خواطر وتداعيات في حب الوطن
خواطر وتداعيات في حب الوطن مؤانسة مع الذات في زمن الحجر المنزلي صديق المجتبى أحببت أن أنبش من تلافيف الذاكرة بعض ما علق بها من أقوال الشعراء في حب الوطن مما استظهرنا في طفولتنا وأيام الشباب فكان أساساً في بناء عقيدتنا الوطنية
خواطر وتداعيات في حب الوطن
مؤانسة مع الذات في زمن الحجر المنزلي
صديق المجتبى
أحببت أن أنبش من تلافيف الذاكرة بعض ما علق بها من أقوال الشعراء في حب الوطن مما استظهرنا في طفولتنا وأيام الشباب فكان أساساً في بناء عقيدتنا الوطنية التي مازجت القلب والنفس والروح فصارت رهينة بمعنى الوجود أو معنى أن نكون أو لا نكون وقد مثلت أمامنا كل تضحيات أجدادنا من أجل الاستقلال بمفهومه الإنساني الكبير والحرية بمعناها الكوني المرتبط بفطرة الإنسان المشرئب أبداً للحرية كونها هبةً إلهية مقدسة كقول سيدنا عمر بن الخطاب محدّث أمة الإسلام رضي الله عنه ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) فالحرية أصل في العقيدة وشرط في الوجود وإكسبر للحياة الطيبة الكريمة وأساس الدولة المدنية كما
قال الخليفة الراشد خليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار
"إذا رأيتم فيّ إعوجاجا فقوموني" فقالوا له
" والله سنقوّمنك بسيوفنا "
هذا شجنٌ في الحديث شاجنَ معنىً في حب الوطن فلا كرامة لشعب في وطنه بلا حرية . والشعوب الحرة ليس لها قابلية للاستعمار . وتأبى أن تبيع وطنها بثمن بخس دراهم معدودات تحت وطأة الفقر والحاجة . وقال الشاعر العباسي بن الرومي
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ
وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً
كنعمةِ قومٍ أصبحُوا في ظلالِكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إِليهمُ
مآربُ قضاها الشبابُ هنالكا
إِذا ذَكَروا أوطانهم ذكَّرتهمُ
عهودَ الصِّبا فيها فَحنُّوا لذالكا
فقد ألفته النفسُ حتى كأنهُ
لها جسدٌ إِن بان غودرَ هالكا
وكثير ممن تغرّبوا عن أوطانهم وعاشوا حياتهم خارجها واحتضنتهم بيئات أخرى فقدوا هذا الإحساس الشجيّ بالوطن وفقدوا انتماءهم لما يسمى بالضمير الجمعي الذي يسود مشاعر شعبهم الذي هجروه ثقافةً ووجدانا ولذلك لا يجدون في أنفسهم حرجاً من خيانته والتنازل عنه بأبخس الأثمان وصدق بن الرومي في قوله
وقد حبب أوطان الرجال إليهمو
مآرب قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أطانهم ذكّرتهمو
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
********
ولا أنسى نشيدا كنا نردده في طفولتنا لأمير الشعراء أحمد شوقي
عُصفورَتانِ في الحِجازِ
حَلَّتا عَلى فَنَن
في خامِلٍ مِنَ الرِياضِ
لا نَدٍ وَلا حَسَن
بَينا هُما تَنتَجِيانِ
سَحَراً عَلى الغُصُن
مَرَّ عَلى أَيكِهِما
ريحٌ سَرى مِنَ اليَمَن
حَيّا وَقالَ دُرَّتانِ
في وِعاءٍ مُمتَهَن
لَقَد رَأَيتُ حَولَ صَنعا...
