الشَّعب يُريدُ دولةً لا مزيد

الشَّعب يُريدُ دولةً لا مزيد: محمد خلف... لندن . للحادبين على مستقبل السُّودان، وللمهمومين بأمرِ هذه البلاد العظيمة ولا وقتَ لديهم لإكمالِ هذا المقال، وللذين يكتفون منَّهم بما قلَّ ودلَّ، نودُّ أن نُطمئنَ الجميع بالقول إنَّنا سئمنا من المماطلة

الشَّعب يُريدُ دولةً لا مزيد

الشَّعب يُريدُ دولةً لا مزيد:

محمد خلف... لندن .

 

 

 

للحادبين على مستقبل السُّودان، وللمهمومين بأمرِ هذه البلاد العظيمة ولا وقتَ لديهم لإكمالِ هذا المقال، وللذين يكتفون منَّهم بما قلَّ ودلَّ، نودُّ أن نُطمئنَ الجميع بالقول إنَّنا سئمنا من المماطلة، ونُريدُ أن نقضي على لعبة التَّلكؤ، بمطالبة الحكومة الانتقاليَّة وتقويتها في ذاتِ الوقت للإسراعِ الفوري بتنفيذ مطلوبات الثُّوار؛ عِلماً بأنَّنا لسنا غافلين عن أخطار المتربِّصين بالبلاد أو مخاطر الوباء الذي يُحدِق بها؛ فبالتنظيمِ يُمكِنُ صدُّ الأخطار، وبالحذرِ يُمكِنُ درءُ المخاطر.

 

 

الكل يعلم أنَّ مبادئ الثَّورة واضحة، وقد تمَّ تلخيصها إبَّان الحَراك الشَّعبي في شعارٍ سلسٍ ذي ثلاثِ شُعَب: حرِّيَّة، سلام، وعدالة؛ وقد ضرب التَّسويفُ هذه الشُّعَبِ الثَّلاث في مقتل. ففي شُعبةِ الحرِّيَّة، ما زالتِ القوانينُ السَّابقة تُقيِّدُ مسيرةَ الشَّعب الذي خرج ضد الطَّاغوت؛ وفي شُعبةِ السَّلام، ما زال الإخوة الأعداء في جوبا يُطيحون بأحلامِ الشُّعوب في العيش بسرعةٍ ضمن مناخٍ سِلميٍّ آمن؛ وفي شُعبة العدالة، مازال الطُّغاةُ في الأسْرِ، بينما تشتكي أُسَرُ الشُّهداء لطوبِ الأرض من أجلِ انتزاعِ حقوقِ أبنائهم قُدَّام أيِّ قاعةِ محاكماتٍ جنائيَّةٍ عادلة، بدءاً من محاكم الدَّاخل البطيئة وحتَّى منصَّات الأمم المتَّحدة في جنيف.

مع ذلك، يُمكِنُ تلخيص الشِّعار الثُّلاثي في شُعبةٍ واحدة: الشَّعبُ يُريدُ دولةً لا مزيد؛ فالدَّولة "سِت الاسم" هي دولةٌ بلا رتوشٍ ولا مُسمياتٍ مخاتلة أو توصيفاتٍ أيديولوجيَّة خادعة، فالمفردةُ العامَّة اسمُ جنسٍ لآليَّةٍ تشريعيَّةٍ وقضائيَّةٍ وتنفيذيَّة حديثة، تضمنُ تقنين الحرِّية لكلِّ المواطنين، وإفشاءَ السَّلام بين ربوعهم، وبسط العدالة لكلِّ فردٍ أو جماعةٍ منهم. هذا فيما تهتمُّ الدَّولة الدِّينية بصياغةِ وهيمنةِ أحكامٍ تُرضي المعتنقين لديانةٍ بعينها، بينما تهتمُّ الدَّولة العلمانية ببسط أحكامٍ تُرضي قطاعاً كبيراً من المؤمنين وغير المؤمنين، لكنَّها تكشفُ عن نبراتٍ وتضميناتٍ لا تُرضي إلَّا المؤمنين أيديولوجيَّاً بجدواها.

