الموسيقى السودانية واتجاهات العولمة

الموسيقى السودانية واتجاهات العولمة د. الماحي سليمان   مقدمه    مع ظهور العولمة التي انتظمت العالم نجد ان فن الموسيقى العالمية اتخذ مسارات غربية في البحث عن التجديد بأساليب فنية متعددة لتحقيق نظم عالمية جديدة للموسيقى عن طريق ابتكار نمط موسيقي واحد لكل العالم من حيث الاسلوب والذوق والمضمون ثم ترويجها عبر الآلة الاعلامية التكنولوجية الحديثة بكل تقنياتها الهندسية المرئية والمسموعة والتي ظهرت معها الاستديوهات الجديدة وأجهزة التسجيل المتطورة كما ظهرت معها أيضاً الآلات الموسيقية الكهربائية ومنها آلات المفاتيح الأورغن والسايزر والجيتارات بأصواتها المقاسة بدقة متناهية – ونتيجة لكل ذلك نجد أننا أمام تحد كبير في الكيفية التي يمكن أن نواجه بها الاتجاهات الموسيقية المعاصرة ومدى تأثيرها الموجب أو السالب على الموسيقى السودانية.

الموسيقى السودانية واتجاهات العولمة

الموسيقى السودانية واتجاهات العولمة

د. الماحي سليمان  

مقدمه
   مع ظهور العولمة التي انتظمت العالم نجد ان فن الموسيقى العالمية اتخذ مسارات غربية في البحث عن التجديد بأساليب فنية متعددة لتحقيق نظم عالمية جديدة للموسيقى عن طريق ابتكار نمط موسيقي واحد لكل العالم من حيث الاسلوب والذوق والمضمون ثم ترويجها عبر الآلة الاعلامية التكنولوجية الحديثة بكل تقنياتها الهندسية المرئية والمسموعة والتي ظهرت معها الاستديوهات الجديدة وأجهزة التسجيل المتطورة كما ظهرت معها أيضاً الآلات الموسيقية الكهربائية ومنها آلات المفاتيح الأورغن والسايزر والجيتارات بأصواتها المقاسة بدقة متناهية – ونتيجة لكل ذلك نجد أننا أمام تحد كبير في الكيفية التي يمكن أن نواجه بها الاتجاهات الموسيقية المعاصرة ومدى تأثيرها الموجب أو السالب على الموسيقى السودانية.
     وأمام هذا التحدي لابد لنا من البحث عن استراتيجية جديدة للتعبير الموسيقي الفني المعاصر حتى لا نقع في فخ التقليد لأساليب الأوربة           والأمركه وغيرها .. لأن جدلية التواصل والتفاعل الحضاري مع الآخر لا تعني تقليده وإنما نأخذ ما يناسب مناهجنا الابداعية المرتبطة بهويتنا الموسيقية وفي ذلك نجد أن الذاتية والاتجاهات القومية لكل مجتمع هي التي تجد الأولوية والأفضلية، لأن مثالية العولمة لم تتضح حتى الآن وهنالك كثير من الأصوات التي تتحفظ حولها خاصة مجتمعات العالم الثالث خوفاً على فنونها المرتبطة بالطقوس الدينية والعادات والتقاليد الموروثة.


نغمة الأمة

     لقد أشار كثير من الفلاسفة إلى خطورة تعديل نغمة الأمة دون تدرج منطقي وفترة حضانة كافية لحركة التحديث وبهذا المعنى فأن الحداثة المتسارعة يمكن أن تحدث خللاً كبيراً في وظائف التكوين النفسي والعاطفي وعدم التوازن والذي يمكن أن يقود إلى أمراض نفسية وتفكك إجتماعي.
     وتحاشياً لهذا الخلل نجد أنه لابد من الحفاظ على تقاليدنا الموسيقية الثابتة بسلمها الخماسي المعروف والتي تكونت عبر قرون طويلة من التجريب المرتبط بالحالة المزاجية الخاصة لمجتمعنا السوداني وهي الحالة التي تشاركنا فيها كل شعوب منطقة الحزام السوداني وبالتالي ليس بالامكان تعديلها أو التخلي عنها بالرغم من قناعتنا بأن الفنون لاتقبل الجمود والانغلاق وانها دائماً في حاجة إلى افق مفتوح.
    ان ما يشهده العالم اليوم من انفجار معرفي يتطلب المواكبة حتى لا نشعر             وحتى نستطيع المواكبة نحتاج إلى خارطة طريق لموسيقانا نستطيع من خلالها تحقيق التوازن المطلوب بوضعها في الاتجاه الصحيح وهذا يتطلب البحث النموذج الموسيقي والغنائي الذي يراع التنوع اللاتيني والعرقي لمجتمعنا.
      ان هويتنا السودانية لم تتبلور معها هويتنا الموسيقية  القومية بالرغم من امتلاكنا لمستودع تراثي ضخم شكلته كل الدوائر الثقافية السودانية ولكنه لم يدخل في حوار ثقافي وفني نستطيع من خلاله تحريك عملية التواصل والتفاعل المشترك وهي الطريقة المثلى التي سوف تقودنا إلى النماذج الموسيقية والتي يمكن تقويمها موسيقياً لاتجاهات الحداثة المطلوبة شريطة أن يتم ذلك بواسطة الفنان الموهوب المستوعب للتيارات الفكرية المستنيرة.


