زوايا الذاكرة 

زوايا الذاكرة  دكتور  عمر فضل الله  مع الأديب الراحل الطيب صالح جمعني لقاء عابر مع الأديب الراحل الطيب صالح في أحد صباحات الخرطوم في تسعينيات القرن الماضي. وكنت قد قابلته قبل ذلك لأول مرة في إحدى زياراتي للندن منذ زمان قديم في ليلة شتائية باردة مرافقاً لأحد المرضى من زملائي الطلاب

زوايا الذاكرة 

زوايا الذاكرة 

دكتور  عمر فضل الله 

مع الأديب الراحل الطيب صالح

 

 

 

 

جمعني لقاء عابر مع الأديب الراحل الطيب صالح في أحد صباحات الخرطوم في تسعينيات القرن الماضي. وكنت قد قابلته قبل ذلك لأول مرة في إحدى زياراتي للندن منذ زمان قديم في ليلة شتائية باردة مرافقاً لأحد المرضى من زملائي الطلاب. ويومها قدمني إليه أحد الأصدقاء الأطباء المقيمين بلندن. في تلك  الليلة تحدثنا وتسامرنا وكنت مزهواً بمقابلتي إياه حين عرفت أن هذا هو الأديب السوداني المشهور صاحب موسم الهجرة إلى الشمال. وحين بدأت أحدثه باللغة العربية الفصحى ضحك وقال لي: شوف يا عم عمر أنا زول بسيط اتكلم معاي بالسوداني عشان أفهمك. وأخجلني تعليقه المهذب بالطبع فغيرت (موجة) الكلام وبدأت أكلمه باللهجة السودانية لكن طريقتي في اختيار الكلمات ما زالت تضحكه فقد كنت أخلط اللهجة السودانية بالعربية الفصيحة وأدخل كلمات فخمة في الكلام السوداني العامي وكانت هذه هي طريقتي في الكلام. كان يضحك كلما سمع كلمة عربية قديمة من وحشي كلام العرب وسط كلام أهلنا السودانيين. قال لي يومها: تعرف طريقتك في الكلام زي محاولات انتماء السودانيين بأنسابهم للعرب والعروبة مع أنهم عارفين لاهم عرباً خُلص ولا هم أفارقة خلص وقدر ما يحاولوا يتفلفصوا من افريقيتهم لونهم ده يخذلهم. ثم ضحك بصوت وقال: لكن أنت فصيح وفصاحتك تعجبني. أذكر أننا تحاورنا حول العروبة والأفريقية في تلك الليلة وعضوية السودان لجامعة الدول العربية ودور السودانيين في هيئة الإذاعة البريطانية القسم العربي وتشعب الكلام فتحدثنا عن شعر الهمباتة والشعراء الصعاليك. ثم لم أقابله منذ تلك الليلة الجميلة إلا بعد مضي سنين طويلة. ولم نلتق منذ  ذلك اللقاء اليتيم إلا مرة واحدة في الخرطوم. كنت حينها في زيارة للسودان عائداً من الخليج وألقيت محاضرة ثقافية عامة في إحدى الجامعات بأمدرمان شهدها وزير الثقافة ويبدو أن الطيب صالح حضرها أو جاء في آخرها حين سمع صوتي في مكبرات الصوت فكان لقاء عابراً في ذلك الصباح كما قلت. فجاء وسلم علىَّ ففرحت لهذا جداً وذكرني بذلك اللقاء القديم. وتآنسنا وقوفاً فذكرني بلقاء لندن ثم قال لي باسماً: أول ما شفتك عرفتك وجيت أسلم عليك لكن شفت معاك الوزير فقلت ياربي الزول ده مع الناس ديل؟ ثم ضحك ضحكة رنانة. ففهمت قصده وقلت له؟ انت رايك شنو؟ أقعد معاهم؟ قال لي: لو قعدت هنا بيشلهتوك بلا فايدة وأخير ليك خليجك الجيت منه ده لأن عندك ملكة الكتابة الإبداعية. نصيحتي ليك خليك هناك ممكن تقدر تعمل حاجة لكن هنا ما أظن والغربة بتجبرك على الكتابة. وكان صادقاً. رحمه الله.