 

 

 

ما نقترحُه هنا، ونعتقدُ أنَّه سيُرضي الجميع، هو دولةٌ بلا مزيدٍ أو مزايدات؛ دولةٌ خالية من التَّضمينات الآيديولوجيَّة المُشتِّتة، وعاريةٌ من كلِّ نبرةٍ إقصائيَّةٍ مُنفِّرة؛ دولةٌ تهيؤ أجهزتُها التَّنفيذيَّة المستقِلَّة مناخاً لإقامةِ انتخاباتٍ حرَّة نزيهة، تُمكِّن حزباً منفرداً أو تحالفاً حزبيَّاً من تطبيق رؤاه الآيديولوجيَّة لفترةٍ محدودة، قبل أن يعرِضَ نفسَه مرَّةً أخرى للشَّعب الذي يُقرِّر بشكلٍ قاطع، في كلِّ دورةٍ انتخابيَّة، مدى قبوله أو رفضه لتلك التَّوجُّهات المؤقَّتة، والتي لن يكونَ في مقدورها نقضُ الوفاقِ الدُّستوريِّ الذي تمَّ الاتِّفاقُ عليه مُسبَقاً في استفتاءٍ عام أو مؤتمرٍ دستوريٍّ شامل لم يستثنِ جهةً ساهمت، ولو بجهدٍ يسير، في إنجاح الثَّورة.

لم تحظَ البلادُ طيلة تاريخها بالتَّمتُّع بدولةٍ بلا زوائدَ تنتقِصُ من نقائها المفهومي؛ فدولة الحكمِ الثُّنائيِّ لم يكن يحكمُها رئاسةٌ واحدة فقط، بل انفرط عِقدُها التَّنفيذيُّ إلى جهازين: جهازُ دولةٍ كلاسيكيٍّ يُديرُه المستعمِرُ الأوروبي، بتحكُّمِه في المال والإدارة والجيش والشُّرطة والسُّجون وقلم المخابرات؛ وجهازُ دولةٍ آيديولوجيٍّ يُديرُه الجارُ الشَّقيق، بتحكُّمِه في التَّعليم والتَّربية والمرافق الدِّينية والثَّقافية والأندية الرياضية، والصُّحف والمجلَّات العربيَّة والإذاعة والسِّينما المتجوِّلة.

 

 

 

هذا فيما حَفِلت فترةُ ما بعد الاستقلال بتناوبِ العسكر والصَّفوة في حُكم البلاد، حيث عمِلتِ الأولى على تركيز السُّلطات في يدِ فردٍ أو حفنةٍ من العسكريين المُهابين، بينما اضطلعتِ الثَّانية بتبديدِ الوقت وإهدارِ كلِّ إمكانيَّةٍ لإرساءِ دولةٍ مستقرَّة، إلى أن تضيعَ هيبتُها تماماً لِتجعلَها مرَّةً أخرى لقمةً سائغة لأيِّ عقيدٍ أو عميدٍ مقامرَيْن. وما يجعلُ الأمرَ مختلفاً والفرصة مؤاتيةً هذه المرَّة لبناء دولةٍ تليقُ بصانعي هذه الثَّورة العظيمة هو وعيُ شبابِها، وسِعةُ أفقِ القائمين على تنفيذِ التَّغييرات، رغم كثرةِ الصُّعوبات وتنامي العراقيل الموضوعة أمام طريقهم.

لذلك، يأتي الخروجُ في ٣٠ يونيو لدعم الحكومة ووفودِ السَّلامِ في جوبا، للانتقال بهما من حرف سوف للتَّسويف (بذريعةِ الاستقبالِ المحض)، لا ليكتفيا فقط بحرفِ سينٍ عربيٍّ للإنجازِ الفوري، فهذه الثَّورة العميقةُ الجذور تليقُ بحرفِ سينٍ إغريقي مربَّع، وهو ذلك الذي يرمزُ إلى سرعة الضَّوء في معادلة آينشتاين الشَّهيرة، حيث يُمكِنُ، بفضله وتوفيقٍ من الله، تحويلُ الكتلِ البشريَّةِ الهادرة في يوم 30 إلى طاقةٍ ثوريَّة هائلة، وتحويل الطَّاقة المتولِّدة من حَراكِ الملايين إلى تنميةٍ اقتصاديَّةٍ مُستدامة.