ءَ وَفي ظِلِّ عَدَن
خَمائِلاً كَأَنَّها
بَقِيَّةٌ مِن ذي يَزَن
الحَبُّ فيها سُكَّرٌ
وَالماءُ شُهدٌ وَلَبَن
لَم يَرَها الطَيرُ وَلَم
يَسمَع بِها إِلّا اِفتَتَن
هَيّا اِركَباني نَأتِها
في ساعَةٍ مِنَ الزَمَن
قالَت لَهُ إِحداهُما
وَالطَيرُ مِنهُنَّ الفَطِن
يا ريحُ أَنتَ اِبنُ السَبيلِ
ما عَرَفتَ ما السَكَن
هَب جَنَّةَ الخُلدِ اليَمَن
لا شَيءَ يَعدِلُ الوَطَن
وقال شوقي أيضاً من منفاه من منفاه في أسبانيا في قصيدته (اختلاف الليل والنهار)
وسَلا مِصْرَ هَلْ سَلا القلْبُ عَنْها. أَوْ أَسَا جرْحَهُ الزَمانُ المُؤَسِي؟
كُلَّمَا مرَتِ اللَّيالي عَلَيْه رَقَّ والعَهْدُ في اللَّيالي تُقسِي
مُسْتطارٌ إذا البَواخِر رَنَّتْ أوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ عَوتْ بَعْدَ جَرْسِ
رَاهِبٌ في الضُلوعِ للسُفْنِ فَطْنٌ كُلَّمَا ثُرْنَ شاعَهُنَّ بنَقْسِ
وطـني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهـفا بالفؤاد في سلسبيل
ظمأ للسواد مـن (عينِ شمس)
شهد الله لم يغب عن جـفوني شخصه ساعة ولم يخلُ حسي
يا فؤادي لكلِّ أمرٍ قرارٌ
فيه يبدو وينجلي بعدَ لُبس
وفي هذه القصيدة جريٌ على سينية البحتري التي وصف فيها نفسه بعد أن خرج هائما على وجهه بلا وطن، بعد مقتل الخليفة المتوكل الذي كان من خاصته الذين يجالسونه وينادمونه وكان يخشى من بطش ابنه المنتصر فخرج هائما على وجهه بلا مأوى ولا وطن فقال في مطلعها
صنت نفسي عمّا يدنِّس نفسي
وترفعت عن جَدا كلَّ جبس
إلى أن يقول
حَضَرَتْ رَحليَ الهُمُومُ فَوَجّهْـ ـ
تُ إلى أبيَضِ المَدائنِ عُنْسِي
أتَسَلّى عَنِ الحُظُوظِ، وَآسَى
لَمَحَلٍّ من آلِ ساسانَ، دَرْسِ
ذكرتنيهم الخطوبُ التوالي
ولقد تُذكِرُ الخطوبُ وتُنْسي
وقال شوقي أيضاً في في قصيدته (نكبة دمشق) عندما هاجمها الفرنسيون
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ
يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا
إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا
وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا
وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ
فَفي القَتلى لِأَجيـــــــــالٍ حَياةٌ
وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمــراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَــــرَّجَةٍ يُدَقُّ
*******
كان أبو العلاء المعري أشدَّ ولعاً بحب الوطن وكثيرا ما كان يُسْقطُ هذه العاطفة على إبله لما عُرِفَ عنها من حنين للوطن وقد حدَّثني أستاذي عبد الله الشيخ البشير شيخ الشعراء ، رحمه الله ، ذات أنسٍ وكان يحب أن أقرأ له لامية أبي العلاء التي يصف فيها حنين الإبل للوطن فكان يتمايل طرباً ويحلق في معانيها .
فحكى لي أن الإبل لقنَّته درساً في الوطنية لن ينساه أبد الدهر
فقلت : كيف؟
فقال إنه في بداية سبعينيات القرن الماضي ، أختير هو وزميلٌ له للعمل كمعلمين في السعودية بعقد عمل مجزيً ، فلما رست الباخرة في ميناء جدة مرا على إبل صادرة من السودان وكانا يلبسان الزي القومي السوداني وكان زميله يرتدي زي إحدى قبائل رعاة الإبل قال فلما رأتهما الإبل نهضت وصاحت وذلك لأنها جاءت من نفس قبيلة ذلك المعلم الذي عرف وسمها فحدا لها حداءً فبكت الإبل وبكينا معها . قال والحديث للأستاذ عبد الله الشيخ البشير قلت في نفسي هذا الحيوان عرف قيمة الوطن رغم أن أهله باعوه ليذبح ويؤكل وأنا قادمٌ بطوعي واختياري مغتربا عن وطني من أجل المال ، فقررت أن أنهي اغترابي وأعود إلى وطني حالا وقد فعلت بعد فترة قصيرة جداً من الاغتراب وكان ذلك سرَّ تعلقه بقصيدة أبي العلاء المعرِّي التي يقول فيها
طَرِبْنَ لخَفْقِ البَارِقِ المُتَعالي
ببَغدادَ وهْناً ما لَهُنّ وما لي
سَمَتْ نحوَهُ الأبْصارُ حتى كأنها
بنارَيْهِ مِن هَنّا وثَمّ صَوالي
إذا طالَ عنها سَرّها لو رُؤوسُها
تُمَدّ إليه في رُؤوسِ عَوال
تمنّتْ قُوَيْقاً والصَّراةُ حِيالَها
تُرابٌ لها من أيْنُقٍ وجِمال
