إبـــداعــيــــــة الاســتــهــلال

إبـــداعــيــــــة الاســتــهــلال لمياء شمت                                                                                                         تحاول هذه القراءة أن تأمل القيمة الفنية والأسلوبية لعبارات الاستهلال في بعض  المختارات السردية. ذلك باعتبار أن العبارة الافتتاحية تمثل ثقل مركزي للنص الإبداعي، فهي، وفقا لأرسطو، الإضاءة الهادية وفاتحة السبيل لكل ما يتلو. حيث تنفرد الجملة البدئية بكونها عتبة النص الأولى التي تنفتح تلقائياً على أجواء النص ومعماره وعلاقاته الداخلية، وتسهم بالتالي في استكشافه وإضاءته وتأثيث واقعه الخاص.

إبـــداعــيــــــة الاســتــهــلال

إبـــداعــيــــــة الاســتــهــلال

لمياء شمت

 

 

 

 


                                                                                                       
تحاول هذه القراءة أن تأمل القيمة الفنية والأسلوبية لعبارات الاستهلال في بعض  المختارات السردية. ذلك باعتبار أن العبارة الافتتاحية تمثل ثقل مركزي للنص الإبداعي، فهي، وفقا لأرسطو، الإضاءة الهادية وفاتحة السبيل لكل ما يتلو. حيث تنفرد الجملة البدئية بكونها عتبة النص الأولى التي تنفتح تلقائياً على أجواء النص ومعماره وعلاقاته الداخلية، وتسهم بالتالي في استكشافه وإضاءته وتأثيث واقعه الخاص.

 

 

 

 

وعليه فقد انشغل عدد غير قليل من الكُتاب الروائيين بمعاركة تلك العبارات الافتتاحية. ولعل أبرزهم  ماركيز الذي لم يتردد في وصفها بالشراسة، قبل أن يمضي في محاولة التعريف بأهمية الاستهلال كباب ينفتح على أجواء النص المكانية وإحداثياته الزمانية، وحمولاته التأثيرية وشفراته الجمالية.

وقد اعترف عدد من الروائيين بتجاربهم المختلفة مع شدة مراس الجملة الأولى، فوصفها البعض بالعصية والمتمنعة بل والمؤلمة. كما فعل باموك، الحكاء التركي النوبلي، حيث أكد أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة بأن الجملة الاستهلالية لنصوصه الروائية عادة ما تصيبه بحالة هوسية جامحة تجعله يعكف على كتابتها لما قد يزيد عن المائة مرة. وبل وقد يركض أحياناً فزعاً الى مكتب الناشر ليقوم بتعديلها وتغيير ملامحها في اللحظات الأخيرة قبل النشر.

 

 

 

 

أما جون ايرفينغ فقد استفزه الأمر ليعلن التحدي، تحضه رغبة عارمة لكسر صلف العبارة الاستهلالية المتجبرة. فإذا به ينتهي إلى ابتداع أسلوب مغامر يبدأ بالعبارة الأخيرة ويشق طريقه عكسياً ليصل للجملة الافتتاحية. الأمر الذي يبدو كاستجارة عنيدة بالضرم من الرمضاء.

وتتمتع الجملة البدئية بامتيازات دلالية خاصة، ومن ذلك طاقتها الايحائية والاستثارية العالية، التي تجعلها حفية بقصود المبدع والمتلقي معا. وذلك بانفتاحها المرن على أجواء النص، والاستثمار المربح في كل ممكنات المعنى. بالإضافة إلى حفز دور القاريء التفاعلي للمساهمة في إنتاج الدلالة. وقد عرف عدد مقدر من الكُتاب بتمرسهم في توظيف الاستهلال لمباغتة القاريء وبعثرة توقعاته، وبالتالي رفد القراءة بحوافز فنية وانفعالية منتجة.

وتصلح نصوص القاص عيسى الحلو القصصية كمثال حاضر على كيفية إنتاج مطالع استهلالية بارعة ومباغتة تستمد حوافزها الجمالية من الاستثمار الإبداعي في عدة حساسيات أسلوبية ودلالية. ومن ذلك خاصية التقتير في الوصف البصري المشهدي، والانشغال عوضا عن ذلك بوصف المدركات الأخرى غير البصرية. حيث تحضر الذاكرة المتشظية، ليس فقط بوصفها محضن أو مستودع للذكريات، وإنما ككوة علوية للرؤى والومضات الحلمية، والصور المستلة من طبقات جوانية عميقة. وهو ربما مما يجعل المتلقي في حال توثب دائم  للمشاركة في الإعمار الدلالي ولملمة المعنى.

 

 

 

 

وهكذا فإن مفتتحات الحلو النصية تستمد كثير من براعتها من قدرتها على تفجير التأويل وتجديد الإدراك، الذي لا تتوقف عند حد إثبات الزمان والمكان، بل تمضي لتربك طمأنينة القاريء من الضربة الأولي، كدعوة ضمنية باكرة للمساهمة في إنتاج النص، وللمشاركة الفاعلة في تكسيته وملء فراغاته المحتملة.

 وتقدح في الذهن كذلك استهلالات بشرى الفاضل القصصية، التي تمثل مهمازا جماليا ماكرا لمضاعفة نشوة القاريء في السبر والاستكشاف، والتأويل المشرع.

