الحرب الثقافية العالمية

الحرب الثقافية العالمية عزالدين ميرغني لأن الليل أقبل يحضر البرابرة ووصل البعض من الحدود وقالوا ما عاد للبرابرة من وجود

الحرب الثقافية العالمية

الحرب الثقافية العالمية
عزالدين ميرغني

 

 


لأن الليل أقبل
يحضر البرابرة
ووصل البعض من الحدود
وقالوا ما عاد للبرابرة من وجود
ماذا سنفعل الآن بلا برابرة ؟
لقد وجد هؤلاء الناس حلا من الحلول . .

الشاعر اليوناني قسطنطين كافافيس
هذه الابيات تمثل جيدا فكرة الهيمنة الأوربية الغربية . بمعني أن كلمة ( بربر ) نفسها قد أطلقها الإغريق قديما, عندما كانت حضارتهم هي الاقوى وهي المسيطرة علي الفكر والثقافة والفلسفة . وقد أطلقوها علي الآخرين الذين لا يتحدثون لغتهم . فكل من ليس بيوناني فهو بربري . ولأنه لا يتحدث اليونانية فهو يبربر بربرة لذا فهو بربري . فهو بصريح العبارة أقل مرتبة انسانية وحضارة سلوكية . وهذا البربري هو العدو الكامن والدائم الذي يجب أن لا يؤتمن أبدا . ولكن يجب اقصاؤه والحذر منه دون التخلي عنه نهائيا . بوصفه غريما محفزا ومهيئ الأسباب والذرائع الضرورية , وقت الاستعداد والخطر . وهذه الفلسفة والفكرة , هي التي ما تزال مسيطرة علي الفكر والذهنية الغربية . فنحن في العالم الثالث ما نزال في فكرهم باننا البرابرة دوما والي الأبد . وأن لغاتهم يجب أن تسود العالم ( العولمة الثقافية ) . وقد قالها أحد رؤساء فرنسا من قبل ( من يعرف لغتنا يشتري بضاعتنا ) . فوجود البرابرة مهم للاستهلاك وحركة السوق الرأسمالية . وقد اكتشفت الدول الغربية بأن وقف الحروب الأهلية والاقتتال مهم جدا ليس من اجل حقوق الانسان , وانما بقاء المستهلك حيا هو المهم . وفي الذهن المسيطر علي كل شيء في أوروبا واميركا , هو ان يتجدد ويبقي دائما هذا الخطر المهدد لهيمنتهم وبقائهم . هذا الخطر بعد هجمات سبتمبر المشكوك فيها أصبح هو الدين الاسلامي رغم ادعائهم غير ذلك . لانه يرفض هيمنتهم ووصايتهم الفكرية والثقافية . لقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي سابقا , قد اسقط نظرية الحرب الباردة , ونظرية التعبئة والاستعداد الدائم . ومنها ادارة ترسانة التسلح , واهمها التسلح النووي , وكسب الحلفاء, واقامة القواعد العسكرية , بحجة الحماية من الخطر الأحمر . ولابد من وجود العدو وبعثه واستفزازه. وهذه المرة تحت عنوان الصراعات القومية والثقافية . ومنذ البدء , ومنذ اليونان القديمة , كرست الحضارة الغربية , مبدأ ( الثنائية الحضارية ) . حضارة العالم الأول , والتي ينبغي أن تكون النموذج والمثال , في النهضة والرقي , وأخري للبرابرة . وهؤلاء هم الخطر الذي يتعين محاصرته , وحشد القوي ضده . بل يجب ضربه واستباقه في عقر داره . لأنه يمثل المشروع الأخطر لمستقبلهم .
ويجب أن لا نحسب , بأن الوحدة الأوربية , هي وحدة ثقافية انسانية , وانما هي وحدة اقتصادية ضد الآخر , وهذا الآخر قد يكون ابن العم ( أمريكا ) , فلأخ أولي من ابن العم , وهما معا ضد الغريب ( ضد البرابرة ) . وهنالك صراع خفي يدور حتي بين الاخوة وابناء العم . وهو صراع بين الفرانكفونية , والأنجلوفونية . حول الهيمنة الثقافية ونشرها في العالم كله . وأقرب مثال علي ذلك هو محاولة الاحلال بديلا عن اللغة الروسية والتي كانت اجبارية في اوروبا الشرقية , والغيت نهائيا من المناهج التعليمية . وهذه المنافسة والحرب الباردة الثقافية , الخفية والمشروعة دوليا , تريد التأكيد بأن كل ما هو جنوبهم , وكل من يتكلم غير لغتهم , يجب ان يكون تحت وصايتهم الفكرية والثقافية . ومن ثم يسهل الاصطياد . وبهذا يجب أن تدوم الثنائية الحضارية , وفكرة الآخر ( البربري ) . والي الأبد . وبهذا منطقيا فان وحدة العالم العربي يمكن ان تكون اقوي من الوحدة الاوربية انسانيا وثقافيا واقتصاديا . ( وحدة اللغة والثقافة والعقيدة ) . فرغم الوحدة الاقتصادية , حيث العملة والسوق الواحدة , وحرية التنقل والسفر , فان الحرب والمنافسة الثقافية ما تزال قوية , ولكنها خفية . فكل واحد منهم يعتبر نفسه متميزا عن الآخر . فرنسا بعطورها ونبيذها وأجبانها , وبترولها الأخضر ( الزراعة ) , وبريطانيا بلغتها المهيمنة علي العالم كله , واميركا بقوة اقتصادها وسلاحها , والمانيا بإنسانها البراغماتي القوي ذو الفكر الفلسفي المتجذر . فكل واحدة تعتبر نفسها متميزة عن الأخرى . ولا توجد أي دولة منهم تفرط بالمساس بثقافتها ولغتها . وقد اتفقوا جميعا , بأن الوحدة السياسية والاقتصادية , لا تعني محو الآخر ثقافيا . ويجب الاعتراف بالتعدد الثقافي الاوربي . وفي أغلب الدول الاوربية , وفي قوانينها الرسمية ما يمنع كتابة اسماء المحلات والشوارع والدعاية بغير اللغة الرسمية للدولة . وليس هذا انغلاقا أو تعصبا , وانما هو تثبيت للخصوصية والقومية في وجدان المواطن . لان اللغة الرسمية هي الهوية الثقافية لكل الامم الواعية والمتحضرة . في عصر العولمة الجديدة . ولا يخفي علي المرء بأن المحافظة علي الخصوصية اللغوية والثقافية لكل دولة أوربية , هو محاولة التصدي لهيمنة اللغة الانجليزية علي الثقافة والعلم في العالم كله . وهي تعني الهيمنة الاقتصادية دون شك . والذي يعيش في اوروبا يعرف تماما بأن الغريب فيها هو الذي لا يتحدث لغة البلد التي يزورها حتي ولو كانت بلده عضوا في الاتحاد الاوروبي . وبهذا تقول الكاتبة والناقدة الفرنسية المشهورة ( جوليا كرسيتيفا ) صاحبة نظرية ( التناص ) في النقد الادبي , وهي من أصل بلغاري , ( رغم أنني أتحدث وأكتب بالفرنسية , ولكنني أعتبرها قد قتلت أمي , وأمي هي لغتي البلغارية , وأنا أعتبر أن لغة الأم هي الام , وهي الذاكرة الأولي والأصيلة . وتقول هذه الناقدة المشهورة : - ( ان الكثيرين يعتبرون بأن مصطلح العولمة الجديد ما هو الا محاولة للسيطرة ثقافيا واقتصاديا علي العالم كله , بما فيه الانسان الأوربي الذي لا ينتمي لعالم الكبار لغة أو عرقا ( فرنسا ألمانيا وبريطانيا ) . وما سقوط برلين الا مؤامرة من الحكومات الخفية لإعادة اقتسام العالم من جديد . انني كلما أكتب بالفرنسية واتحدث بها , أحس بلغتي البلغارية جثة محنطة أمامي وهي تلعنني في كل يوم . ) .
وكثيرا من الكتاب الأوربيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة , كانت اوروبا بداخلهم , بريفها وثقافتها ومدنها العريقة غير المصنوعة . لم يؤثر فيهم المكان والهجرة , وقد اعتبر الكثيرون منهم بان الهيمنة الثقافية الخطرة الآن هي محاولة الإنجليزية لتكون لغة العولمة التي السيطرة ثقافيا علي العالم كله . وهذا ما اصاب اوروبا كلها بما يسمي بالاكتئاب السياسي والثقافي , لشعورها بالضآلة والقزمنة تجاه هذا المارد القوي . والمشكلة أنها لا تستطع محاربته أو منافسته , ولكنها تتجه نحو الأضعف من الأمم لتثبت بانها ما تزال قوية وموجودة .
يقال في الأسطورة أنه سادت في المدينة أخبار بان البرابرة قادمون لغزو المدينة , ومنذ الصباح الباكر لبس الحاكم أفضل ثيابه , ووضع نياشينه , وانطلق علي رأس وجهاء المدينة نحو الحدود بانتظار قدوم البرابرة لاستقبالهم والترحيب بهم , لكن حل المساء من دون أن يأتي البرابرة , حينها قال الحاكم بأسي : وأسفاه لم يأت البرابرة , فلقد كان بمجيئهم نوع من الحل .
أم الآن فلا ينتظرون مجيئهم وانما يغزوهم في عقر دارهم ليجدوا حلا مشكلاتهم .