تجارب الرواد مع الحداثة

       لقد بدأت ارهاصات الحداثة الأولى في الموسيقى السودانية مع خليل فرح والذي تزامنت فترة ظهوره مع مدرسة حقيبة الفن حيث ظهرت قوالب موسيقية بسيطة تشابه الاسلوبين الثنائي والثلاثي ( الباينري والتيرنري) والتي كانت مستخدمة في الموسيقى الاوروبية قبل السوناتا SONATA ونلاحظ بأن اسلوب الحقيبة في التلحين اعتمد على الجمل اللحنية المأخوذة من اغنيات التراث ولكنها صيغت بطريقة منظمة من حيث الاستهلال والذي عادة ما يكون في شكل "رمية" بمعنى موال قصير ثم الدخول في غناء بقية النص الشعري والذي يصاغ في لحن دائري مونوفوني "MONO" مع تنوع محدود في القفلة CADENCE .
      كما ظهرت حداثة أخرى متزامنة أيضا مع الحقيبة وهي تجارب رواد الموسيقى العسكرية والتي جاءت في صياغة المارشات العسكرية وبعض المقطوعات الموسيقية التي تظهر فيها ملامح من قالب السوناتا خاصة في مؤلفات أحمد مرجان ومحمد اسماعيل بادي إضافة إلى تجربة غنائية متميزة من الفنان عثمان المو اتسمت بالايقاعات السريعة الراقصة مشابهة لاغنيات الروك اندرول ROCK AND ROLL التي ظهرت في ستينات القرن الماضي وقد جايله الفنان شرحيل احمد باسلوبه الخاص والذي عرف بموسيقى الجاز مع مجموعات اخرى وصلت لأكثر من عشرة فرق.
     ومع مرور الزمن وقيام معهد الموسيقي ظهرت اساليب التوزيع الموسيقي في أعمال كبيرة قدمها طلاب التأليف بمعاونة الاساتذة الكوريين استخدموا فيها علوم الهارموني والكاونتربوينت اضافة الى التنويع VARIATION والتحوير MODULATION كما استخدموا مصطلحات الأداء التعبيري DYNAMICS   وغيرها وأيضاً استمر بروفسور الفاتح الطاهر في تقديم مجموعة من مؤلفاته الخاصة كما قدم مجموعة من اغنيات الحقيبة واغنيات جيل الرواد والتي قام باعدادها وصياغتها في توزيع موسيقي وجد كثيراً من التقدير والاعجاب.

هذه التجارب وغيرها من التجارب الأخرى التي قدمها خريجوا شعبة التأليف من الدفعة الأولى بالمعهد ومنهم د.انس العاقب والاستاذ صالح عركي ومحمد الحسن محمد احمد وغيرهم من الفنانيين الشباب تمكنوا من طرح تفكير موسيقي جديد حيث انتقل فيه اسلوب التلحين التقليدي التراكمي إلى اسلوب التأليف الفني التفاعلي وهو الاسلوب الذي يتيح للمؤلف الموسيقي استخدام عناصر التنويع والإرتجال والتطريب والاداء التبادلي ANTI PHONY واستخدام هذه العناصر تعطي العمل الفني بعداً درامياً مدهشاً يقود الموسيقى السودانية الى الحداثة المعاصرة التي تتسق مع حركة انسان العصر وتفاعله مع المجتمعات الأخرى باعتبار الموسيقى أحد المحركات الرئيسية للبشر كما ذكر افلاطون.