منمنمات
منمنمات يحيي فضل الله الشاعر تيراب الشريف..يتحسَّس خطى الزوبعة في صمت مقبرة الشموع (1) عن دار التأليف والترجمة والنشر جامعة الخرطوم؛ صدرت المجموعة الشعرية الأولى للشاعر تيراب الشريف، بعنوان (نداء المسافة). كان ذلك في العام 1973 هكذا ببقية من عافية، العافية الثقافية التي أنهكها إلى درجة التلاشي والعدم وعدم الحضور
منمنمات
يحيي فضل الله
الشاعر تيراب الشريف..يتحسَّس خطى الزوبعة في صمت مقبرة الشموع (1)
عن دار التأليف والترجمة والنشر جامعة الخرطوم؛ صدرت المجموعة الشعرية الأولى للشاعر تيراب الشريف، بعنوان (نداء المسافة). كان ذلك في العام 1973 هكذا ببقية من عافية، العافية الثقافية التي أنهكها إلى درجة التلاشي والعدم وعدم الحضور؛ هذيان الممارسة السياسية في السودان. ببقية من تلك العافية الثقافية؛ أسهمت هذه الدار في تلمُّس المشروع الثقافي السوداني، من خلال النشر في جميع المجالات، وهي نفسها، دار جامعة الخرطوم للنشر- ترى من يدير هذه المؤسسة الآن؟ - عدنا لا نسمع لها صوتاً، ولا نحس بنبضها من خلال كتاب. أذكر أن هذا الكتاب الشعري للشاعر تيراب الشريف كان دائماً ما يجاور بألفة كتاب ( غناء العشب والزهرة) للشاعر النور عثمان أبكر على رفوف المكتبات.
«في البدء كانت شجرة
تحفر وجه الأرض في إصرار
تغرس جذرها المنهك
في مستنقع النهار
وحين فتحت بوابة الدخول
ارتطمت قوائم الجذوع بالجذور
وارتعد الصفق
وغاب وجه العالم المنهار».
(نداء المسافة)، هذا العنوان مفتوح التأويل إلى درجة الإفراط. هذا الجدال بين النداء بوصفه صوتاً إنسانياً محملاً بالرموز والإشارات المعلنة والخفية، وبين المسافة بوصفها بعداً مكانياً، هل أجرؤ وأقول أيضاً بعداً زمانياً؟
على كلٍ فالكتاب الشعري (نداء المسافة) للشاعر تيراب الشريف؛ يحتوي على كراسة أولى، و كراسة ثانية، ليس اعتباطاً أن يختار الشاعر هذا التحديد، وأنا أحاول قراءة عوالم الشاعر تيراب الشريف؛ وجدتني أتحسس ملامح هذا التحديد. الكراسة الأولى تتباهى بقصائدها، وتمتلك الكراسة الثانية التكثيف الشعري، من خلال قصائد قصيرة، قصيرة جداً. إذن لكل كراسة ملامح في البناء الشعري والعلائق الشفيفة في نسيج الصور الشعرية. لكل ذلك؛ مجبرٌ أنا أن أقدم قراءة منفصلة لكل من الكراستين، ومن الكراسة الأولى أنتخب هذا النص الشعري:
«مهرجان الزيف
زيف العصور تقيأته أمعاء المساء
في دارهم
وتقحمت ريح الفضول فناءهم
ومضت بهم في مهمة المجهول
تقتحم السهول
،،،،،،،،،،
من منكم يقوى على مصارعة الرياح؟
من منكم يستطيع أن يحمي
فناء المعبد المهجور في عرض البطاح؟
ويشد أزر الضائعين بلا صياح؟
هل يا ترى من فارس يحمي
فصول العمر من دق الطبول؟
ويخلص الأعماق من إعصار زيفٍ
قد يطول؟
،،،،،،،،،،
صلوا لهم فالزيف مزق عمرهم
لم تبق حتى آهة
تفدي ضياعهم السحيق
لم تبق حتى شرنقة
إذ أنهم خطفوا
من دون أي معانقة
وتوزعوا في المستحيل
رؤاهم متمزقة».
القصيدة التي لا تسائل القارئ، القصيدة التي لا تسائل شاعرها، القصيدة التي لا تسائل نفسها؛ هي قصيدة ميتة، باردة برودة المسلمات، بعيدة عن أن تستدفئ بالتأمل، لذلك كثيراً ما أعول على صيغة التساؤل في القصيدة. في الكراسة الأولى من (نداء المسافة)؛ فجَّر الشاعر تيراب الشريف تساؤلاته الشعرية، مستنداً على مفردات كونية. ها هو في قصيدته (حلم الوجه القديم) يكثِّف تساؤلاته الشعرية:
«وتفتقت جزر البحور
تفوح مسكاً عنبراً
عبقاً بخور
نشرت أريج أصولها
في الموج زوبعة
تصد مناعة الصدأ القديم
ماذا لدى الموج المصارع
غير جلجلة بلا صوت
وغير عاصفة الصهيل؟
هل تقتفي هذي الجزر أثر النوارس
عند هجرتها
وترى مغادرة السفن
حين العصور يحين مأتمها
ويحترق الزمن؟».
