساء يبعن المريسة للصيادين ونساء النِّيليين، ويبيعن الأواني الفخاريَّة، ولَمْ تكن سوى معسكر لجمع الأخشاب لبواخر الحكومة الاستعماريَّة، وفِي الحاضر تحوَّلت (جويكرة) الى مدينة بَنْت الدولة الجديدة، وحصل تحوُّل الى أبو حوًّة مِنْ جندى فِي جيش حمدان أبو عنجة إلى تاجر مواشي. ينفصل السَّرد عن ماضيه ويؤكِّد إندماجه فِي الحاضر لقصد الترفيه، ويروى أبو حوَّة انضمامه لجيش الخليفة والحروب التي قادها ضدّ الأحباش لكبير التُّجار(الطيِّب حسن)، لذا توطَّدت صداقة أبو حوَّة وكبير التُّجار و(جويكرة) بناءً على شغف أخبار الحروب، واستغلَّ كبير التُّجار هذه العلاقة فِي أمور تجاريَّة،  وقرَّر أنْ يرسل أبو حوَّة الأَسمر الى الحبشة لمعرفته بها، ويستورد السُّكْر والشَّاي والبُّن، ورفض أبو حوًّة ذلك، لأنَّه رجل ليس ناعمٌ بالحياة وشطّط البدو ومماحكة أهل (جويكرة).

 

 

 

 

 

الخاتمة :- 

نصّ مشروع إبراهيم الأَسمر مِنْ النُّصوص التَّاريخيَّة التي قدَّمت قراءات للماضي؛ مازجة فِي أبنيتها مستوى تقنيَّات متعدّدة تتداخل فِي سياق ماضي، وتبعث فِي الحاضر روح جديدة؛ تزامنت مع تحوَّلات المجتمع اقتصادياً واجتماعياً ودينياً، وانفتح النَّص على أشكال بنيَّات سرديَّة، لعب الشكل حيِّزاً كبيراً فِي استقبال مضامين التَّاريخ مِنْ خلال :- بنية الرِّسالة والمذكرات والتعليق والأسطورة وسيرة بني هلال، بجانب هذا امتازت الرِّواية بطابع شكل فنِّي متزن مع الطرح العام للنّص، ومقدِّماً خطاباً معاصراً عبر شخصيَّاته، وأمكنته، ولغته. اتَّسقت دلالات الرِّواية مع رواية (جويكرة حزن النهر) للكاتب نفسه وسوف نفرد لها حديثاً لاحقاً بإذن الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المراجع والمصادر :-

  1. هيثم حسين، الرِّواية والتَّاريخ، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2013م، ص13 -14.
  2. ديانا شطناوى، تمثيل العصر المملوكي فِي الرِّواية العربيَّة -، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2014م، ص 13- 21.
  3. محمَّد المهدي بشري، الفولكلور فِي إبداع الطيِّب صالح – دراسة نقديَّة، دارجامعة الخرطوم للنشر 2014م، ص135.
  4. حامد بدوي (رواية) مشروع إبراهيم الأَسمر الروائي، مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي، 2007م.
 

  هيثم حسين ، الرِّواية والتَّاريخ ، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2013م ، ص13 -14 (1)

 ديانا شطناوى ، تمثيل العصر المملوكي في الرِّواية العربية -، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2014م ، ص 13-21 (2)

 محمَّد المهدي بشري ، الفولكلور في إبداع الطيِّب صالح – دراسة نقدية ، دارجامعة الخرطوم للنشر 2014م ، ص135 (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

المؤتمر العلمي للرواية السودانيَّة الثاني عشر – أكتوبر 2015م

"الرِّواية السودانيَّة في الفترة 200-2015م "

أصوات جديدة في فضاء متحوِّل

 

 

ورقة نقدية بعنوان :

 

تعدد الأبنية السَّردية في رواية مشروع إبراهيم الأسمر الرِّوائي

 

 

إعداد وتقديم :

أبوطالب محمد

 

المقدِّمة :-

تسعى هذه الورقة لتقديم قراءة نقديَّة تطبيقيَّة فِي رواية مشروع إبراهيم الأَسمر للكاتب حامد بدوي، وتركِّز على تعدُّد الأبنية السَّرديَّة داخل النَّص مِنْ خلال عنونة رئيسة وفرعيَّة؛ توضح أبنيته السَّرديَّة ودلالات نسقها التَّاريخي. وقرآتها للحاضر، وهي مِنْ ضمن الروايات التي فازت بجائزة الطيِّب صالح للإبداع الروائي فِي الدورة الخامسة أكتوبر 2007م (مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي)، ويُطلق عليها الرِّواية التَّاريخيَّة نسبة لتوظيفها لفترة المهديَّة بتقنيَّات سَرد تتداخل فيها مستويَّات أبنية متعدِّدة تعكس مرونة النَّص، واستيعاب كاتبه لأساليب الشكل الفنِّي فِي بنائه، ومقدرته علي سياق الحاضر اجتماعياً واقتصادياً ودينياً، التزاماً بنسق تعدَّد بنيوياً وانسجم موضوعياً عبر ثمانية فصول...... جريمة الصمت – الحضور – البدايَّات – التِّيه – انكسارات الشيخ حمَّاد – وجه مريم الحزين – أشواق النزوح – العودة، هذه الفصول تعيد على قارئها صفحات مِنْ تاريخ السُّودان، حيث أراد الكاتب مِنْ خلالها أنْ ينظر للحاضر بعين الماضي.

أشكال البنيَّات السَّرديَّة فِي النَّص :-

أ/ بنية الشكل التَّاريخي :

يشكل التَّاريخ منبعاً ثرّاً وشائكاً فِي الوقت نفسه، يستقي الكُـتَّاب والروائيون مواضيع كتاباتهم محللين، ومفكِّكين ومترجمين وقائع الأحوال ومعلِّقين على الحوادث التي يستقونها، أيّ يتمُّ استجرار بعضها وتقديمها بصياغة جديدة مع المحافظة على المضامين كما هي؛ أيَ التحلِّي بأمانة المؤرخ، وقديماً يمارس آخرون التَّدقيق والنظر إليها بمعايير العصر الجديد؛ والعودة إلى التَّاريخ تأتي مِنْ باب الشَّغف التَّاريخي، أو الانطلاق مِنْ رغبة انتصاريَّة أو استعراضيَّة أو تحليليَّة تفكيكيَّة تأخذ مِنْ الماضي لترسم خرائط المستقبل، أو للانتقال مِنْ راهن ضبابي عام، وقد تغدو الرِّواية شبه محاكمة تاريخيَّة لمرحلة بعينها، أو ربّما مِنْ باب التَّجيش لتاريخ يستميت الروائي لتقديم ولائة المفترض عليه، ليكون لائقاً بما قُدِّم له، وربَّما تُشكِّل بعض الحوادث التَّاريخيَّة ندوباً فِي الذاكرة لا محال للاستشفاء منها إلَّا بالرِّواية.(1)

ومِنْ خلال هذا تظهر طبيعة العلاقة بين التَّاريخ وكتابة الرِّواية فِي اللحظة التي تبدأ بها الرِّواية؛ فهي علاقة غير مستقرة مع التَّاريخ يبدو فيها القلق والرغبة والتوجيه الجديد لمسار التَّاريخ، أو نقده، أو التعالي على جبروته، وعليه تقسِّم الباحثة ديانا شطناوى فِي كتابها "تمثيل العصر المملوكي فِي الرِّواية العربيَّة" الي ثلاثة أتجاهات :-

ا/ التَّمثيل السَّردي للتاريخ – سرد المطابقة.

2/ التَّقنع التَّاريخي – سرد المطابقة الموحيَّة.

3/ الميتاقص – كتابة التَّاريخ (2)

رواية مشروع إبراهيم الأَسمر تندرج ضمن تقسيم الاتِّجاهات أعلاه بغض النظر عن التمرحُّل التَّاريخي، حيث مثلَّت الرِّواية الاتِّجاه التَّمثيلي السَّردي وفق أبنية مطابقة للأبنية التَّاريخيَّة المُستعارة وأعادت صياغتها بــ Modern Structure، وفِي الاتِّجاه الثَّاني تقنَّعت الرِّواية برؤية موحيَّة فتحت الماضي على الحاضر

واحتفت بالحظة التَّخيُّليَّة السَّاردة، وفِي الاتِّجاه الثَّالث تحاورت الرِّواية بوعي مع التَّاريخ والقص لا بشكل نوستالجي إنَّما قدَّمته فِي مواعين ناقدة للفترة الزمنيَّة التي إتكأت عليها الرِّواية.

