ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة
ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة - محمَّد خلف -لندن أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة لا تقتصرُ فقط على رفدِ وتطويرِ المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة، وإنَّما تتعدَّاه، في نظرنا، إلى تنصيب التَّاريخ الثَّقافيِّ نفسِه صنواً للتَّاريخ السياسي؛ وكلاهما، من منظوره، أي ألتوسير
ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة
- محمَّد خلف -لندن
أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة لا تقتصرُ فقط على رفدِ وتطويرِ المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة، وإنَّما تتعدَّاه، في نظرنا، إلى تنصيب التَّاريخ الثَّقافيِّ نفسِه صنواً للتَّاريخ السياسي؛ وكلاهما، من منظوره، أي ألتوسير، يشوِّشانِ على نقاء المفهوم الكلاسيكي، الذي يعتمدُ الاقتصادَ أساساً أوحدَ لبلورةِ أطروحاته. فمن الأشياء اليوميَّة المُعتادة، وليس بالضَّرورة الأحداث الضخمة الجِسام، يُمكِنُ التأسيسُ لتدوينِ تاريخٍ جديدٍ للبلاد، هو أقربُ إلى روحِ الشَّعب، وأبعدُ عن الأطروحاتِ التي تُردِّدُ بقلمٍ واعٍ لمقصدِه أحياناً، وفي مرَّاتٍ أخرى من دون وعي كافٍ منه، طريقة شوف الرَّحالة الأجانب والمُقيمين المؤقَّتين، وتبنِّي ملاحظاتهم العابرة أو القبول التَّام لها من غير تمحيصٍ نقديٍّ لِما جاء في مذكِّراتهم التي لا غنًى للباحثِ عنها، والتي تُضمِّنت في شكلِ وثائقَ ومتونٍ امتلأت بها رفوفُ المكتبات وخزانات دورِ الوثائق في المؤسَّسات الأكاديميَّة المحليَّة والأجنبيَّة.
على سبيلِ المثال، يُمكِنُ صياغةُ تاريخٍ حميم لجماعتَيْ أو طائفتَيْ الأنصار والختميَّة (وبالتَّالي، حزب الأمَّة والحزب الاتِّحادي الديمقراطي، إن لم نقُلِ الأحزابَ الاستقلاليَّة والاتِّحاديَّة) من خلالِ رصدِ الأنشطة اليوميَّة لدار الذِّكرى ببيتِ المال (والذي يُقرأُ فيه راتبُ الإمامِ المهديِّ مرَّتين يوميَّاً)، وقصر الشَّريفة الواقع على مرمى حجرٍ من الدَّار (والذي يُقرأُ في ساحتِه المولدُ يوميَّاً ويُختَمُ كلَّ خميس). كما يُمكِنُ كتابةُ تاريخٍ أنصعَ بتتبُّعِ الأنشطة اليوميَّة لِجَدِّي بدوي سليمان كركساوي؛ فقد كان يحتفظُ إلى جوارِ سريرِه (عنقريبه) بشيئين: مُصحفٌ مكتوب بخطِّ اليد، يتمُّ استلافُه من قبل سكَّانِ الحيِّ كلَّما طلَّ في كَنَفِ أُسرةٍ صغيرةٍ مولودٌ جديد؛ ودفترُ الأستاذِ الكبير، الذي يُقيِّدُ في أسطرِه المُتتابِعة ما يصطلِحُ علماءُ الاجتماع على تسميته بالأزماتِ الاجتماعيَّة الأُسريَّة الأساسيَّة: ميلادُ طفلٍ، وزواجُ راشدٍ، وموتُ إنسانٍ أيَّاً كان عُمُرُهُ.