في قصيدته (مهرجان الزيف) نجد أن صيغة التساؤل الشعري تفتح بعداً تأويلياً أرحب مدى، فهي حلقة وصل بين مطلع القصيدة وخاتمتها، مطلع القصيدة مطلع خشن «زيف العصور تقيأته أمعاء المساء»، وخاتمة القصيدة شفيفة ومحملة برقة في الأسي لا تضاهى:
«لم تبق حتى شرنقة
إذ أنهم خطفوا
من دون أي معانقة
وتوزعوا في المستحيل
رؤاهم متمزقة».
في هذه المنطقة بين الخشونة والشفافية والرقة؛ يقتحم التساؤل هذا النص الشعري، في نسيج هذا العالم الذي أقام فيه الزيف مهرجانه، تطل التساؤلات:
«من منكم يقوى على مصارعة الرياح؟
من منكم يستطيع أن يحمي
فناء المعبد المهجور في عرض البطاح؟
ويشد أزر الضائعين بلا صياح؟
هل يا ترى من فارس يحمي
فصول العمر من دق الطبول؟
ويخلص الأعماق من إعصار زيفٍ
قد يطول؟».
في النص الشعري (الخلاص) الذي يتباهى مقطعه الأخير بالتساؤلات؛ ويلوذ بها خاتماً القصيدة، هو جدال الشاعر مع الغياب. النص الشعري يحاول أن يتذوق ذلك الغائب الذي هو المخلِّص، فكرة المخلِّص هي فكرة كونية، ترى لماذا يرتبط المخلِّص دائماً بالغياب؟ هل المخلص دائماً هو الغائب؟
«وهجنا خلاصنا
إن أنت غبت عن ديارنا
وودعت خطاك دربنا
وفارقت مسارنا
فمن لنا بمن يذود عن جسورنا؟
ومن لنا بمن به
ستحتمي قلاعنا؟
فمن لنا؟
فمن لنا؟».
في النص الشعري المسمى بـ(قصيدة)؛ يشهر الشاعر تساؤله الشعري مبكراً، إذ يبتدئ النص الشعري بتساؤل كبير، و له مع الحدة علائق:
«حتى متى يا جبهة الغيب الكئيبة
تخدعينا بالبكارة؟».
وها هو الشاعر يحرِّض أهل البيت العتيق في قصيدته (دعاء بعد غارة جوية)، يحرضهم على أن يواجهوا الليل بالتساؤل:
«الليل يطرق باب بيتكم العتيق
بل يجثو على
عتب الدخول
قولوا له أهلاً تفضل عندنا
ماذا وراءك غير عاصفة تطول؟».
ألاحظ ارتباط التساؤل الشعري لدى الشاعر بالمفردات الكونية، وأستعين هنا بما قاله الشاعر والكاتب المسرحي إبراهيم سلوم في الحوار الذي كان مع الشاعر تيراب الشريف في أمسية من أمسيات المركز السوداني للثقافة والإعلام بالقاهرة، الحوار منشور في العدد الخامس من مجلة (ثقافات سودانية 1999)، يقول الشاعر إبراهيم سلوم«ألاحظ أن لغة الشاعر تيراب الشريف، وأذكر بأن هذه مجرد ملاحظات أولية، لغة نازعة نحو الكوني، و لديها اعتراضات وتحفظات حول الاجتماعي المتعين داخل المتن الأدبي وهذا جزء من القطع الذي حدث مع الستينيات، في لغة بعض القصائد تظهر كلمات مثل الليل والشمس والمدار والعدم، تستحم النجوم، الرياح، وهي لغة كونية لها ما يسندها بالضرورة فلسفياً لدى أي مبدع يستخدمها».
«شبق الحلول
هيا اقتحموا مغاليق الفصول
وافتحوا باب المغارة
واغتسلوا
بتاريخ العصور توهجوا
قمراً منارة
هاتوا قلوب الضوء
واعتصروا من لبها
عرقاً ينزّ تفحماً
صخراً يشع صلابة
نبعاً تغور جذوره
في جوف أعمدة الحجارة».
