عدو حميم

عدو حميم لمياء شمت مشهد : جندي مدجج بالسلاح ومعبأ بالعداء يمعن النظر في "عدوه" المُلقى على بعد خطوات قليلة، يحدق فيه ملياً فيستبين يفاعته ونحوله، ويحس رعدة روحه المهزومة، وجسده المنهك الذابل. ويظل يتناهى إليه وجيبه وحمحمة أنفاسه وكأنه يكافح البكاء. وفي لحظة مفصلية مشعة تنتصر جسارة الروح وفروسية العقل، وتعلو لتجتاز كل السدود والعوائق المصنوعة التي تحاول أن تختزلهما في حيز التمترس خلف ولاءات عمياء، حيث الربط التعسفي بين الولاء وإخضاع الآخر واستباحة إنسانيته. 

عدو حميم

عدو حميم

لمياء شمت

 

 

 

مشهد :

جندي مدجج بالسلاح ومعبأ بالعداء يمعن النظر في "عدوه" المُلقى على بعد خطوات قليلة، يحدق فيه ملياً فيستبين يفاعته ونحوله، ويحس رعدة روحه المهزومة، وجسده المنهك الذابل. ويظل يتناهى إليه وجيبه وحمحمة أنفاسه وكأنه يكافح البكاء. وفي لحظة مفصلية مشعة تنتصر جسارة الروح وفروسية العقل، وتعلو لتجتاز كل السدود والعوائق المصنوعة التي تحاول أن تختزلهما في حيز التمترس خلف ولاءات عمياء، حيث الربط التعسفي بين الولاء وإخضاع الآخر واستباحة إنسانيته. 

وفي تلك الهنيهة العابرة يتأمل الجندي عدوه المفترض، فلا يرى أمامه سوى آخر مثله تماماً، يقاسمه الابتلاء والقدر العاثر القاسي الذي زج بكليهما لهوة تلك المحرقة المجانية، ويوغل ذلك به عميقاً ليدرك ما لم يدركه سابقاً، فيختار عندها أن يغمد سلاحه ويشهر إنسانيته.

ولعل المشهد على ندرته يتكئ بقوة على تيمة إبداعية هامة ظلت تترى في الكثير من المنجزات الإبداعية الراصدة لهدر الإنسانية تحت غطاء مسميات ماكرة، تطبخ خبثها لتحول المشاعر والقيم إلى محض أراجيح تتمايل في كل إتجاه. 

 

 

 

وهو ما ترصده الكثير من الأعمال الإبداعية من سرديات وقصائد ومسرحيات وأفلام ولوحات، تبدو وكأنها تتآزر ضمنياً في محاولة للنفاذ للدلالات الكامنة وراء عدمية العداوة ووجهها الأقبح والأفدح" الحرب"، لتُعري وتخلخل منطقها الهزيل ومسوغاتها الهشة، وصولاً بها للأسئلة الهادرة اللحوحة: هل استطاعت البشرية حقاً أن تنجز أي تقدم إنساني وحضاري حقيقي، أم أن القفزة الصناعية والتقنية والمعمارية والهيمنة الرقمية تظل مجرد مظاهر  لواقع إنساني شديد الإدقاع والبدائية والقسوة والبؤس ؟!

ونقع على بعض من هذه المعاني التي تحاول أن تمد يدها لتصافح الآخر وتهشم فخارة العداء المفترض، وتقترب لتحاوره برفق في قصيدة (جندي يحلم بالزنابق البيضاء) لمحمود درويش، حيث يدور حوار عفوي مع جندي إسرائيلي جاف ومدجج أراد الشاعر أن يبين له بسلام مطالبه البسيطة العادلة : "الوطن هو أن أحتسي قهوة أمي وأن أعود سالماً مع المساء".

 

 

 

وهو عين المضمون الشاهق العميق الذي يؤسسه ييتس في قصيدته (طيار إيرلندي يستنبأ موته). وهي بلسان طيار حربي يدرك بيقين راكز أنه سيلقى حتفه في الأعلى بين ركام السحب، فيختار أن يعترف في ارتجافته الأخيرة بأن العداء للآخر محض أكذوبة لم تنطل عليه، وتغرير لم ينل من عقله أو قلبه، وأنه في قرارة نفسه لم يحس ذرة كره للذين توجب عليه أن يرسل عليهم الحمم والموت في الأسفل.

ويستقطر ذات المعنى توماس هاردي في قصيدته ( الرجل الذي قتلت)، والتي تحكي قصة جندي يافع يصوب ويسدد سلاحه ليردي شاب في مثل عمره الأخضر كان أيضاً يصوب تجاهه ويهم بقتله. على الرغم من أنهما يدركان سلفاً أن ما يفرقهما لا يعدو أن يكون خرقة بلون مختلف، وأنه لو قُدّر لهما أن يتقابلا في مكان وظروف مختلفة لتقاربا وتسامرا وقهقها معا، ولربما ترافقا وتصادقا. وهكذا فان قصيدة هاردي تقدم رؤية تجمع هالتها معاني كبرى ترفض التغاضي عن الإنسانية بأسم عداء زائف موهوم ينتجه ويروجه من لا يدفع ثمنه الباهظ.

 

 

 

 

وهي في مجملها تمثل كذلك لقيا إنسانية عامرة تجمع كل هؤلاء بكمال الجزولي في قصيدته (مسألة)، حيث يحدق السجين من غيهبه إلى سجانه الذي يقاسمه السهر والبرد هناك على حافة سور السجن. ويمضي ليشق حجب العداء المصنوع، ويجرف حصبائه الصلدة المسننة بمد تآخي إنساني نبيل موشوم بالتعاطف والتفهم، فيخاطب سجانه :

قلت له: فكيف نمسي عدوين؟!
هل نحن حقاً كذلك؟!
وهل الذي يستحلب الآن قطرة قطرة
سهدنا معًا هنا ..
غير ذياك الذي ينام ملء الجفون هنالك
وهل ما يشقنا ضدين –هذه اللليلة-
غير الذي سوف يصهرنا توأمين
في رعب أوجاعنا القاتلة, غداً
عندما تزلزل الأرض زلزالها ..