 

 

 

ب/ بنية الرِّسالة :

      وظَّف السَّرد شكل الرِّسالة أو المراسلة إلى ضمير الغائب  ( إبراهيم الأَسمر ) عبر صوت الراوي العَليم موجِّهاً خطابه السَّردي حول دخوله وتأسيسه لعالم سردي يكون فيه بمثابة مُحرِّراً، وعبره ينتقل السَّرد ويحكي بداية عودته للوطن عام 1991م بعد خمسة عشر عاماً قضاها فِي الاغتراب، وتفاصيل السَّرد لعودته توضِّح ارتباطه ببنية أمكنة تتضمَّن رسالته وفق فضاء مفتوح فِي عتبات النَّص يُمثلِّها الصندوق الذي عثر عليه أثناء حفر أساسيَّات المنزل؛ حيث يحتوي على أوراق ومذكِّرات. الورقة الأولى  تحتوي علي تفاصيل الصراع القبلي وانفصال الشيخ هزلول بعد اإنفصاله مِنْ بني زيد الهلالي، وتحوي الورقة الثَّانية السَّرد الماضوي لحروبات الزبير ود رحمة واقتراحاته لحروب جديدة ضدّ التُّرك.

 

ج / البنية السِّيريَّة ( المذكرات ) :-

دفتر صغير يحتوي على سيرة إبراهيم الأَسمر وميلاده فِي مدينة أم درمان، وعن وفاة أمه وعدم معرفته لأبوه، لأنَّه غادر وتركه صغيراً مع والدته قبل 47 عاماً كبر بدونه وحقد عليه، كلما استدعي ناظر المدرسة آباء التلاميذ، وبدأ يبحث عنه وعن معرفته بأصل قبيلته، ومِنْ خلال سماعه لسيرة القبيلة وسيرة شيخها الذي واجه امتحان اندلاع الثَّورة المهديَّة وواجه أيضاً غزو الفتح الإنجليزي المصري فِي صدر القرن العشرين، وتخبرنا سيرة بإصراره  لكتابة رواية.

د/ بنية التعليق :-

تجمع التعليقات مقدِّمة إبراهيم الأَسمر مثل (عرفت أنني بإذاء كتابة رواية ولم يكن هنالك شئ مُرتَّب وواضح التَّسلسل فِي الأوراق التي عثرت عليها سوى هذه المقدِّمة )،  صار الراوي متورِّطاً فِي كيفيَّة مواصلته لمشروع إبراهيم الأَسمر، أم ينفض يده عن المهمة ويصرف النظر عنها، وصرف النظر جريمة ارتكبها تجاه مذكرات إبراهيم الأَسمر.

                                             المحرر- أم درمان 12يوليو 1994م

لذا صارت استهلاليَّة النَّص الأولى مُستندة على بناء سردي معكوس يُمثِّله المسمَّى الأوَّل فِي النَّص (جريمة الصمت)، بمعني إذا صمت عن تحرير المذكرات صمته يمثل جريمة، وإذا واصل فِي تحريرها يصير مُحرَّراً ممَّا جعله مشرعاً فِي تحريريها (المذكرات)، وأصبحت بنية السرد فِي عنونته ومداخله معكوسة إيجابياً.

و/ البنية الأسطوريَّة :-

وظَّف النَّص أسطورة الغريب الحكيم، وقيل عنها سادت بشكل جلي فِي الثَّقافة الإفريقيَّة خاصَّة تلك التي تلاقحت بالثَّقافة الإسلاميَّة عبر مختلف المراحل التَّاريخيَّة، والثَّقافة السودانيَّة واحدة مِنْ نماذج هذه الثَّقافات، والأمر الذي يفسِّر بروز الأسطورة فِي الأدب الشعبي للمجموعات السودانيَّة المتأسلمة، ولهذا لَمْ يكن مِنْ الغريب ظهور الأسطورة أو بعض موتيفاتها فِي روايات الطيِّب صالح الذي ظلَّ يقترب مِنْ الأسطورة ويوظفها توظيفاً  جمالياً....تزخر الثَّقافات الأفريقيَّة بالعديد مِنْ الإشارات لظاهرة (الغريب الحكيم) فِي آدابنا الشعبيَّة.... والحديث عن (الغريب الحكيم) الذي يظهر فجأة وسرعان ما يصبح واحداً مِنْ هذه الجماعة، ويكون ظهوره عاملاً مؤثِّراً فِي تفسير واقع الجماعة وتطوُّرها (1).        

و(الغريب) فِي النَّص اِندمج فِي المجتمع منذ وصوله يأمر وينهي كأنه شيخ القبيلة صار مؤذناً لها، ويؤم الناس فِي الصلاة، ويأمر بملء أواني الماء ويرتِّبها، ويعلِّم بعضهم الوضوء، ويقرأ عليهم القرآن بصوتٍ جهور، حدَّثهم عن ظهور المهدي المنتظر؛ وأمر القبيلة باتباع نهجه، وحدثهم عن تشابه معاركه مع معارك سيدنا محمَّد (ص) وعدد جيش الأنصار ومطابقته بجيش المسلمين فِي غزوة بدر، ويتلو عليهم مِنْ منشوراته ويأمرهم بالجهاد، هذا جعله مُحدِثاً أثرا ًكبيراً فِي توجُّه القبيلة واتباعهم لسبيل المهدي، لأنَّه داعية ومُبشِّراً لظهور المهدي، لأنَّ الفترة التي كثرت فيها الأقاويل عن المهدي كانت القبائل تعيش فِي حالة ضيق وقلق مِنْ حكم التُّرك وفرض نفوذهم، وسيطرتهم على أموالهم، وإجبارهم على دفع قيمة مِنْ الضرائب بثمنٍ باهظ، هذه مرجعيَّات ساعدت على ظهور (الغريب) وتنبيهه للقبائل بظلم التُّرك ممَّا جعله يتمكَّن فِي الاندماج، ويرحَّب به، ويتعامل كفرد مِنْ أفراد القبيلة.

هـ/ سيرة بني هلال :-

يوضِّح الراوي العليم مِنْ خلال انفصال القبيلة الأمّ عن إبي زيد الهلالي ونزوحها مِنْ تونس الخضراء جنوباً عبر الصحراء (انظر – إبراهيم إسحق "هجرة الهلالين")، ويشير السَّرد الى الأهوال كأمكنة مفتوحة تعكس الصراع المحتدِّم بين أبناء القبيلة داخل بيت الشيخ هزلول، ويوظف السَّرد الألغاز التي يرسلها هزلول عبر زوجته إلى أبيها لكي يثبت لها تفوُّق عنصره على عنصرها، وكما يشير السَّرد الى تفشِّي وباء الجدري الذي أصاب الشيخ حمَّاد المجدور، وحمَّاد بحكم معرفته بتاريخ القبيلة متَّن علاقتها مع جيرانها مِنْ النِّيليين، وخلق علاقة مع كبيرهم لحسم الصراعات، وتزوَّج مِنْ أحدي بناته، وأعطى ما يملك مِنْ ثروة لتزويج شباب القبيلة مِنْ النِّيليَّات، وكان يسخر مِنْ يعترض على ضياع دم القبيلة العربي قائلاً :( أنهم جهلة لا يعلمون شيئاً مِنْ أصل العرب؟ أليس جدهم إسماعيل بن إبراهيم مِنْ هاجر النِّيليَّة)، ويعكس السَّرد التفاصيل التي حدثت بعد مماته (حمَّاد المجدور)، ودخول القبيلة مِنْ جديد فِي حروب بقيادة ابنه أبو حوَّة الأَسمر؛ الرجل الذي نصفه عربي ونصفه نيلي، واتُّهم حمَّاد المجدور لإنشائه لقبيلة محاربة وعنيفة وعدوانيَّة دبرت ودمَّرت ونفَّذت لأنَّه جنى سعادته الشيطانيَّة، وابنه أبو حوة جنى مجده الدَّموي، وترك حمَّاد حنكوك يدخل فِي حروبات ضدّ عيسي الإحيمر رجل الحكومة التُّركيَّة بعد خلاف معه، بهذا يندمج فعل السَّرد ويعمِّق ماضويته بظهور الفقير أبوبكر؛ ومعرفته بالصراعات المحتدِّمة، وسعى لهزيمة عيسى الأحيمر، وأمر أنْ يعطوه بنتاً بكراً، ونُفِّذ شرطه، وأعطاها أرنباً وأمرها أنْ تُطلقه، إذا ركض ناحيَّة العدو فأعلموا أنَّكم منتصرون، وإنْ ركض تجاهكم فليس أمامكم سوى الثَّبات والقتال، وركض الأرنب تجاه العدو وصارت نتيجته وفقاً لمعتقده النَّصر، بهذا حُقِّق الإنتصار وتجمَّعت القبيلة فِي بيت الشيخ وبايعوا المهدي.

 

الشكل الفنِّي للرواية:-

أ/ الشَّخصيَّات :-

 احتشدت الرِّواية بالعديد مِنْ الشَّخصيَّات منها شخصيَّات تاريخيَّة مثل: حمدان أبو عنجة، والزبير ود رحمة وغيرها، وشخصيَّات متخيَّلة مثل:الغريب،

ومريم الحزينة، والفقير أبو بكر، وحمَّاد المجدور وغيرها، جميعها شخصيَّات فاعلة فِي النَّص لعبت أدواراً مُفتعلة ومحدَّدة تفاعلت فِي بنية السَّرد، وساهمت بطرح خطاب متفاعل مع رؤية النَّص ونظرته للماضي وقراءته للحاضر.

