مراقي سيد عبد العزيز في " يامداعب الغصن الرطيب

مراقي سيد عبد العزيز في " يامداعب الغصن الرطيب اسامة سليمان.. امريكا أنا وانت في الروض ياحبيب راق النسيم وحلى المرور

مراقي سيد عبد العزيز في

مراقي سيد عبد العزيز في " يامداعب الغصن الرطيب

اسامة سليمان.. امريكا

 

 

 

أنا وانت في الروض ياحبيب
راق النسيم وحلى المرور
بقى أحلى من ساعة السرور
وأدق من فهم اللبيب

أُخذتُ بهذا التشبيه للشاعر الكبير * سيد عبد العزيز* في رائعته " مداعب الغصن الرطيب" ؛ فكان نافذة ولجت منها للقصيدة لأعيد قراءتها من جديد لتفتح لي أبواباً على عوالم الشاعر المدهشة .
بداية لنتوقف أمام هذا التركيب الذي يبدو بسيطاً جداً وهو يتخذ شكل المشبه والمشبه به ، فالمشبه النسيم ( رقَّ) فأصبح مثل ..
طعم السرور في حلاوته وهو تشبيه غاية في الجدّة ولم يكتفِ الشاعر بهذا ولو اكتفى لأبدع ، وبقدر مافاجأنا بروعة التشبيه فقد ذهب خطوتين أخريين في مجاهل الإبداع أولاً بإيراد تشبيه آخر وثانياً بجعله مغامرة صادمة مُغنية فقال:
وأدق من فهم اللبيب

لقد رق النسيم فصار كفهم اللبيب دقة وأول مراقي الإبداع هنا أن فهم اللبيب المشبه به غير محسوس ما يفتح حقولاً واسعة لتلقيه بحسب حال السامع ، ثم إن مفردة ( أدق) والتي اختارها الشاعر بعناية شديدة تحمل - في رأيي معنيين بحسب موقعها- أولهما الفهم  الدقيق هو المصيب بشكل عام ، وثانيهما الدقيق المبرأ من الحواشي وهو على بعده يناسب الحالة العامة للبيتين ، فالشاعر -فيما أظن - قصد إلى إشراك المتلقي في الحالة الشعورية العامة أكثر مما سعى إلى إيراد تشبيهات وصور  وأظنه وفّق كثيراً استناداً على مفردة ( أدق) المحورية بزحزحتها عن معناها المعجمي وإضفاء ظلال تناسب الموقف وهذا ما يفرق بين شاعر وآخر.
ولنلج إلى عوالم القصيدة بنظرة عامة ، وأول مايستلفت الانتباه هو ابتعادها عن الحسية التي يعدها البعض من أظهر سمات شعر الحقيبة فقد اعتمدت القصيدة معجماً متسقاً تتكرر فيه مفردات مثل غناء/ جمال / طيب/ سرور / نور وغيرها من المفردات المجنحة التي تُحسُّ فقط، وهي مفردات تضج بها تجربة سيد عبد العزيز، ويمكن أن ندلل بمفردة واحدة وهي نور حتى لا نذهب بعيداً
ففي " حبيبي اكتب لي يقول :
يا نـور عـيـنـي
يا وحيـد عـمـري
الـمـا دمـتـا حي
وفي " أقيس محاسنك بمن"
نجد:
اقيس محاسنك بمن

ياالدرة الماليك تمن
والله نور عيني نور الزمن
وفي " انت عارف انا بحبك:
هواي مناي حياتي حبك بالمحبة
بلاك أشوف النور ظلام
وأذوق طعم كل حاجة مرة
وفي " حاول يخفي نفسه"
حاول يخفي نفسه وغير اتجاهه
سطع النور في أفقه وكل إنسان رآه

ومثل هذا كثير لايكاد يحصى خاصة إذا ما أضفنا له متعلقات المفردة ومجاوراتها ، ومعجم سيد يحتاج إلى دراسة إحصائية متعمقة لمثل هذه المفردات تستصحب كيفية توظيفها .
وعلى مستوى الشكل البنائي فقد اتخذت القصيدة شكلاً صارماً جداً - قد يوجد مابشابهه في شعر الحقيبة - مبنياً على نظام البيتين يلتزم الباء في نهاية الشطر الأول من البيت الأول تليه الراء قافية للبيت ، وعلى العكس تأتي الراء في نهاية الشطر الأول للبيت الثاني الذي تكون قافيته الباء كما في :
شيء ينعش الشروح في الأديب
ويحيي روح ميْت الشعور
للقاك تنشرح الصدور
ويفرح القلب الكئيب
وقبل أن نستثني البيت الأول نلاحظ تسكين الياء في كلمة ( ميْت) مستفيداً من الاستخدام القرآني في قوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) الحجرات ، ليستقيم الوزن.
ولا شك أن التزام شكل بنائي يقيد الشاعر نوعاً ما ، وقد دلل بعض النقاد على ذلك بقصيدة ( الطلاسم ) للشاعر العربي الكبير إيليا أبو ماضي - على شعبيتها الطاغية- فالشاعر يمهد على طول القصيدة بفكرة في ثلاثة أسطر شعرية يليها تساؤل تكون إجابته لست أدري ما أضفى على بعض أجزاء القصيدة تكلفاً
وللذكرى فقط والذكرى تنفع المتذوقين نورد هذا المقطع
ترسل السّحب فتسقي أرضنا والشّجرا

قد أكلناك وقلنا قد أكلنا الثّمرا

وشربناك وقلنا قد شربنا المطرا

أصواب ما زعمنا أم ضلال؟
لست أدري!
على أن شاعرنا سيد عبد العزيز- في رأيي- تفادى مأزق الشكل في هذه القصيدة الفريدة.
ولد سيّد ( بحسب ويكييبيديا) واسمه عبد المحسن في أم درمان عام ١٩٠٥ لأب مصري وأم سودانية ، والأغنية من ألحان كرومة المتوفى عام ١٩٤٧ على أرجح الأقوال ولم يتسن لنا معرفة تاريخ ظهورها.


* أسامة سليمان*