وعندما يُولدُ طفلٌ جديد في بيتِ المال، كان يُسمَّى، على سبيل المثالِ، محمَّداً أو فاطمة؛ مصطفى أو أسماءَ؛ أحمدَ أو رُقيَّة. وبتأثيرٍ ناعمٍ من الشَّريكِ الأضعفِ في الحُكمِ الثُّنائي، صار المولودُ يُسمَّى عادلاً أو فاتنَ؛ سامي أو سامية؛ مجدي أو ماجدة. وعندما يخطو راشدٌ أو تأتي القِسمةُ إلى راشدةٍ، كانتِ الخطوةُ تُكلَّلُ بالدَّلُّوكةِ والزَّغاريدِ النَّديَّة. وبتسلُّلِ ذاتِ التَّأثير، أصبحتِ المناسبةُ تُجَهَّزُ بالشَّاشاتِ وكاميرات السِّينما المُتجوِّلة التي تعرِضُ أفلاماً مصريَّة لمحمود شكوكو وإسماعيل يسن، تتخللَّها أُغنياتٌ خفيفة مرِحة وقفشاتٌ كوميديَّة تسرُّ النَّاظرين؛ هذا كلُّه قبل ظهورِ الفنَّانِ "الذَّرِّي"، إبراهيم عوض، بصوته الذي تحمله النَّسماتُ منذ أطرافِ اللَّيل، فيتقاطرُ حوله الفتيانُ والفتياتُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب. وعندما ينتقلُ شخصٌ إلى رحمةِ ربِّه، كانت أيَّامُ المأتم تُجَلَلُ بالقرآنِ، بصوتِ الشَّيخ عبد الباسط عبد الصَّمد والشَّيخ محمود الحصري، قبل أن يجدَ الشَّيخانِ الجليلانِ مشكاةً للتِّلاوة أو شرفةً للتَّرتيل، إلى جانبِ الشَّيخَيْن الكريمَيْن من شمالِ الوادي.
وإذا انتقلنا إلى التَّعليم، أي غير التَّعليم التَّقليدي في الزَّوايا والخلاوي، كانتِ المؤسَّسات التَّعليميَّة للشَّريكِ الأضعف تُنافسُ الأخرى التي تمَّ افتتاحُها حديثاً من المداراس الأوَّليَّة (الأساس)، إلى الابتدائيَّة (المتوسِّطة)، ثمَّ الكلِّيَّات الثَّانويَّة (التي تطوَّرت لاحقاً إلى جامعة). وكان المدرِّسون المصريون همُ الذين يُشرِفون على تلك المدارس التي تمَّ افتتاحُها منذُ العقودِ الأولى للحُكمِ الثُّنائي. وكان طلاب كليَّة غردون ينقسمون إلى "أفنديَّة" و"شيوخ"، فاضطلعَ الشَّريكُ الأضعف بمهمَّة تربية النشءِ وتخريجهم "شيوخاً". وفي رواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، قاد شخصٌ يركبُ حصاناً ويرتدي بنطالاً وقبعةً بطلَ الرِّواية، مصطفى سعيد، إلى مدرسةٍ فسيحة على شاطئ النِّيل؛ وعندما دخل الطِّفل (البطل) إلى الفصل، وجد المدرِّسُ يرتدي قفطاناً، فطاردته لعنةٌ قادته في نهاية المطاف إلى القاهرة ولندن (عاصمتَيِ الحُكم الثُّنائي)، ليكتوي بسعيرِ المأساة بقتلِه لشريكتِه الأولى، وشَرَكِه المنصوب، جين موريس.