ب/ الأمكنة- مفتوحة ومغلقة :-

مِنْ الأمكنة المفتوحة فِي الرِّواية ميادين المعركة التي تشير إلى حروب المهديَّة ضدّ التُّرك، والأرض السكنيَّة التي قرِّر أنْ يبنى فيها منزلاً وصارت مسرحاً للأحداث أتكأت عليه الرِّواية فِي عتباتها الأولي، ومِنْ الأمكنة المفتوحة فريق الشيخ عيسى؛ باعتباره المكان المنصهر فِي الزمان ودلالاته الإيحائيَّة لاستقبال أبو حوة الأَسمر إلى أهله، لأنَّ المكان مثَّل ارتباطه بصباه وشبابه ومعرفته لأوَّل مرَّة فِي حياته لأهله.

  • الأمكنة المغلقة : تتمثَّل فِي المنزل الذي مثَّل انطلاقة مجريات الأحداث واحتفاء الراوي بقراءة أوراق ومذكِّرات إبراهيم الأَسمر، ومنها السجن وإيحاءاته بانهيار دولة المهديَّة على يد جيوش الإنجليز واستغلَّه لصالحهم، وبالإشارة إلى مكاتب الحكومة الجديدة بالخرطوم، ومنها أيضاً المسجد وبيت الخليفة التي تُعقد فيه جلسات لتدبير شئون الحروب، ومنها القطية التي شكَّلت حمايَّة لأبو حوَّة الأَسمر عندما وجدته مريم الحزينة جريحاً وظآمئاً أطعمته وسقته وضمدت جرحه، ومثَّلت القطية أيضاً حمايَّة لأبو حوَّة مِنْ عسكر الغُزاة، عندما قصدوها؛ أسرعت وغطته بثوب مُتسخ وخرجت للقائهم، وأجابت على أسئلتهم قائلة: (هذا أبي يرقد بين الموت والحياة بسبب الجزام والسُّل – ارتعب الجنود؛ وهربوا)، ومِنْ الأمكنة المنفى إلى الريف المصري  وشكَّل لدى الشَّخصيَّات إبعادهم عن الوطن والخوف والحذر مِنْ الإنجليز.

 

ج/ اللُّغة :

عاميَّة وفصيحة، والمستوى الأكثر تدعيماً فيما يخصُّ اللُّغة وذاكرة الماضي (الشِّعر)؛ يعكس الراوي عبره واصفاً جمال فزاريَّة بأنَّها أجمل بنات الشيخ تغنَّى الشُّعراء بعيونها وشعرها وقوامها اللَّادن وقال فيها الشاعر الصديق الجرداقي :

                                   عجيلة الدّور الراعيها عليها خائف

     هيبة الباشا الحُراسها واقـــــــــــــــــــــــف

     للـــبنات بلاك قليـــبــــــــــــي عايــــــــــــــــف

               بتين يا صيد الخلا النافر توالــــــــف.

 

تداخل الشِّعر كأيقونة فنيَّة عمقت تقنيَّة السَّرد الماضوي؛ واصفاً لشخصيَّة فزاريَّة وبكائها على ماضيها ونفورها مِنْ الزمن الحاضر، واستدعائها يوم عُرسها؛ يوم ضُرِبت نُقارة (جودة)، وتطرح أسئلة مبكيَّة على ماضيها :- ماذا قالت بخيتة يوم عرس إبراهيم؟ وتغنِّي.... وماذا قالت أم سلمة يوم ختان ابنها يس؟ وتغنِّي....

ومِنْ خلال حاضرها المُبكي تتداخل سرديَّات الراوي مع سرد فزاريَّة، ويصير صوتها مسيطراً فِي السَّرد الماضوي بأزمنته وأمكنته، ورابطةً تاريخ القبيلة ووجودها فِي أماكن منعزلة تفصلها عن تلقي الأخبار وما يجري فِي أمكنة أخرى؛ طارحة نمط يحمل فيه السَّرد خبراً.

مَنْ مِنْ الشيوخ قد توفى؟ ومن مِنْ أبنائه قد خلفه؟ ماأخبار التُّرك وحملات جباية الضرائب؟ ماذا فعل التُّرك بالزبير ود رحمة بعد أنْ سجنوه فِي مصر وقتلوا ابنه؟ ماهي أمراض الحيوان لهذا العام وفِي مال أيّ مِنْ القبائل ظهر؟  

بهذا الطرح الماضوى للسرد يقفز النَّص الى الحاضر، ويستشهد بأمكنة حديثة تمثِّل أحداثها قرية (جويكرة)، التي وصل إليها أبو حوَّة الأَسمر، ويشير الراوي الى التحوُّلات التي حدثت فِي (جويكرة) واهتمام الحكومة والشركات بها وازدياد سُكَّانها، ويقارن الراوي تحوُّلاتها مِنْ الماضي إلى الحاضر، حيث كانت يقطنها نساء يبعن المريسة للصيادين ونساء النِّيليين، ويبيعن الأواني الفخاريَّة، ولَمْ تكن سوى معسكر لجمع الأخشاب لبواخر الحكومة الاستعماريَّة، وفِي الحاضر تحوَّلت (جويكرة) الى مدينة بَنْت الدولة الجديدة، وحصل تحوُّل الى أبو حوًّة مِنْ جندى فِي جيش حمدان أبو عنجة إلى تاجر مواشي. ينفصل السَّرد عن ماضيه ويؤكِّد إندماجه فِي الحاضر لقصد الترفيه، ويروى أبو حوَّة انضمامه لجيش الخليفة والحروب التي قادها ضدّ الأحباش لكبير التُّجار(الطيِّب حسن)، لذا توطَّدت صداقة أبو حوَّة وكبير التُّجار و(جويكرة) بناءً على شغف أخبار الحروب، واستغلَّ كبير التُّجار هذه العلاقة فِي أمور تجاريَّة،  وقرَّر أنْ يرسل أبو حوَّة الأَسمر الى الحبشة لمعرفته بها، ويستورد السُّكْر والشَّاي والبُّن، ورفض أبو حوًّة ذلك، لأنَّه رجل ليس ناعمٌ بالحياة وشطّط البدو ومماحكة أهل (جويكرة).

 

 

 

 

 

الخاتمة :- 

نصّ مشروع إبراهيم الأَسمر مِنْ النُّصوص التَّاريخيَّة التي قدَّمت قراءات للماضي؛ مازجة فِي أبنيتها مستوى تقنيَّات متعدّدة تتداخل فِي سياق ماضي، وتبعث فِي الحاضر روح جديدة؛ تزامنت مع تحوَّلات المجتمع اقتصادياً واجتماعياً ودينياً، وانفتح النَّص على أشكال بنيَّات سرديَّة، لعب الشكل حيِّزاً كبيراً فِي استقبال مضامين التَّاريخ مِنْ خلال :- بنية الرِّسالة والمذكرات والتعليق والأسطورة وسيرة بني هلال، بجانب هذا امتازت الرِّواية بطابع شكل فنِّي متزن مع الطرح العام للنّص، ومقدِّماً خطاباً معاصراً عبر شخصيَّاته، وأمكنته، ولغته. اتَّسقت دلالات الرِّواية مع رواية (جويكرة حزن النهر) للكاتب نفسه وسوف نفرد لها حديثاً لاحقاً بإذن الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المراجع والمصادر :-

  1. هيثم حسين، الرِّواية والتَّاريخ، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2013م، ص13 -14.
  2. ديانا شطناوى، تمثيل العصر المملوكي فِي الرِّواية العربيَّة -، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2014م، ص 13- 21.
  3. محمَّد المهدي بشري، الفولكلور فِي إبداع الطيِّب صالح – دراسة نقديَّة، دارجامعة الخرطوم للنشر 2014م، ص135.
  4. حامد بدوي (رواية) مشروع إبراهيم الأَسمر الروائي، مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي، 2007م.
 

