خارج المتاهة / محمد عتيق الحركات المسلحة والأطماع الأجنبية
خارج المتاهة / محمد عتيق
الحركات المسلحة
والأطماع الأجنبية
————————————
كان الزمان زمان "نيفاشا" والمفاوضات فيها قد وصلت الى البنود الأخيرة في كتاب (السلطة والثروة) بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ونظام الإنقاذ الإسلاموي .. ولأن الإتفاق كان قد أصبح واضحاً ومتجهاً لإقرار اقتسام ثروات الجنوب (النفطية) مع المركز مناصفةً أصبحت التعليقات تدور حول ان الجنوب سيستمتع بنصف الثروات .. وفي لحظة تجلٍّ نادرةٍ قال صديق عزيز من المجموعة التي كانت تُعرف بإسم "أولاد قرنق"، قال : لماذا لا ننفصل ونأخذ كل ثرواتنا بدلاً عن الوحدة مقابل نصفها ؟! .. هذا الجهر "اللا إرادي" أعاد نفسه "ارادياً" أثناء ندوةٍ في الفترة الانتقالية (٢٠٠٥-٢٠١١) ، الفرق بين الفترتين كان الفرق بين وحدوِيَّة قرنق العميقة الجادة ، قرنق الذي مضى مبكراً (كانت لحظة التجلي في عهده) وبين القوميين الجنوبيين الذين اشتد ساعدهم باستشهاد قرنق وصعود نائبه-غير السياسي- وجاء "الجهر الإرادي" في عهدهم ، فقادوا شعب الجنوب إلى خيار الانفصال المعروف في الاستفتاء الذي جرى عام ٢٠١١ ..
هذا الموقف يلخص اتجاه قيادات الحركات المسلحة التي نشأت في تلك الفترة وذهبت تحذو حذو الحركة الشعبية في كل شيء : تبويب بنود التفاوض ، المفردات والتعبيرات في السلم وفي الحرب . وبعد ذهاب قرنق : في رعاية المصالح الخاصة وتنميتها ..
أمَّا وقد أصبح الزمان "ذهباً" تفجَّر في باطن الأرض وألهب الأخيلةَ والأحلام للأفراد وللجماعات ، فإن التخطيط لمستقبل السودان لدي الدوائر الخارجية قد استوعب هذا العنصر أيضاً "الذهب" ضمن الاعتبارات التي تعمل بها على إلهاء القيادات والعناصر الفاعلة في الحركات المسلحة على طريق التحقيق الناجز لمصالح وأطماع تلك الدوائر الخارجية التي تمثلها دول في الإقليم وفي العالم .. فهذه القوى الإقليمية والدولية تنظر إلى السودان مجالاً حيوياً للسيطرة والنهب ، وبكراً للاستثمار والاستغلال ، وفي تداخلٍ صميمٍ مع الرؤية الصهيونية التي تنفِّذها "إسرائيل" بالعمل على تفتيت دول المنطقة إلى كيانات قبلية ودينيةٍ طائفية، وفي ذلك تبريرٌ لدينِيَّة الدولة "الاسرائيلية" وترسيخٌ لدورها شرطياً للمنطقة وصاحبة القوة والنفوذ فيها وراعيةً للمصالح الامريكية والغربية.. هذه الخطط الاستراتيجية الأجنبية تقابلها محلياً مصالح خاصة وضيقة لبعض قيادات وزعماء الحركات المسلحة ..
بعد الانفصال ، أصبحت "الحركة الشعبية/شمال و "تمثل" مصالح أبناء جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق بينما الحركات الأخرى تقول أنها تعبير عن مصالح أهالي دارفور ، وقد ضمهم لاحقاً تنظيم "الجبهة الثورية" ..
مع ذلك ، وعند انفجار الثورة السودانية في ديسمبر ٢٠١٨ كان الاضطراب واضحاً في مواقف تلك الحركات : الموقف الوطني المسؤول ، والنضالي الصحيح يقول : ان تأتي إلى الداخل فوراً وتجلس مع قيادات الثورة الأخرى في حوارٍ يبحث أنجع وأسهل السبل لإنقاذ الناس والحياة في دارفور والمنطقتين ، غير أن قياداتها ، عملياً ، ذهبت في طواف مريب على دول في المحيط الإقليمي بحثاً عن (مفاوضات مع حكومة الفترة الانتقالية) إلى ان استقرت في دولة جنوب السودان لتُنتج فيها إتفاقية "سلام جوبا" التي ، وإن رأى الناس فيها للوهلة الأولى طريقاً لإيقاف الحرب ، إلّا أنها جاءت بعيدةً عن مواجهة أسباب الأزمة ، موغلةً في خدمة قيادات تلك الحركات وحلفائهم بل وتَبَنِّيَاً بالكامل لخطط تقسيم البلاد التي صاغتها القوى الدولية من حولنا ، وما "المسارات" التي قسَّموا عليها السودان إلَّا تحديداً واضحاً ل "دول السودان" المقبلة في نظرهم ..
الإخوة في تلك الحركات المسلحة خضعوا لتعبئة سياسية أصبحت ثقافة قائمة على مفاهيم - شئنا أم أبينا - هي مفاهيم عنصرية متخلفة بتعبيرات ساذجة : الجلابة ، أولاد البحر ، الشريط النيلي ، عمارات الخرطوم ، وغيرها .. وأصبحت هذه الثقافة هي القوة التي تلوِّح بها : " الرأي لنا أو سنعود للحرب "!! ولا تدري من سيحاربون ؟ شعب دارفور الذي لم يضمدوا جراحه ولم يزوروا معسكرات إيوائه ولا آثار قُراه المحروقة؟ شعب دارفور الذي استمر في مواجهة الاعتداءات البشعة من "مليشياتٍ مسلحة" طوال سنوات الثورة دون رد فعل من "حركاته المسلحة" التي تهدد بالعودة إلى الحرب ؟!
الثورة أيضاً جاءت مصحوبةً بحركةٍ مسلحة أخرى فرضت نفسها فرضا ، هي مليشيا الجنجويد "الدعم السريع" ، تختلف عن الحركات الأخرى بأنها أكثر انحصاراً ؛ فهي تتبع لعائلة بينما الأخريات مناطقية وقَبَلِيَّة مع ظلالٍ من الولاء الشخصي ، ولكنها الأكبر حجماً وقوةً والأكثر شراسةً .. هذه المليشيا هي التي تقوم بدور الوكيل في تنفيذ المخططات الأجنبية ولأنها مقترنة بطموح مُتَوَهَّم من قائدها بأنه سيحكم السودان بعد ان يحوله إلى مشيخةٍ يسودها آل دقلو .. مناجم الذهب هنا وهناك تلعب الدور المزدوج المذكور آنفاً .. وهذا أمر طويل سنأتيه لاحقاً إنشاءالله…
26.06.2022