إذا لاحَ إيماضٌ سَتْرُت وُجوهَهَا
كأنّيَ عَمْروٌ والمَطِيُّ سَعالي
وكم هَمّ نِضْوٌ أن يَطيرَ مع الصَّبا
إلى الشأمِ لولا حَبْسُهُ بعِقال
ولولا حِفاظي قلتُ للمَرْءِ صاحبي
بسَيْفِكَ قيّدْها فلستُ أُبالي
أأبغي لها شَرّاً ولم أرَ مِثْلَها
سَفَايِرَ ليلٍ أو سَفائنَ آل
وهُنّ مُنيفاتٌ إذا جُبْنَ وادياً
توَهّمْنَنا منهُنّ فوْقَ جِبال
لقد زارني طَيْفُ الخَيالِ فَهاجَني
فهل زارَ هذي الإبلَ طَيْفُ خَيال
لعَلّ كَراهَا قد أراها جِذابَها
ذَوائبَ طَلْحٍ بالعَقيقِ وضَال
ومَسْرَحَها في ظِلّ أحْوَى كأنها
إذا أظْهَرَتْ فيه ذَواتُ حِجال
حَلُمْنا بأسْنانِ الكُهُولِ وهذه
شَوارِفُ تَزْهاها حُلومُ إفال
تَرَى العَودَ منها باكياً فكأنّه
فَصِيلٌ حَماهُ الخِلْفَ رَبُّ عِيال
فآبِكَ هذا أخضرُ الحال مُعْرِضاً
وأزْرَقُ فاشرَبْ وارْعَ ناعِمَ بال
ستَنْسَى مِياهاً بالفَلاةِ نَمِيرَةً
كنِسْيانِها وِرْداً بعَيْنِ أثَال
وإن ذَهَلَتْ عمّا أجِنّ صُدورُها
فقد ألهَبَتْ وَجْداً نُفوسَ رِجال
ولو وَضَعَتْ في دِجلةَ الهامَ لم تُفِقْ
من الجَرْعِ إلاّ والقُلوبُ خَوال
تذَكّرْنَ مُرّاً بالمَناظِرِ آجِناً
عليه من الأرْطَى فُرُوعُ هَدال
وأعْجَبَها خَرْقُ العِضَاهِ أُنوفَها
بمِثْلِ إبَارٍ حُدّدتْ ونِصال
تَلَوْنَ زَبوراً في الحَنينِ مُنَزّلاً
عليهِنّ فيه الصّبرُ غيرُ حَلال
وأنشَدْنَ مِن شِعْرِ المَطايا قصِيدةً
وأَوْدَعْنَها في الشوْقِ كلَّ مّقال
أمِنْ قِيلِ عَوْدٍ رَازِمٍ أمْ رِوايَةٍ
أتَتْهُنّ عن عَمٍّ لهُنّ وَخال
إلى آخر القصيدة
*******
وأهل البادية أكثر الناس وفاءً لأوطانهم وقد وتعجب من مضارب خيامهم في الصحراء والطبيعة القاسية ولا يحبون حياة الرفاه والترف في الحضر فذلك وطنهم المركوز في وجدانهم وكلنا يذكر
قصة ميسون بنت بحدل الفتاة البدوية الجميلة التي تزوجها أحد الخلفاء فتركت وطنها في بادية الشام وعاشت معه في المدينة حيث العيش الرغيد . لكنها لم تطق فراق وطنها فقالت فصيدتها الشهيرة التي صارت مثلا في الوفاء :
لبيت تخفق الأرواحُ فيه
أحب الى من قصر منيف
وكلب ينبح الطراق عني
أحب الي من قط أليف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب الي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي
أحب الي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج
أحب الي من نقر الدفوف
خشونة عيشتي في البدو أشهى
الى نفسي من العيش الطريف
فما أبغي سوى وطني بديلا
وما أبهاه من وطنٍ شريفِ
فلما سمعها زوجها طلقها لتعود الى أهلها
لعل الوطن هنا مرتبط بالثقافة والتراث والتقاليد والعادات ومنظومة القيم الاجتماعية
فهذه الفتاة البدوية شعرت بالغربة في المدينة
قال المتنبي
(لكلِّ امرئٍ من دهره ما تعودا )
********
قالت الشاعرة الجاهلية الخرنق بنت بدر ويطلق عليها أيضا الخرنق بنت هفان بن مالك وهي أخت الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي قتله بنو أسد في يوم قُلاب وكان يوماً مشهوداً من أيام العرب في الجاهلية وقد قالت الخرنق شعرا كثيرا في رثاء أخيها من أمها طرفة بن العبد ومن قُتلوا معه ويَغْلُب على شعرها الرثاء والفخر والاعتزاز بقومها
لا يَبعَدَن قَومي الَّذينَ هُمُ
سُمُّ العُداةِ وَآفَةُ الجُزرِ
النازِلونَ بِكُلَّ مُعتَرَكٍ
وَالطَيَّبونَ مَعاقِدَ الأُزرِ
الضارِبونَ بِحَومَةٍ نَزَلَت
وَالطاعِنونَ بِأَذرُعٍ شُعرِ
وَالخالِطون لُجَينَهُم بِنُضارِهِم
وَذَوي الغِنى مِنُهم بِذي الفَقرِ
إِن يَشَربوا يَهَبوا وَإِن يَذَروا
يَتَواعَظوا عَن مَنطِقِ الهُجرِ
قَومٌ إِذا رَكِبوا سَمِعتَ لَهم
لَغَطاً مِنَ التَأييِه وَالزَجرِ
مِن غَير ما فُحشٍ يَكونُ بِهِم
في مُنتَجِ المُهُرات وَالمُهر
لاقَوا غَداةَ قُلابَ حَتفَهُمُ
سَوقَ العَتيرِ يُساقُ لِلعَترِ
هَذا ثَنائي ما بَقَيتُ لَهُم
فَإِذا هَلَكتُ أَجَنَّني قَبري
وكثير من هذا في الفخر بمآثر وقيم الوطن الثقافية والحضرية ولهذا يذود الفرسان عن أوطانهم