  هيثم حسين ، الرِّواية والتَّاريخ ، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2013م ، ص13 -14 (1)

 ديانا شطناوى ، تمثيل العصر المملوكي في الرِّواية العربية -، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2014م ، ص 13-21 (2)

 محمَّد المهدي بشري ، الفولكلور في إبداع الطيِّب صالح – دراسة نقدية ، دارجامعة الخرطوم للنشر 2014م ، ص135 (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

المؤتمر العلمي للرواية السودانيَّة الثاني عشر – أكتوبر 2015م

"الرِّواية السودانيَّة في الفترة 200-2015م "

أصوات جديدة في فضاء متحوِّل

 

 

ورقة نقدية بعنوان :

 

تعدد الأبنية السَّردية في رواية مشروع إبراهيم الأسمر الرِّوائي

 

 

إعداد وتقديم :

أبوطالب محمد

 

المقدِّمة :-

تسعى هذه الورقة لتقديم قراءة نقديَّة تطبيقيَّة فِي رواية مشروع إبراهيم الأَسمر للكاتب حامد بدوي، وتركِّز على تعدُّد الأبنية السَّرديَّة داخل النَّص مِنْ خلال عنونة رئيسة وفرعيَّة؛ توضح أبنيته السَّرديَّة ودلالات نسقها التَّاريخي. وقرآتها للحاضر، وهي مِنْ ضمن الروايات التي فازت بجائزة الطيِّب صالح للإبداع الروائي فِي الدورة الخامسة أكتوبر 2007م (مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي)، ويُطلق عليها الرِّواية التَّاريخيَّة نسبة لتوظيفها لفترة المهديَّة بتقنيَّات سَرد تتداخل فيها مستويَّات أبنية متعدِّدة تعكس مرونة النَّص، واستيعاب كاتبه لأساليب الشكل الفنِّي فِي بنائه، ومقدرته علي سياق الحاضر اجتماعياً واقتصادياً ودينياً، التزاماً بنسق تعدَّد بنيوياً وانسجم موضوعياً عبر ثمانية فصول...... جريمة الصمت – الحضور – البدايَّات – التِّيه – انكسارات الشيخ حمَّاد – وجه مريم الحزين – أشواق النزوح – العودة، هذه الفصول تعيد على قارئها صفحات مِنْ تاريخ السُّودان، حيث أراد الكاتب مِنْ خلالها أنْ ينظر للحاضر بعين الماضي.

أشكال البنيَّات السَّرديَّة فِي النَّص :-

أ/ بنية الشكل التَّاريخي :

يشكل التَّاريخ منبعاً ثرّاً وشائكاً فِي الوقت نفسه، يستقي الكُـتَّاب والروائيون مواضيع كتاباتهم محللين، ومفكِّكين ومترجمين وقائع الأحوال ومعلِّقين على الحوادث التي يستقونها، أيّ يتمُّ استجرار بعضها وتقديمها بصياغة جديدة مع المحافظة على المضامين كما هي؛ أيَ التحلِّي بأمانة المؤرخ، وقديماً يمارس آخرون التَّدقيق والنظر إليها بمعايير العصر الجديد؛ والعودة إلى التَّاريخ تأتي مِنْ باب الشَّغف التَّاريخي، أو الانطلاق مِنْ رغبة انتصاريَّة أو استعراضيَّة أو تحليليَّة تفكيكيَّة تأخذ مِنْ الماضي لترسم خرائط المستقبل، أو للانتقال مِنْ راهن ضبابي عام، وقد تغدو الرِّواية شبه محاكمة تاريخيَّة لمرحلة بعينها، أو ربّما مِنْ باب التَّجيش لتاريخ يستميت الروائي لتقديم ولائة المفترض عليه، ليكون لائقاً بما قُدِّم له، وربَّما تُشكِّل بعض الحوادث التَّاريخيَّة ندوباً فِي الذاكرة لا محال للاستشفاء منها إلَّا بالرِّواية.(1)

ومِنْ خلال هذا تظهر طبيعة العلاقة بين التَّاريخ وكتابة الرِّواية فِي اللحظة التي تبدأ بها الرِّواية؛ فهي علاقة غير مستقرة مع التَّاريخ يبدو فيها القلق والرغبة والتوجيه الجديد لمسار التَّاريخ، أو نقده، أو التعالي على جبروته، وعليه تقسِّم الباحثة ديانا شطناوى فِي كتابها "تمثيل العصر المملوكي فِي الرِّواية العربيَّة" الي ثلاثة أتجاهات :-

ا/ التَّمثيل السَّردي للتاريخ – سرد المطابقة.

2/ التَّقنع التَّاريخي – سرد المطابقة الموحيَّة.

3/ الميتاقص – كتابة التَّاريخ (2)

رواية مشروع إبراهيم الأَسمر تندرج ضمن تقسيم الاتِّجاهات أعلاه بغض النظر عن التمرحُّل التَّاريخي، حيث مثلَّت الرِّواية الاتِّجاه التَّمثيلي السَّردي وفق أبنية مطابقة للأبنية التَّاريخيَّة المُستعارة وأعادت صياغتها بــ Modern Structure، وفِي الاتِّجاه الثَّاني تقنَّعت الرِّواية برؤية موحيَّة فتحت الماضي على الحاضر

واحتفت بالحظة التَّخيُّليَّة السَّاردة، وفِي الاتِّجاه الثَّالث تحاورت الرِّواية بوعي مع التَّاريخ والقص لا بشكل نوستالجي إنَّما قدَّمته فِي مواعين ناقدة للفترة الزمنيَّة التي إتكأت عليها الرِّواية.

 

 

 

ب/ بنية الرِّسالة :

      وظَّف السَّرد شكل الرِّسالة أو المراسلة إلى ضمير الغائب  ( إبراهيم الأَسمر ) عبر صوت الراوي العَليم موجِّهاً خطابه السَّردي حول دخوله وتأسيسه لعالم سردي يكون فيه بمثابة مُحرِّراً، وعبره ينتقل السَّرد ويحكي بداية عودته للوطن عام 1991م بعد خمسة عشر عاماً قضاها فِي الاغتراب، وتفاصيل السَّرد لعودته توضِّح ارتباطه ببنية أمكنة تتضمَّن رسالته وفق فضاء مفتوح فِي عتبات النَّص يُمثلِّها الصندوق الذي عثر عليه أثناء حفر أساسيَّات المنزل؛ حيث يحتوي على أوراق ومذكِّرات. الورقة الأولى  تحتوي علي تفاصيل الصراع القبلي وانفصال الشيخ هزلول بعد اإنفصاله مِنْ بني زيد الهلالي، وتحوي الورقة الثَّانية السَّرد الماضوي لحروبات الزبير ود رحمة واقتراحاته لحروب جديدة ضدّ التُّرك.

 

ج / البنية السِّيريَّة ( المذكرات ) :-

دفتر صغير يحتوي على سيرة إبراهيم الأَسمر وميلاده فِي مدينة أم درمان، وعن وفاة أمه وعدم معرفته لأبوه، لأنَّه غادر وتركه صغيراً مع والدته قبل 47 عاماً كبر بدونه وحقد عليه، كلما استدعي ناظر المدرسة آباء التلاميذ، وبدأ يبحث عنه وعن معرفته بأصل قبيلته، ومِنْ خلال سماعه لسيرة القبيلة وسيرة شيخها الذي واجه امتحان اندلاع الثَّورة المهديَّة وواجه أيضاً غزو الفتح الإنجليزي المصري فِي صدر القرن العشرين، وتخبرنا سيرة بإصراره  لكتابة رواية.

د/ بنية التعليق :-

تجمع التعليقات مقدِّمة إبراهيم الأَسمر مثل (عرفت أنني بإذاء كتابة رواية ولم يكن هنالك شئ مُرتَّب وواضح التَّسلسل فِي الأوراق التي عثرت عليها سوى هذه المقدِّمة )،  صار الراوي متورِّطاً فِي كيفيَّة مواصلته لمشروع إبراهيم الأَسمر، أم ينفض يده عن المهمة ويصرف النظر عنها، وصرف النظر جريمة ارتكبها تجاه مذكرات إبراهيم الأَسمر.

                                             المحرر- أم درمان 12يوليو 1994م

لذا صارت استهلاليَّة النَّص الأولى مُستندة على بناء سردي معكوس يُمثِّله المسمَّى الأوَّل فِي النَّص (جريمة الصمت)، بمعني إذا صمت عن تحرير المذكرات صمته يمثل جريمة، وإذا واصل فِي تحريرها يصير مُحرَّراً ممَّا جعله مشرعاً فِي تحريريها (المذكرات)، وأصبحت بنية السرد فِي عنونته ومداخله معكوسة إيجابياً.

و/ البنية الأسطوريَّة :-

وظَّف النَّص أسطورة الغريب الحكيم، وقيل عنها سادت بشكل جلي فِي الثَّقافة الإفريقيَّة خاصَّة تلك التي تلاقحت بالثَّقافة الإسلاميَّة عبر مختلف المراحل التَّاريخيَّة، والثَّقافة السودانيَّة واحدة مِنْ نماذج هذه الثَّقافات، والأمر الذي يفسِّر بروز الأسطورة فِي الأدب الشعبي للمجموعات السودانيَّة المتأسلمة، ولهذا لَمْ يكن مِنْ الغريب ظهور الأسطورة أو بعض موتيفاتها فِي روايات الطيِّب صالح الذي ظلَّ يقترب مِنْ الأسطورة ويوظفها توظيفاً  جمالياً....تزخر الثَّقافات الأفريقيَّة بالعديد مِنْ الإشارات لظاهرة (الغريب الحكيم) فِي آدابنا الشعبيَّة.... والحديث عن (الغريب الحكيم) الذي يظهر فجأة وسرعان ما يصبح واحداً مِنْ هذه الجماعة، ويكون ظهوره عاملاً مؤثِّراً فِي تفسير واقع الجماعة وتطوُّرها (1).        

و(الغريب) فِي النَّص اِندمج فِي المجتمع منذ وصوله يأمر وينهي كأنه شيخ القبيلة صار مؤذناً لها، ويؤم الناس فِي الصلاة، ويأمر بملء أواني الماء ويرتِّبها، ويعلِّم بعضهم الوضوء، ويقرأ عليهم القرآن بصوتٍ جهور، حدَّثهم عن ظهور المهدي المنتظر؛ وأمر القبيلة باتباع نهجه، وحدثهم عن تشابه معاركه مع معارك سيدنا محمَّد (ص) وعدد جيش الأنصار ومطابقته بجيش المسلمين فِي غزوة بدر، ويتلو عليهم مِنْ منشوراته ويأمرهم بالجهاد، هذا جعله مُحدِثاً أثرا ًكبيراً فِي توجُّه القبيلة واتباعهم لسبيل المهدي، لأنَّه داعية ومُبشِّراً لظهور المهدي، لأنَّ الفترة التي كثرت فيها الأقاويل عن المهدي كانت القبائل تعيش فِي حالة ضيق وقلق مِنْ حكم التُّرك وفرض نفوذهم، وسيطرتهم على أموالهم، وإجبارهم على دفع قيمة مِنْ الضرائب بثمنٍ باهظ، هذه مرجعيَّات ساعدت على ظهور (الغريب) وتنبيهه للقبائل بظلم التُّرك ممَّا جعله يتمكَّن فِي الاندماج، ويرحَّب به، ويتعامل كفرد مِنْ أفراد القبيلة.

هـ/ سيرة بني هلال :-

يوضِّح الراوي العليم مِنْ خلال انفصال القبيلة الأمّ عن إبي زيد الهلالي ونزوحها مِنْ تونس الخضراء جنوباً عبر الصحراء (انظر – إبراهيم إسحق "هجرة الهلالين")، ويشير السَّرد الى الأهوال كأمكنة مفتوحة تعكس الصراع المحتدِّم بين أبناء القبيلة داخل بيت الشيخ هزلول، ويوظف السَّرد الألغاز التي يرسلها هزلول عبر زوجته إلى أبيها لكي يثبت لها تفوُّق عنصره على عنصرها، وكما يشير السَّرد الى تفشِّي وباء الجدري الذي أصاب الشيخ حمَّاد المجدور، وحمَّاد بحكم معرفته بتاريخ القبيلة متَّن علاقتها مع جيرانها مِنْ النِّيليين، وخلق علاقة مع كبيرهم لحسم الصراعات، وتزوَّج مِنْ أحدي بناته، وأعطى ما يملك مِنْ ثروة لتزويج شباب القبيلة مِنْ النِّيليَّات، وكان يسخر مِنْ يعترض على ضياع دم القبيلة العربي قائلاً :( أنهم جهلة لا يعلمون شيئاً مِنْ أصل العرب؟ أليس جدهم إسماعيل بن إبراهيم مِنْ هاجر النِّيليَّة)، ويعكس السَّرد التفاصيل التي حدثت بعد مماته (حمَّاد المجدور)، ودخول القبيلة مِنْ جديد فِي حروب بقيادة ابنه أبو حوَّة الأَسمر؛ الرجل الذي نصفه عربي ونصفه نيلي، واتُّهم حمَّاد المجدور لإنشائه لقبيلة محاربة وعنيفة وعدوانيَّة دبرت ودمَّرت ونفَّذت لأنَّه جنى سعادته الشيطانيَّة، وابنه أبو حوة جنى مجده الدَّموي، وترك حمَّاد حنكوك يدخل فِي حروبات ضدّ عيسي الإحيمر رجل الحكومة التُّركيَّة بعد خلاف معه، بهذا يندمج فعل السَّرد ويعمِّق ماضويته بظهور الفقير أبوبكر؛ ومعرفته بالصراعات المحتدِّمة، وسعى لهزيمة عيسى الأحيمر، وأمر أنْ يعطوه بنتاً بكراً، ونُفِّذ شرطه، وأعطاها أرنباً وأمرها أنْ تُطلقه، إذا ركض ناحيَّة العدو فأعلموا أنَّكم منتصرون، وإنْ ركض تجاهكم فليس أمامكم سوى الثَّبات والقتال، وركض الأرنب تجاه العدو وصارت نتيجته وفقاً لمعتقده النَّصر، بهذا حُقِّق الإنتصار وتجمَّعت القبيلة فِي بيت الشيخ وبايعوا المهدي.

 

الشكل الفنِّي للرواية:-

أ/ الشَّخصيَّات :-

 احتشدت الرِّواية بالعديد مِنْ الشَّخصيَّات منها شخصيَّات تاريخيَّة مثل: حمدان أبو عنجة، والزبير ود رحمة وغيرها، وشخصيَّات متخيَّلة مثل:الغريب،

ومريم الحزينة، والفقير أبو بكر، وحمَّاد المجدور وغيرها، جميعها شخصيَّات فاعلة فِي النَّص لعبت أدواراً مُفتعلة ومحدَّدة تفاعلت فِي بنية السَّرد، وساهمت بطرح خطاب متفاعل مع رؤية النَّص ونظرته للماضي وقراءته للحاضر.

ب/ الأمكنة- مفتوحة ومغلقة :-

مِنْ الأمكنة المفتوحة فِي الرِّواية ميادين المعركة التي تشير إلى حروب المهديَّة ضدّ التُّرك، والأرض السكنيَّة التي قرِّر أنْ يبنى فيها منزلاً وصارت مسرحاً للأحداث أتكأت عليه الرِّواية فِي عتباتها الأولي، ومِنْ الأمكنة المفتوحة فريق الشيخ عيسى؛ باعتباره المكان المنصهر فِي الزمان ودلالاته الإيحائيَّة لاستقبال أبو حوة الأَسمر إلى أهله، لأنَّ المكان مثَّل ارتباطه بصباه وشبابه ومعرفته لأوَّل مرَّة فِي حياته لأهله.

  • الأمكنة المغلقة : تتمثَّل فِي المنزل الذي مثَّل انطلاقة مجريات الأحداث واحتفاء الراوي بقراءة أوراق ومذكِّرات إبراهيم الأَسمر، ومنها السجن وإيحاءاته بانهيار دولة المهديَّة على يد جيوش الإنجليز واستغلَّه لصالحهم، وبالإشارة إلى مكاتب الحكومة الجديدة بالخرطوم، ومنها أيضاً المسجد وبيت الخليفة التي تُعقد فيه جلسات لتدبير شئون الحروب، ومنها القطية التي شكَّلت حمايَّة لأبو حوَّة الأَسمر عندما وجدته مريم الحزينة جريحاً وظآمئاً أطعمته وسقته وضمدت جرحه، ومثَّلت القطية أيضاً حمايَّة لأبو حوَّة مِنْ عسكر الغُزاة، عندما قصدوها؛ أسرعت وغطته بثوب مُتسخ وخرجت للقائهم، وأجابت على أسئلتهم قائلة: (هذا أبي يرقد بين الموت والحياة بسبب الجزام والسُّل – ارتعب الجنود؛ وهربوا)، ومِنْ الأمكنة المنفى إلى الريف المصري  وشكَّل لدى الشَّخصيَّات إبعادهم عن الوطن والخوف والحذر مِنْ الإنجليز.

 

ج/ اللُّغة :

عاميَّة وفصيحة، والمستوى الأكثر تدعيماً فيما يخصُّ اللُّغة وذاكرة الماضي (الشِّعر)؛ يعكس الراوي عبره واصفاً جمال فزاريَّة بأنَّها أجمل بنات الشيخ تغنَّى الشُّعراء بعيونها وشعرها وقوامها اللَّادن وقال فيها الشاعر الصديق الجرداقي :

                                   عجيلة الدّور الراعيها عليها خائف

     هيبة الباشا الحُراسها واقـــــــــــــــــــــــف

     للـــبنات بلاك قليـــبــــــــــــي عايــــــــــــــــف

               بتين يا صيد الخلا النافر توالــــــــف.

 

تداخل الشِّعر كأيقونة فنيَّة عمقت تقنيَّة السَّرد الماضوي؛ واصفاً لشخصيَّة فزاريَّة وبكائها على ماضيها ونفورها مِنْ الزمن الحاضر، واستدعائها يوم عُرسها؛ يوم ضُرِبت نُقارة (جودة)، وتطرح أسئلة مبكيَّة على ماضيها :- ماذا قالت بخيتة يوم عرس إبراهيم؟ وتغنِّي.... وماذا قالت أم سلمة يوم ختان ابنها يس؟ وتغنِّي....

ومِنْ خلال حاضرها المُبكي تتداخل سرديَّات الراوي مع سرد فزاريَّة، ويصير صوتها مسيطراً فِي السَّرد الماضوي بأزمنته وأمكنته، ورابطةً تاريخ القبيلة ووجودها فِي أماكن منعزلة تفصلها عن تلقي الأخبار وما يجري فِي أمكنة أخرى؛ طارحة نمط يحمل فيه السَّرد خبراً.