ولنعاين هنا بعض النصوص القصصية لمجموعة عيسى الحلو (رحلة الملاك اليومية)، التي ظلت  تغري الكثيرين بالنظر وإعادة القراءة، متوقفين عند بعض الجمل الاستهلالية في محاولة لاستخلاص بعض من ملامحها الأسلوبية.

ونلاحظ مثلا في قصة (رجل بلا ملامح)، حضور الاستهلال الفلسفي كمحاولة لتعريف إعجاز اللحظة النادرة، التي تحضر كفاصلة فارقة تحتقب الماقبل والمابعد الفيزيقي والشعوري. وما أن يقترب القاريء من الظن بأن في الأمر شطحة عرفانية، حتى تترى التفاصيل لتلامس السطوح المتعددة للذاكرة، والتي عادة ما يسخو بها راو يجعل من ضمير المتكلم مطية فنية تخول له الامساك بزمام السرد وتوجيهه.

ومن المهم كذلك ملاحظة أن الترقيم يلعب دورا أساسيا في هذه النصوص، فالقصة لا تتألف من مجموعة من الجمل المتعاقبة، وإنما تنسكب كفقرات تتسلسل بتوزيع منضبط، تتابع فيه العبارات بفواصل منقوطة تجعل النص ينساب كموجة اندياحية. وهي تذكرنا ببعض الحيل السردية التي اشتهر جويس بتوظيفها لخلق تأثير متاهي سديمي. حتى أنه قد كتب فصلاً كاملاً دون علامة ترقيم واحدة، ليعود فيصف الفصل بأنه قد صيغ عمداً ليبدو كجملة أفعوانية هائلة.

 أما في نصي (انفجار) و(الدخان) فتتم مباغتة القاريء وإحلاله داخل مناخ نفسي خشن ومعتم "باستمرار كانت الغرفة تنكمش وتزداد ضيقاً.. كنت أحس كما لو أن السقف يهبط في بطء ويضغط على صدري".

على العكس من (البحث عن أب) والتي تتتميز بتوصيف مشهدي حافز للترقب، يستخدم فيه القاص عدسته المقربة "نقطة واحدة تسقط في بطء ..". وهو مفتتح يستدعي للذاكرة نقاط زير عبدالغني كرم الله بفيضها الإيقاعي السمعي، ودويها الخفيت الحنون، حيث الراوي الطفل روح نبية تطرق بمحبة لأدق وأخفت خطرات الوجود. وحيث ومض  الذاكرة الخضراء الرطيبة التي تجعل من الطفولة أرخبيلاً وجدانياً فارهاً يُستعاد ويُزار. وكرم الله أيضاً يعرف كيف يبذل لقارئه مفتتحات مغوية، تسبر محمولات سرديات جوانية أليفة، وتلقحها برؤى الوجدانات الطفولية والأنثوية، والاستبصار الصوفي الذي يغوص في أغوار اللحظة ليضيء انكشافات كبيرة تتوارى في تفاصيل صغيرة و عابرة.

ونعود لنقاط الحلو المتساقطة بروية، لنكتشف أنها نقاط ماء جلكوز تسري بدفء الحياة، عبر قناة الأبرة الطبية النحيلة، لتصب في شريان ذابل. أما في (الملاك الجميل يمر من هنا) فالقاص ينخرط مباشرة في تأسيس إطار النص، مجيباً على الأين والكيف واللماذا. وهو جو سردي مغاير لقصة (الملكة والعرش ) الذي يبدأ من داخل إطار مرآة ليندفع في لعبة وجودية خطرة ومخاتلة.

أما (انتظري ريثما يذهب العابرون) فهو نص استرجاعي بجدارة، حيث الجملة الافتتاحية هي في الأصل الجملة الأخيرة للقصة، لتبدو الاستعادة الماضوية كثيفة جداً في تأثيرها النهائي.

ونقع في (توترات شجرة الجهنمي) على وصف رومانسي بمقدار خاص، يستدمج الشعرية بالغموض الفلسفي دون أن يسقط في حبائل التنميطات الرومانسية.

أما في (القصر) فلا تكتفي الجملة البدئية بإضاءة النص، بل تنفتح مباشرة على العنوان ليكملها وتكمله. حيث يعمد القاص إلى حذف المسافة بين العنوان وعتبة النص.

وكما أسلفنا فإن مفتتحات الحلو النصية تعين على الإمساك ببعض القسمات الأسلوبية، حيث تتبدى تشفيرات القاص، وثيماته المبثوثة في عتبات النصوص وأبوابها وأروقتها. وتحضر الذاكرة كماعون يستوعب كل الارتطامات الوجودية التي يُسمع دويها عبر النصوص. وكذلك يبرز اللعب الإبداعي بمفاصل الزمن وبالمرايا والفضاءات المتدامجة، مع الشغف بزحزحة الأمكنة والأزمنة ونزع تخومها. وكذلك تسريد الهشاشات الوجودية لكائنات القاص التي تدخل وقتها ودغلها الوجودي الخاص في عالم سيزيفي فوضوي جامح. حيث الفرد سجين علاقات دغلية متشابكة، والذات محتدمة بلا حيلة في مواجهة مصائر عبثية باهظة.

ويعود بنا ذلك إلى ريمون جون الذي عمل جاهداً  لاستكمال التعريف الإبداعي للاستهلال، باعتبار أنه لا يقتصر على كونه عتبة نصية، بل هو بالأحرى نقطة برزخية تفصل بين حدود خام الكتابة، وبين تمفصلها إلى وجود وحيوات وأمداء وأزمان.