في الكراسة الأولى من الكتاب الشعري (نداء المسافة) للشاعر تيراب الشريف؛ ينتمي النص الشعري إلى هذه العوالم «مستنقع النهار، بوابة الدخول، وجه العالم المنهار، احتراق النسور، مدارات الفصول، لغة العشب، نقش الأصول، مجد الريح، جزر البحور، الصدأ المقيم، الموج المصارع، عاصفة الصهيل، مأتم العصور، احتراق الزمن، أريج الأصول، صلبان العمر، قهقهة الأفراح، أطنان الهم، خيول الرفض، آلهة الرفض، ميلاد الرفض، زيف العصور، أمعاء المساء، ريح الفضول، فصول العمر، إعصار زيف، المعبد المهجور، تضاريس وجه الحبيبة، قمم النهار، شموس الانبهار، غيوم المستحيل، برد الفضول المستعار، جبهة الغيب، طعم النزيف، خيل الهرب، جيش الغضب، شبق الحلول، مغاليق الفصول، بحر الشمس، قلوب الضوء، جوف أعمدة الحجارة، وهج الشمس، الظمأ المصفى، وحشة المنفي، صمت مقبرة الشموع، كوى المحاجر، نبع البذور، العالم المذهول، ينابيع الوصول، جدب الدهور، تقاطيع الفصول، شموس الصدق، مزرعة الوحول، الوهج القديم، سنبلة الغضب، معالم البشارة، عنت الديجور، حاجز الزمن، وجه الكون، رحم الأرض، برزخ العبور، أزمنة الفراديس، زوبعة الحمأ المستعر، جسد اليواقيت، رئة العاصفة، خطى الزوبعة».
أليس ممتعاً أن ينتمي النص الشعري للشاعر تيراب الشريف إلى هذا الاحتشاد وأن يفجر النص
كل هذه العوالم!
«بطاقة اعتراف
شفقاتكم مجد السنين الضائعات
أحبتي
ومبدد الحزن المثار
وعيونكم تجتاح مقبرتي
تفتت الأوجاع من روحي
وتشعل غربتي جمراً و نار
لولاكم تشردت وتوزعت
قمم النهار
ولودعتنا في انفتاحتنا
شموس الانبهار
لكم توهجنا و هزتنا
غيوم المستحيل ولم نطق
برد الفضول المستعار».
في الكراسة الأولى من نداء المسافة نجد أن هنالك شجرة كانت تحفر في وجه الأرض في إصرار وأن الطيور التي جاءت تسأل الحديقة انكفأت وعاودت بكاءها وأن البرق يومض في جدار القصبة وأن الرؤى تتمزق في المدى البعيد وأن ألحان قيثار الزمن قد تحطمت في الآذان. ونجد أن مجد الريح يجتاح المسافة و يعري طربه وأن ميلاد الرفض تأخر وأن الحق الحب الخير توارت خلف جدار المآسي وأن الزيف مزق العمر و لم يبق حتى آهة تفدي الضياع السحيق وأن القلوب تلوذ بالصهيل حين انتحرت مرتين وأن الوهج غارق في الرماد وأن العيون تفتت أوجاع الروح و تشعل الغربة جمراً و ناراً وأن العمر يغامر في الكهوف المغلقات وأن هناك من يمتطي خيل الهرب وأن العالم المذهول يعصف بالوعي وأن القمر المصقول يقطع عرق الموت في الديار وأن من بين أكداس الزمن تسطع اللحظة المولودة الجديدة وأن النجوم تستحم في الأصيل والطيور التي ستهاجر زغردت في العرس و أخصبت مهرجان الرياح وأن الضوء الشمس يشعل جمر الوجد ويفك قيود السحاب وأن ينابيع الوصول قد جفت والليل يطرق باب البيت العتيق و يجثو على عتب الدخول وأن الجذور توقن أن بالحديقة نافذة للنور وأن في المدى سنبلة صديقة وأن البروق تكسر حاجز الزمن تضيء وجه الكون وأن الزمان و المكان يلتقيان في برزخ العبور وأن جسد اليواقيت أتعبه الوجد يتوهج في رئة العاصفة في كل فجر جديد وأن نجمة خاطفة تلوح حين يومض البرق في الأفق وأن المستحيل يمرق عبر خطى الزوبعة.
هي قراءتي للكراسة الأولى من كتاب تيراب الشريف الشعري نداء المسافة، هي قراءة تحاول أن تتذوق قصيدة هذا الشاعر الذي أهمل من قبل النقاد ـ إذا كان هنالك نقاد ـ وسأكمل قراءة هذا الكتاب الشعري من خلال الكراسة الثانية في إشاراتي القادمة.
«لنصطلي بنار عمرنا التي
توهجت في جوفنا
ولينكسر عمودنا
لتنفجر أعماقنا
ولتنقطع جذورنا
فالحوت لا يموت
ويونس المسكين في أحشائه
تشتاقه البيوت».