مَنْ مِنْ الشيوخ قد توفى؟ ومن مِنْ أبنائه قد خلفه؟ ماأخبار التُّرك وحملات جباية الضرائب؟ ماذا فعل التُّرك بالزبير ود رحمة بعد أنْ سجنوه فِي مصر وقتلوا ابنه؟ ماهي أمراض الحيوان لهذا العام وفِي مال أيّ مِنْ القبائل ظهر؟  

بهذا الطرح الماضوى للسرد يقفز النَّص الى الحاضر، ويستشهد بأمكنة حديثة تمثِّل أحداثها قرية (جويكرة)، التي وصل إليها أبو حوَّة الأَسمر، ويشير الراوي الى التحوُّلات التي حدثت فِي (جويكرة) واهتمام الحكومة والشركات بها وازدياد سُكَّانها، ويقارن الراوي تحوُّلاتها مِنْ الماضي إلى الحاضر، حيث كانت يقطنها نساء يبعن المريسة للصيادين ونساء النِّيليين، ويبيعن الأواني الفخاريَّة، ولَمْ تكن سوى معسكر لجمع الأخشاب لبواخر الحكومة الاستعماريَّة، وفِي الحاضر تحوَّلت (جويكرة) الى مدينة بَنْت الدولة الجديدة، وحصل تحوُّل الى أبو حوًّة مِنْ جندى فِي جيش حمدان أبو عنجة إلى تاجر مواشي. ينفصل السَّرد عن ماضيه ويؤكِّد إندماجه فِي الحاضر لقصد الترفيه، ويروى أبو حوَّة انضمامه لجيش الخليفة والحروب التي قادها ضدّ الأحباش لكبير التُّجار(الطيِّب حسن)، لذا توطَّدت صداقة أبو حوَّة وكبير التُّجار و(جويكرة) بناءً على شغف أخبار الحروب، واستغلَّ كبير التُّجار هذه العلاقة فِي أمور تجاريَّة،  وقرَّر أنْ يرسل أبو حوَّة الأَسمر الى الحبشة لمعرفته بها، ويستورد السُّكْر والشَّاي والبُّن، ورفض أبو حوًّة ذلك، لأنَّه رجل ليس ناعمٌ بالحياة وشطّط البدو ومماحكة أهل (جويكرة).

 

 

 

 

 

الخاتمة :- 

نصّ مشروع إبراهيم الأَسمر مِنْ النُّصوص التَّاريخيَّة التي قدَّمت قراءات للماضي؛ مازجة فِي أبنيتها مستوى تقنيَّات متعدّدة تتداخل فِي سياق ماضي، وتبعث فِي الحاضر روح جديدة؛ تزامنت مع تحوَّلات المجتمع اقتصادياً واجتماعياً ودينياً، وانفتح النَّص على أشكال بنيَّات سرديَّة، لعب الشكل حيِّزاً كبيراً فِي استقبال مضامين التَّاريخ مِنْ خلال :- بنية الرِّسالة والمذكرات والتعليق والأسطورة وسيرة بني هلال، بجانب هذا امتازت الرِّواية بطابع شكل فنِّي متزن مع الطرح العام للنّص، ومقدِّماً خطاباً معاصراً عبر شخصيَّاته، وأمكنته، ولغته. اتَّسقت دلالات الرِّواية مع رواية (جويكرة حزن النهر) للكاتب نفسه وسوف نفرد لها حديثاً لاحقاً بإذن الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المراجع والمصادر :-

  1. هيثم حسين، الرِّواية والتَّاريخ، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2013م، ص13 -14.
  2. ديانا شطناوى، تمثيل العصر المملوكي فِي الرِّواية العربيَّة -، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2014م، ص 13- 21.
  3. محمَّد المهدي بشري، الفولكلور فِي إبداع الطيِّب صالح – دراسة نقديَّة، دارجامعة الخرطوم للنشر 2014م، ص135.
  4. حامد بدوي (رواية) مشروع إبراهيم الأَسمر الروائي، مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي، 2007م.
 

  هيثم حسين ، الرِّواية والتَّاريخ ، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2013م ، ص13 -14 (1)

 ديانا شطناوى ، تمثيل العصر المملوكي في الرِّواية العربية -، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2014م ، ص 13-21 (2)

 محمَّد المهدي بشري ، الفولكلور في إبداع الطيِّب صالح – دراسة نقدية ، دارجامعة الخرطوم للنشر 2014م ، ص135 (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

المؤتمر العلمي للرواية السودانيَّة الثاني عشر – أكتوبر 2015م

"الرِّواية السودانيَّة في الفترة 200-2015م "

أصوات جديدة في فضاء متحوِّل

 

 

ورقة نقدية بعنوان :

 

تعدد الأبنية السَّردية في رواية مشروع إبراهيم الأسمر الرِّوائي

 

 

إعداد وتقديم :

أبوطالب محمد

 

المقدِّمة :-

تسعى هذه الورقة لتقديم قراءة نقديَّة تطبيقيَّة فِي رواية مشروع إبراهيم الأَسمر للكاتب حامد بدوي، وتركِّز على تعدُّد الأبنية السَّرديَّة داخل النَّص مِنْ خلال عنونة رئيسة وفرعيَّة؛ توضح أبنيته السَّرديَّة ودلالات نسقها التَّاريخي. وقرآتها للحاضر، وهي مِنْ ضمن الروايات التي فازت بجائزة الطيِّب صالح للإبداع الروائي فِي الدورة الخامسة أكتوبر 2007م (مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي)، ويُطلق عليها الرِّواية التَّاريخيَّة نسبة لتوظيفها لفترة المهديَّة بتقنيَّات سَرد تتداخل فيها مستويَّات أبنية متعدِّدة تعكس مرونة النَّص، واستيعاب كاتبه لأساليب الشكل الفنِّي فِي بنائه، ومقدرته علي سياق الحاضر اجتماعياً واقتصادياً ودينياً، التزاماً بنسق تعدَّد بنيوياً وانسجم موضوعياً عبر ثمانية فصول...... جريمة الصمت – الحضور – البدايَّات – التِّيه – انكسارات الشيخ حمَّاد – وجه مريم الحزين – أشواق النزوح – العودة، هذه الفصول تعيد على قارئها صفحات مِنْ تاريخ السُّودان، حيث أراد الكاتب مِنْ خلالها أنْ ينظر للحاضر بعين الماضي.

أشكال البنيَّات السَّرديَّة فِي النَّص :-

أ/ بنية الشكل التَّاريخي :

يشكل التَّاريخ منبعاً ثرّاً وشائكاً فِي الوقت نفسه، يستقي الكُـتَّاب والروائيون مواضيع كتاباتهم محللين، ومفكِّكين ومترجمين وقائع الأحوال ومعلِّقين على الحوادث التي يستقونها، أيّ يتمُّ استجرار بعضها وتقديمها بصياغة جديدة مع المحافظة على المضامين كما هي؛ أيَ التحلِّي بأمانة المؤرخ، وقديماً يمارس آخرون التَّدقيق والنظر إليها بمعايير العصر الجديد؛ والعودة إلى التَّاريخ تأتي مِنْ باب الشَّغف التَّاريخي، أو الانطلاق مِنْ رغبة انتصاريَّة أو استعراضيَّة أو تحليليَّة تفكيكيَّة تأخذ مِنْ الماضي لترسم خرائط المستقبل، أو للانتقال مِنْ راهن ضبابي عام، وقد تغدو الرِّواية شبه محاكمة تاريخيَّة لمرحلة بعينها، أو ربّما مِنْ باب التَّجيش لتاريخ يستميت الروائي لتقديم ولائة المفترض عليه، ليكون لائقاً بما قُدِّم له، وربَّما تُشكِّل بعض الحوادث التَّاريخيَّة ندوباً فِي الذاكرة لا محال للاستشفاء منها إلَّا بالرِّواية.(1)

ومِنْ خلال هذا تظهر طبيعة العلاقة بين التَّاريخ وكتابة الرِّواية فِي اللحظة التي تبدأ بها الرِّواية؛ فهي علاقة غير مستقرة مع التَّاريخ يبدو فيها القلق والرغبة والتوجيه الجديد لمسار التَّاريخ، أو نقده، أو التعالي على جبروته، وعليه تقسِّم الباحثة ديانا شطناوى فِي كتابها "تمثيل العصر المملوكي فِي الرِّواية العربيَّة" الي ثلاثة أتجاهات :-

ا/ التَّمثيل السَّردي للتاريخ – سرد المطابقة.

2/ التَّقنع التَّاريخي – سرد المطابقة الموحيَّة.

3/ الميتاقص – كتابة التَّاريخ (2)

رواية مشروع إبراهيم الأَسمر تندرج ضمن تقسيم الاتِّجاهات أعلاه بغض النظر عن التمرحُّل التَّاريخي، حيث مثلَّت الرِّواية الاتِّجاه التَّمثيلي السَّردي وفق أبنية مطابقة للأبنية التَّاريخيَّة المُستعارة وأعادت صياغتها بــ Modern Structure، وفِي الاتِّجاه الثَّاني تقنَّعت الرِّواية برؤية موحيَّة فتحت الماضي على الحاضر

واحتفت بالحظة التَّخيُّليَّة السَّاردة، وفِي الاتِّجاه الثَّالث تحاورت الرِّواية بوعي مع التَّاريخ والقص لا بشكل نوستالجي إنَّما قدَّمته فِي مواعين ناقدة للفترة الزمنيَّة التي إتكأت عليها الرِّواية.