وكان المتعلِّمون "يتثقَّفون" بقراءةِ الصُّحف والمجلَّات المصريَّة؛ ويستمعونَ إلى إذاعاتِ القاهرة قبل أن تُفتتحُ واحدةٌ في أمدرمان؛ ويُشاهدون الأفلام المصريَّة التي تُعرضُ مساءً في دورِ العرضِ المحدودة؛ وكانتِ الخِيَمُ وصيواناتُ الطُّرقِ الصُّوفيَّة وسُرادقُ الحكومة يُشرِفُ على تزيينها ورسمِ خطوطِها عددٌ من الخطَّاطين المصريِّين؛ كما شارك أفرادُ البعثةِ المصريَّة في تأسيسِ الفرق الرِّياضيَّة، فلا عجبَ أن يُغيِّرَ الدِّكتاتورُ الثَّاني اسمَ فريقٍ منها في بيت المال من "فاروق" (الملك المخلوع في أعقاب "الثَّورة" المصريَّة) إلى "ناصر"، عند تنفيذِ قرارِ دمجِ الأندية، فضاع الفريقُ الوطنيُّ "الكراكسة" من جرَّاءِ هذا القرار المُجحِف؛ وكانتِ الأسطواناتُ الأولى لكرومة وزنقارَ وسرور تُطبعُ في القاهرة؛ وكان الشُّعراءُ يهفون للإقامةِ المؤقَّتة فيها؛ فلا غروَ أن تشرَّبتِ الحركةُ الوطنيَّة السُّودانيَّة، بجناحَيْها الاتِّحادي والاستقلالي معاً، إبَّان عهد الطَّلب في القاهرة، بروحِ الثَّقافة المصريَّةِ العميقة، إن لم يكن بتبدِّياتِها السِّياسيَّةِ الظَّاهرة على السَّطح.
لا نقولُ إنَّ للقاهرةِ أطماعاً في السُّودان، ولكن نقول إنَّ لها مرامياً واضحة في جنوبها منذ نشوء الدَّولة المصريَّة الحديثة في كَنَفِ الاستعمار؛ فإستراتيجيَّتُها الكبرى - التي أدَّت إلى مشاركة الوطنيِّين المصريِّين في حملة الغزو، ومن ثمَّ المشاركة في حُكمِ البلاد بدَورٍ محدود - قائمةٌ على حراسةِ الحدودِ الجنوبيَّة وتأمينِ مصادرِ مياه النِّيل. ولم يكن في مقدورها بجُثُوِّ المستعمرِ على صدرِها أن تقومَ بهذا العملِ وحدَها. وكان من حظِّ الحركةِ الوطنيَّة المصريَّة في أعقاب ثورة عرابي أنَّ كان لدى المستعمرِ البريطانيِّ هدفٌ واحدٌ من وجوده في مصر، وهو حراسةُ حركةِ الملاحة في قناةِ السِّويس لضمانِ وصولِ البضائع من الهند، جوهرةِ التَّاجِ البريطاني. لوضوحِ هذينِ الهدفَيْن وأهميَّتهما الإستراتيجيَّة لكلٍّ من بريطانيا ومصر، كان من اليُسرِ عقدُ شراكةٍ، أو زواجِ مصلحةٍ، تبرمه وزارةُ الخارجيَّة البريطانيَّة بالاتِّفاقِ مع تركيا ومصر، التي كانت خاضغةً للسُّلطانِ العثماني، من غيرِ حاجةٍ إلى تدخُّل وزارة الحرب أو المستعمرات في هذا الشَّأنِ الدبلوماسيِّ الخاص. ومن هنا نشأ ما يُسمَّى بالحُكمِ الثُّنائي أو السُّودانِ الإنجليزيِّ المصري.