 

 

 

ب/ بنية الرِّسالة :

      وظَّف السَّرد شكل الرِّسالة أو المراسلة إلى ضمير الغائب  ( إبراهيم الأَسمر ) عبر صوت الراوي العَليم موجِّهاً خطابه السَّردي حول دخوله وتأسيسه لعالم سردي يكون فيه بمثابة مُحرِّراً، وعبره ينتقل السَّرد ويحكي بداية عودته للوطن عام 1991م بعد خمسة عشر عاماً قضاها فِي الاغتراب، وتفاصيل السَّرد لعودته توضِّح ارتباطه ببنية أمكنة تتضمَّن رسالته وفق فضاء مفتوح فِي عتبات النَّص يُمثلِّها الصندوق الذي عثر عليه أثناء حفر أساسيَّات المنزل؛ حيث يحتوي على أوراق ومذكِّرات. الورقة الأولى  تحتوي علي تفاصيل الصراع القبلي وانفصال الشيخ هزلول بعد اإنفصاله مِنْ بني زيد الهلالي، وتحوي الورقة الثَّانية السَّرد الماضوي لحروبات الزبير ود رحمة واقتراحاته لحروب جديدة ضدّ التُّرك.

 

ج / البنية السِّيريَّة ( المذكرات ) :-

دفتر صغير يحتوي على سيرة إبراهيم الأَسمر وميلاده فِي مدينة أم درمان، وعن وفاة أمه وعدم معرفته لأبوه، لأنَّه غادر وتركه صغيراً مع والدته قبل 47 عاماً كبر بدونه وحقد عليه، كلما استدعي ناظر المدرسة آباء التلاميذ، وبدأ يبحث عنه وعن معرفته بأصل قبيلته، ومِنْ خلال سماعه لسيرة القبيلة وسيرة شيخها الذي واجه امتحان اندلاع الثَّورة المهديَّة وواجه أيضاً غزو الفتح الإنجليزي المصري فِي صدر القرن العشرين، وتخبرنا سيرة بإصراره  لكتابة رواية.

د/ بنية التعليق :-

تجمع التعليقات مقدِّمة إبراهيم الأَسمر مثل (عرفت أنني بإذاء كتابة رواية ولم يكن هنالك شئ مُرتَّب وواضح التَّسلسل فِي الأوراق التي عثرت عليها سوى هذه المقدِّمة )،  صار الراوي متورِّطاً فِي كيفيَّة مواصلته لمشروع إبراهيم الأَسمر، أم ينفض يده عن المهمة ويصرف النظر عنها، وصرف النظر جريمة ارتكبها تجاه مذكرات إبراهيم الأَسمر.

                                             المحرر- أم درمان 12يوليو 1994م

لذا صارت استهلاليَّة النَّص الأولى مُستندة على بناء سردي معكوس يُمثِّله المسمَّى الأوَّل فِي النَّص (جريمة الصمت)، بمعني إذا صمت عن تحرير المذكرات صمته يمثل جريمة، وإذا واصل فِي تحريرها يصير مُحرَّراً ممَّا جعله مشرعاً فِي تحريريها (المذكرات)، وأصبحت بنية السرد فِي عنونته ومداخله معكوسة إيجابياً.

و/ البنية الأسطوريَّة :-

وظَّف النَّص أسطورة الغريب الحكيم، وقيل عنها سادت بشكل جلي فِي الثَّقافة الإفريقيَّة خاصَّة تلك التي تلاقحت بالثَّقافة الإسلاميَّة عبر مختلف المراحل التَّاريخيَّة، والثَّقافة السودانيَّة واحدة مِنْ نماذج هذه الثَّقافات، والأمر الذي يفسِّر بروز الأسطورة فِي الأدب الشعبي للمجموعات السودانيَّة المتأسلمة، ولهذا لَمْ يكن مِنْ الغريب ظهور الأسطورة أو بعض موتيفاتها فِي روايات الطيِّب صالح الذي ظلَّ يقترب مِنْ الأسطورة ويوظفها توظيفاً  جمالياً....تزخر الثَّقافات الأفريقيَّة بالعديد مِنْ الإشارات لظاهرة (الغريب الحكيم) فِي آدابنا الشعبيَّة.... والحديث عن (الغريب الحكيم) الذي يظهر فجأة وسرعان ما يصبح واحداً مِنْ هذه الجماعة، ويكون ظهوره عاملاً مؤثِّراً فِي تفسير واقع الجماعة وتطوُّرها (1).        

و(الغريب) فِي النَّص اِندمج فِي المجتمع منذ وصوله يأمر وينهي كأنه شيخ القبيلة صار مؤذناً لها، ويؤم الناس فِي الصلاة، ويأمر بملء أواني الماء ويرتِّبها، ويعلِّم بعضهم الوضوء، ويقرأ عليهم القرآن بصوتٍ جهور، حدَّثهم عن ظهور المهدي المنتظر؛ وأمر القبيلة باتباع نهجه، وحدثهم عن تشابه معاركه مع معارك سيدنا محمَّد (ص) وعدد جيش الأنصار ومطابقته بجيش المسلمين فِي غزوة بدر، ويتلو عليهم مِنْ منشوراته ويأمرهم بالجهاد، هذا جعله مُحدِثاً أثرا ًكبيراً فِي توجُّه القبيلة واتباعهم لسبيل المهدي، لأنَّه داعية ومُبشِّراً لظهور المهدي، لأنَّ الفترة التي كثرت فيها الأقاويل عن المهدي كانت القبائل تعيش فِي حالة ضيق وقلق مِنْ حكم التُّرك وفرض نفوذهم، وسيطرتهم على أموالهم، وإجبارهم على دفع قيمة مِنْ الضرائب بثمنٍ باهظ، هذه مرجعيَّات ساعدت على ظهور (الغريب) وتنبيهه للقبائل بظلم التُّرك ممَّا جعله يتمكَّن فِي الاندماج، ويرحَّب به، ويتعامل كفرد مِنْ أفراد القبيلة.

هـ/ سيرة بني هلال :-

يوضِّح الراوي العليم مِنْ خلال انفصال القبيلة الأمّ عن إبي زيد الهلالي ونزوحها مِنْ تونس الخضراء جنوباً عبر الصحراء (انظر – إبراهيم إسحق "هجرة الهلالين")، ويشير السَّرد الى الأهوال كأمكنة مفتوحة تعكس الصراع المحتدِّم بين أبناء القبيلة داخل بيت الشيخ هزلول، ويوظف السَّرد الألغاز التي يرسلها هزلول عبر زوجته إلى أبيها لكي يثبت لها تفوُّق عنصره على عنصرها، وكما يشير السَّرد الى تفشِّي وباء الجدري الذي أصاب الشيخ حمَّاد المجدور، وحمَّاد بحكم معرفته بتاريخ القبيلة متَّن علاقتها مع جيرانها مِنْ النِّيليين، وخلق علاقة مع كبيرهم لحسم الصراعات، وتزوَّج مِنْ أحدي بناته، وأعطى ما يملك مِنْ ثروة لتزويج شباب القبيلة مِنْ النِّيليَّات، وكان يسخر مِنْ يعترض على ضياع دم القبيلة العربي قائلاً :( أنهم جهلة لا يعلمون شيئاً مِنْ أصل العرب؟ أليس جدهم إسماعيل بن إبراهيم مِنْ هاجر النِّيليَّة)، ويعكس السَّرد التفاصيل التي حدثت بعد مماته (حمَّاد المجدور)، ودخول القبيلة مِنْ جديد فِي حروب بقيادة ابنه أبو حوَّة الأَسمر؛ الرجل الذي نصفه عربي ونصفه نيلي، واتُّهم حمَّاد المجدور لإنشائه لقبيلة محاربة وعنيفة وعدوانيَّة دبرت ودمَّرت ونفَّذت لأنَّه جنى سعادته الشيطانيَّة، وابنه أبو حوة جنى مجده الدَّموي، وترك حمَّاد حنكوك يدخل فِي حروبات ضدّ عيسي الإحيمر رجل الحكومة التُّركيَّة بعد خلاف معه، بهذا يندمج فعل السَّرد ويعمِّق ماضويته بظهور الفقير أبوبكر؛ ومعرفته بالصراعات المحتدِّمة، وسعى لهزيمة عيسى الأحيمر، وأمر أنْ يعطوه بنتاً بكراً، ونُفِّذ شرطه، وأعطاها أرنباً وأمرها أنْ تُطلقه، إذا ركض ناحيَّة العدو فأعلموا أنَّكم منتصرون، وإنْ ركض تجاهكم فليس أمامكم سوى الثَّبات والقتال، وركض الأرنب تجاه العدو وصارت نتيجته وفقاً لمعتقده النَّصر، بهذا حُقِّق الإنتصار وتجمَّعت القبيلة فِي بيت الشيخ وبايعوا المهدي.

 

الشكل الفنِّي للرواية:-

أ/ الشَّخصيَّات :-

 احتشدت الرِّواية بالعديد مِنْ الشَّخصيَّات منها شخصيَّات تاريخيَّة مثل: حمدان أبو عنجة، والزبير ود رحمة وغيرها، وشخصيَّات متخيَّلة مثل:الغريب،

ومريم الحزينة، والفقير أبو بكر، وحمَّاد المجدور وغيرها، جميعها شخصيَّات فاعلة فِي النَّص لعبت أدواراً مُفتعلة ومحدَّدة تفاعلت فِي بنية السَّرد، وساهمت بطرح خطاب متفاعل مع رؤية النَّص ونظرته للماضي وقراءته للحاضر.

ب/ الأمكنة- مفتوحة ومغلقة :-

مِنْ الأمكنة المفتوحة فِي الرِّواية ميادين المعركة التي تشير إلى حروب المهديَّة ضدّ التُّرك، والأرض السكنيَّة التي قرِّر أنْ يبنى فيها منزلاً وصارت مسرحاً للأحداث أتكأت عليه الرِّواية فِي عتباتها الأولي، ومِنْ الأمكنة المفتوحة فريق الشيخ عيسى؛ باعتباره المكان المنصهر فِي الزمان ودلالاته الإيحائيَّة لاستقبال أبو حوة الأَسمر إلى أهله، لأنَّ المكان مثَّل ارتباطه بصباه وشبابه ومعرفته لأوَّل مرَّة فِي حياته لأهله.

  • الأمكنة المغلقة : تتمثَّل فِي المنزل الذي مثَّل انطلاقة مجريات الأحداث واحتفاء الراوي بقراءة أوراق ومذكِّرات إبراهيم الأَسمر، ومنها السجن وإيحاءاته بانهيار دولة المهديَّة على يد جيوش الإنجليز واستغلَّه لصالحهم، وبالإشارة إلى مكاتب الحكومة الجديدة بالخرطوم، ومنها أيضاً المسجد وبيت الخليفة التي تُعقد فيه جلسات لتدبير شئون الحروب، ومنها القطية التي شكَّلت حمايَّة لأبو حوَّة الأَسمر عندما وجدته مريم الحزينة جريحاً وظآمئاً أطعمته وسقته وضمدت جرحه، ومثَّلت القطية أيضاً حمايَّة لأبو حوَّة مِنْ عسكر الغُزاة، عندما قصدوها؛ أسرعت وغطته بثوب مُتسخ وخرجت للقائهم، وأجابت على أسئلتهم قائلة: (هذا أبي يرقد بين الموت والحياة بسبب الجزام والسُّل – ارتعب الجنود؛ وهربوا)، ومِنْ الأمكنة المنفى إلى الريف المصري  وشكَّل لدى الشَّخصيَّات إبعادهم عن الوطن والخوف والحذر مِنْ الإنجليز.

 

ج/ اللُّغة :

عاميَّة وفصيحة، والمستوى الأكثر تدعيماً فيما يخصُّ اللُّغة وذاكرة الماضي (الشِّعر)؛ يعكس الراوي عبره واصفاً جمال فزاريَّة بأنَّها أجمل بنات الشيخ تغنَّى الشُّعراء بعيونها وشعرها وقوامها اللَّادن وقال فيها الشاعر الصديق الجرداقي :

                                   عجيلة الدّور الراعيها عليها خائف

     هيبة الباشا الحُراسها واقـــــــــــــــــــــــف

     للـــبنات بلاك قليـــبــــــــــــي عايــــــــــــــــف

               بتين يا صيد الخلا النافر توالــــــــف.

 

تداخل الشِّعر كأيقونة فنيَّة عمقت تقنيَّة السَّرد الماضوي؛ واصفاً لشخصيَّة فزاريَّة وبكائها على ماضيها ونفورها مِنْ الزمن الحاضر، واستدعائها يوم عُرسها؛ يوم ضُرِبت نُقارة (جودة)، وتطرح أسئلة مبكيَّة على ماضيها :- ماذا قالت بخيتة يوم عرس إبراهيم؟ وتغنِّي.... وماذا قالت أم سلمة يوم ختان ابنها يس؟ وتغنِّي....

ومِنْ خلال حاضرها المُبكي تتداخل سرديَّات الراوي مع سرد فزاريَّة، ويصير صوتها مسيطراً فِي السَّرد الماضوي بأزمنته وأمكنته، ورابطةً تاريخ القبيلة ووجودها فِي أماكن منعزلة تفصلها عن تلقي الأخبار وما يجري فِي أمكنة أخرى؛ طارحة نمط يحمل فيه السَّرد خبراً.

مَنْ مِنْ الشيوخ قد توفى؟ ومن مِنْ أبنائه قد خلفه؟ ماأخبار التُّرك وحملات جباية الضرائب؟ ماذا فعل التُّرك بالزبير ود رحمة بعد أنْ سجنوه فِي مصر وقتلوا ابنه؟ ماهي أمراض الحيوان لهذا العام وفِي مال أيّ مِنْ القبائل ظهر؟  

بهذا الطرح الماضوى للسرد يقفز النَّص الى الحاضر، ويستشهد بأمكنة حديثة تمثِّل أحداثها قرية (جويكرة)، التي وصل إليها أبو حوَّة الأَسمر، ويشير الراوي الى التحوُّلات التي حدثت فِي (جويكرة) واهتمام الحكومة والشركات بها وازدياد سُكَّانها، ويقارن الراوي تحوُّلاتها مِنْ الماضي إلى الحاضر، حيث كانت يقطنها نساء يبعن المريسة للصيادين ونساء النِّيليين، ويبيعن الأواني الفخاريَّة، ولَمْ تكن سوى معسكر لجمع الأخشاب لبواخر الحكومة الاستعماريَّة، وفِي الحاضر تحوَّلت (جويكرة) الى مدينة بَنْت الدولة الجديدة، وحصل تحوُّل الى أبو حوًّة مِنْ جندى فِي جيش حمدان أبو عنجة إلى تاجر مواشي. ينفصل السَّرد عن ماضيه ويؤكِّد إندماجه فِي الحاضر لقصد الترفيه، ويروى أبو حوَّة انضمامه لجيش الخليفة والحروب التي قادها ضدّ الأحباش لكبير التُّجار(الطيِّب حسن)، لذا توطَّدت صداقة أبو حوَّة وكبير التُّجار و(جويكرة) بناءً على شغف أخبار الحروب، واستغلَّ كبير التُّجار هذه العلاقة فِي أمور تجاريَّة،  وقرَّر أنْ يرسل أبو حوَّة الأَسمر الى الحبشة لمعرفته بها، ويستورد السُّكْر والشَّاي والبُّن، ورفض أبو حوًّة ذلك، لأنَّه رجل ليس ناعمٌ بالحياة وشطّط البدو ومماحكة أهل (جويكرة).

 

 

 

 

 

الخاتمة :- 

نصّ مشروع إبراهيم الأَسمر مِنْ النُّصوص التَّاريخيَّة التي قدَّمت قراءات للماضي؛ مازجة فِي أبنيتها مستوى تقنيَّات متعدّدة تتداخل فِي سياق ماضي، وتبعث فِي الحاضر روح جديدة؛ تزامنت مع تحوَّلات المجتمع اقتصادياً واجتماعياً ودينياً، وانفتح النَّص على أشكال بنيَّات سرديَّة، لعب الشكل حيِّزاً كبيراً فِي استقبال مضامين التَّاريخ مِنْ خلال :- بنية الرِّسالة والمذكرات والتعليق والأسطورة وسيرة بني هلال، بجانب هذا امتازت الرِّواية بطابع شكل فنِّي متزن مع الطرح العام للنّص، ومقدِّماً خطاباً معاصراً عبر شخصيَّاته، وأمكنته، ولغته. اتَّسقت دلالات الرِّواية مع رواية (جويكرة حزن النهر) للكاتب نفسه وسوف نفرد لها حديثاً لاحقاً بإذن الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المراجع والمصادر :-

  1. هيثم حسين، الرِّواية والتَّاريخ، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2013م، ص13 -14.
  2. ديانا شطناوى، تمثيل العصر المملوكي فِي الرِّواية العربيَّة -، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2014م، ص 13- 21.
  3. محمَّد المهدي بشري، الفولكلور فِي إبداع الطيِّب صالح – دراسة نقديَّة، دارجامعة الخرطوم للنشر 2014م، ص135.
  4. حامد بدوي (رواية) مشروع إبراهيم الأَسمر الروائي، مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي، 2007م.
 

  هيثم حسين ، الرِّواية والتَّاريخ ، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2013م ، ص13 -14 (1)

 ديانا شطناوى ، تمثيل العصر المملوكي في الرِّواية العربية -، دار الثَّقافة والإعلام الشارقة -2014م ، ص 13-21 (2)

 محمَّد المهدي بشري ، الفولكلور في إبداع الطيِّب صالح – دراسة نقدية ، دارجامعة الخرطوم للنشر 2014م ، ص135 (1)