هذا ما كان بشأنِ تأسيس دولة الحكم الثُّنائي، ولكنَّ تطوُّرَه قد شابه صراعٌ دائم بين الطَّرفين، أدَّى إلى خصومةٍ سافرة، خصوصاً مع تتالي قدوم الحُكَّام الجدد من خرِّيجي جامعتَيْ أكسفورد وكيمبردج، ونمو الحركة المتصاعدة داخل المركز الكولونيالي لتفكيكِ جميعِ المستعمراتِ البريطانيَّة. وكان من جرَّاءِ هذه الخصومة أنِ استمالَ كلُّ طرفٍ قسماً من أقسامِ الحركةِ الوطنيَّة؛ فكانتِ المجموعاتُ الاتِّحاديَّة، بحُكم فكرتها الأساسيَّة، أقرب إلى مصر؛ بينما كانتِ المجموعاتُ الاستقلاليَّة، بشكلٍ مفارقٍ ومتناقضٍ، أقرب إلى بريطانيا (ولا يُمكِنُ تفسيرُ هذا القرب إلَّا برغبةِ الموظَّفين البريطانيِّين - لتأكُّدهم من المصير المحتوم للمستعمرات - ألَّا يتركوا في السُّودانِ وراءهم مستعمرٌ آخرُ، ولو تسربل بأزياءِ العروبةِ والإسلام أو الوحدةِ المصيريَّة لشعوبِ وادي النِّيل. وبالفعل، تسلَّلت هذه الخصومة بين الشَّرِيكين إلى الحركةِ الوطنيَّة النَّاشئة، فنشبَ بينها صراع، أُزيلَ في إحدى المرَّاتِ بالتَّوصُّلِ إلى صيغةٍ تصالحيَّة، يتمُّ بموجبها تعريفُ الحركة الوطنيَّة السُّودانيَّة بأنَّها "في اتِّحادٍ مع مصرَ وتحالفٍ مع بريطانيا".
هذا الوضعُ، على غرابته، لا ينتقصُ من قامةِ الحركةِ الوطنيَّة الوليدة، بوجودِ كلٍّ من دهاقنة السِّياسة البريطانيَّة وإستراتيجييِّ السِّياسة المصريَّة، التي لم تتغيَّر ولن تتغيَّر؛ ولولا دهاءُ الأزهريِّ المُطابقِ لذكاءِ الشَّريكين، لتعثَّرَ نشوءُ الدَّولةِ السُّودانيَّة منذُ لحظةِ الميلاد. إلَّا أنَّ المشكلة ما زالت تُراوحُ مكانَها، فمصيرُ الدَّولةِ السُّودانيَّة مرتبط بمصيرِ مصر. وإذا لم تستصحبِ الدَّولةُ السُّودانيَّة ذكاءً ودهاءً أزهريَّاً يوميَّاً، ستؤدِّي الضَّوضاءُ المتصاعدةُ من الجانبَيْن في الإنترنت، وردودُ الأفعالِ غيرِ المراقبةِ في الصُّحفِ السيَّارة، إلى حدوثِ ما لا يُحمَدُ عُقباه. نحنُ واثقونَ بأنَّ أجهزةَ الاستخباراتِ المصريَّة تعملُ بمنتهى الحكمة، في مراعاةِ مصالحها، ولكنَّها قادرةٌ على اللُّجوءِ أحياناً إلى قعقعةِ السِّيوف، مثلما هو بائنٌ من مواجهتها للتهديدِ الإثيوبيِّ بملءِ سدِّ النَّهضة. فهل تتمتَّع أجهزةُ استخباراتِنا ودبلوماسيِّينا في أعقابِ الثَّورةِ بدهاءٍ وذكاءٍ أزهريَيْن؟؛ فإن لم يكنِ الأمرُ كذلك، وهو في الغالبِ ليس كذلك، فيجبُ الإسراعُ في هيكلةِ الأجهزة الأمنيَّة ووزارتَي الخارجيَّة والرَّي (مع ملاحظةِ أنَّ تسمية الأزهريِّ جاءت من نَيلِ شهادة "العالِميَّة" أو "المشيخيَّة" من الجامع الأزهر الشَّريف في مصر).
في الختام، نودُّ أن نُعبِّرَ عن احتفائنا بدحضِ تفسيرِنا في الحلقة السَّابقة لعبارة "التُّونسيَّة"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ إلَّا أنَّ أطروحتَنا الرَّئيسيَّة بصدد أهميَّة دور أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة ما زالت قائمة، وما طرحناه أعلاه يمضي أكثر في تعضيدِ هذه الفكرة الجوهريَّة التي استندت إلى تطبيقِ الفكرة على واقعِ نشأةِ الدَّولة وتطوُّرِها في السُّودان. وربَّما نشرحُ في حلقةٍ مُقبِلة ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكند، ومنهجيَّةِ العلوم الطبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً.