فاطمة سالم صوتٌ روائيٌ من ليبيا أبو طالب محمد

فاطمة سالم صوتٌ روائيٌ من ليبيا  أبو طالب محمد

فاطمة سالم صوتٌ روائيٌ من ليبيا

أبو طالب محمد

  قدّمتْ الناقدة الروائية فاطمة سالم الحاجي إسهاماً مقدراً عن المشهد الروائي شمل عدداً من الأعمال النقدية، إضافةً إلى مشاركاتها في مؤتمرات عربية وأجنبية. قادها لإنجاز هذا الإنتاج الأدبي والنقدي؛ ثقلها الأكاديمي، وحضورها في الجامعات العربية، حيث إنها درست الفلسفة بطرابلس ونالت درجة الماجستير بالمغرب العربي والدكتوراه بكندا وبريطانيا.

 أنجزت الناقدة الروائية فاطمة سالم في مسار رحلتها الأدبية عدداً من الدراسات النقدية منها:(القراءة النقدية الجديدة) (مفهوم الزمن في الرواية الليبية)، (الخطاب الروائي)، كما نشرت العديد من القصص القصيرة والشعر في دوريات عربية.

  تمخض عن الثراء المعرفي لسيرتها وحضورها الأكاديمي؛ منجز روايتها (صراخ الطابق السفلي)، التي نحن بصدد تناول موضوعاتها، وهي صادرة عن دار النهضة العربية بـــ بيروت- لبنان في العام 2016م، وهي الرواية الأولى التي ثبتت أقدام صاحبتها في المشهد الروائي العربي؛ بحسبان إنها رواية متعدّدة الشكل والبنية، انفتحت على اتجاهات سياسية، واجتماعية، وتاريخية.

 بلغ عدد صفحات الرواية أربعمائة وستة عشرة صفحة، قُسمت إلى جزأين مترابطين متكافئين، اتبعت فيهما الكاتبة طريقة الترقيم (1، 2) وكل جزء مقسم إلى فصول، بلغت فصول الجزء الأول ثلاثة عشر فصلاً، والجزء الثاني خمسة عشر فصلاً.

  تأسست رواية (صراخ الطابق السفلي) في افتتاحيتها السردية على أسلوب بنية سردية عُرفت في مجال المسرح بالدائرة البريختية؛ وتعود تسميتها لمؤسسها الكاتب/ المخرج برتولد بريخت، التي كسّر فيها حاجز الجدار الرابع وتواصل في رسالته مع جمهوره.

 استخدمت فاطمة في صراخ الطابق السفلي التقنية الملحمية البريختية. وخاطبت ناشرها بحسبانه متلقٍ لقراءة الرواية وطالبته بطباعتها، ثم أفصحت عن شخصياتها وشخصية الراوية الأساس:(أنا سعاد صوت من أصوات هذه الرواية قبل أن أرحل أردت أن أسطر شهادتي على ما عايشته وأزيح الستار عن أسرار لم تكشف لإحدٍ من قبل أسرار تعود إلى فترة مجهولة من تاريخ ليبيا المتواري في ركن خفيّ من الوجود... الرواية ص5).

كشفت الكاتبة الشخصية الرئيسة وغيرها من الشخصيات (طاهر، عائشة، آدم، كريستينا، حازم ووالديها المجاهدين)، وبعض الشخصيات الأخرى من صميم المجتمع الليبي.

قدمت الكاتبة أصوات تراجيدية لقصص المشانق وحروب الصحراء بين البلدين تشاد وليبيا، كما أباحت عن قصص الرحيل والهجرة والإبادات الجماعية إبان الاحتلال الإيطالي على ليبيا. ختمت مقدّمتها قائلة:(شخصيات تلتقي على دروب مختلفة ترتبط بالعشق المحرم وتتقاطع في آيديولوجياتها تجمعهم دروب المكان واختلاف الوجهات ويبقى طلبي لك: إذا وافقت على النشر أرجو إعلامي وإذا لم توافق فأرجو الاحتفاظ بالنص في أدراجك وفي أدراج الذاكرة لعل أحدهم يعثر عليه ويقدّمه للضوء في زمن آخر... الرواية ص5).

  ساعدت تقنية أسلوب كسر الحواجز السردية على بناء شكلي متعدد في شخصياته وفي مضامينه. الكل في الرواية حكاء رغماً عن هيمنة طريقة الساردة (سعاد)، استثناءً اللحظات التي تتغيب فيها الساردة تتولد أصوات سردية تبوح بماضيها وحاضرها، وتقدّم صورة فنية حافلة بالمرارات والمآسي التراجيدية التي حدثت في تاريخ ليبيا ماضياً وحاضراً. ففي الفصل الأول ناقشت الكاتبة عبر خطاب راويتها أوضاع الثورة الليبية ضدّ نظام الحكم العسكري الاستبدادي في شكل مكوّنات ثورية تعلن عن أساليب مقاومة جماهيرية تعقد مخاطباتها السياسية في الساحات العامة، وتجهر بخطاب سياسي موجّه ضدّ الرجعية أعداء الثورة ونظام الحكم:(أيها الأخوة الأحرار إن الحركة الثورية لن تسكت عن أعدائها أعداء الثورة، أعلمكم أيها الإخوة إننا لن نتنازل عن سحق الأعداء، هل تدرون لِمَ نتجمع في هذا اليوم المشهود؟.. إننا نتجمع لتصفية الحسابات ولن نتساهل معهم أيها الإخوة الأحرار... الرواية ص 8) يكشف طريق هذه المقاومة الوجه الثوري للجان الثورة وصراخهم الداوي صوب سياسات الاستبداد، كما صوّرت الرواية بعد انتهاء المخاطبة الجماهيرية مشهد المشانق أمام الحشود، جاء الثوار يجرجرون شخصاً داوي الصراخ يتوسل طالباً الصفح:(أنا بريء أرجوكم أسمعوني أعطوني فرصة أرجوكم الرحمة... الرواية ص 9). ربما تشير الرواية هنا إلى اجتثاث رأس السلطة الحاكمة في أخريات أيامها، وهي مشهدية حاضرة في الأذهان، ووضعها في الرواية حرّكت مجريات الأحداث وكثّفت من أساليب المقاومة الثورية، وبعثت في الشخصيات الماثلة لحظة التنفيذ مصدر رعب وصراخ دائميين لازما الساردة في جميع أسفار الرواية.

  تنتقل الساردة رأسياً وأفقياً عبر الأزمنة والأمكنة مصوّرة أوضاع المجتمع الليبي في ثورته الداخلية وحروباته الخارجية التاريخية ومنازعاته المعاصرة مع تشاد، وتعدد الساردة محاسن الإسهام المقاوم لأسرتها، وهي سيرة تتحدث عن الدور البطولي الممثل في شخصية جدها المجاهد ضدّ الطليان ودور ما تبقى منهم في الانخراط الثوري الحديث. ثم تشير إلى إسهام والدها في تحفيظ القرآن وتعليم النشأة دروب العلم والولاء للوطن.

  تتواتر جميع هذه المسرودات في صيغ حكي ماضي للتاريخ السياسي الليبي وللحب والثورة والكبت والتطلع إلى مشارق الحرية. هيمن على الرواية احتفاء الجانب الإنساني المرتبط بتصوير مشاعر الحب بين الشخصيات؛ لأنه المنفذ الأساس المستنتج عن صراخ الطابق السفلي إلى عوالم الأقليات المجتمعية التي صنعت تحررها على مباديء الالتزام الأخلاقي لحب الوطن.

تعطي الساردة في كل إشارة سردية موضوعات متفرعة تصبّ في خدمة الآيديولوجيا السياسية والثقافية الناهضة، وتعلن عن مسارات الصراخ الرافض لخطط النظام السياسي المستبد، وهي صرخة تكشف عن أمرين مهمين: في الأمر الأول، حالات المعاناة والتعذيب والاعتقال والقهر والاغتصاب، وهي أفعال تواجهها الشخصيات بصورة مستمرة من قبل السلطة الأمنية المنفذة لسياسة الاستبداد، والأمر الثاني، يتمثل في الصراخ بمعناه المقاوم المعلن لحريته ضدّ المستبد. تفصل الساردة هذه الموضوعات بموضوعات أخرى تتبادل فيها الشخصيات رسائل الغرام، وأحاديث الثورة والتخطيط لها تأكيداً للجوانب الإنسانية، والاستمرار في فعل المقاومة؛ لأن الساردة هنا تنوّع في مسارات سردها بمختلف الموضوعات، وتتنوع أيضاً في طرق الحكي، وتسلط الأضواء على تعدُّد الرواة؛ مثلاً: عندما يأتي الوفد الأجنبي زائراً معالم ليبيا التاريخية وقاصداً التعرف على الملامح الآثارية والإلمام بثقافة الأجناس الثقافية والمعالم المكانية بمعمارها القديم والحديث؛ يختفي صوت الساردة، وينوب عنه صوت سارد آخر، وتصبح الساردة الأولى مقام مرافق للوفد الأجنبي، وتتكفل بالإشراف عليه وتقدّم له معلومات ثرة عن التراث الليبي في معماره، ثم تعود راجعة إلى مكانتها السردية، وتختفي الساردة الثانية، وتنفتح ذاكرة صوت الساردة الأولى إلى الماضي المعماري:(استذكرت الماضي القديم الذي بقي عالقاً في ذاكرتي: فقلت في العهد الفينيقي كانت طرابلس محطة تجارية وسوقاً لتصدير السلع من إفريقيا وإننا نملك مساجد وبيوت قديمة داخل الأسوار وعمارات قلت بتهكم أما الأمم التي جاءت إلى هنا كانوا قطاع طرق يسرقون ثروات البلاد ويستعملون بحرها موانئ ويمضون دون دفع إتاوة للمكان ولهذا لم يبق لنا إلا البحر والبحر لا يحتفظ ببصمات التاريخ لأن أمواجه تمسح كل أثر... الرواية ص79).

  وتواصل ساردة ومعرّفة بمعالم ليبيا التاريخية العامرة بالمباني الرومانية القديمة وأثرها الباقي، وخبرتهم عن سرقة الإيطاليين لأرواح أجدادها وتأسيسهم للمعتقلات، وعرّفتهم بالإرث التاريخي الديني المتمثل في مسجد (الناقة) وغيره من المعالم الحضارية الحاضنة عراقة الموروث التاريخي، أشارت أيضاً إلى العادات والتقاليد القديمة والجماعات العرقية وأنماط الغناء الشعبي.

استخدمت الكاتبة عبر الذاكرة التاريخية رسم صورة بائسة لمجتمعها واندثار معالمه التاريخية والثقافية؛ نسبةً لطمس الهُوّية وانفصال الحاضر عن ماضيه. تستصحب الساردة أثناء قيامها بتعدد الأماكن التاريخية دور المقاومة في الراهن الحاضر من أجل استرداد الحرية، وبناء مجتمعٍ ليبيٍ يرتبط بحضارة إرثه التاريخي.

  تحتفل الرواية إضافة إلى تعدُّد أماكنها ورواها بجنسيات أخرى تلعب دوراً مهماً في مجريات الأحداث السردية مثال على ذلك: شخصية الهندي (وليم) الذي تتوطد علاقته مع الساردة، وهو ارتباط يدلّ على عبور الرواية جغرافيات أخرى؛ لأن العلاقة اقترنت بالحب، وبتجمع التبرعات والإسهام في رعاية المشردين، وتأسيس معسكرات تنشط في التوعية لمكافحة داء الإيدز وسرطان الثدي. ومن جانب آخر، تبرز المشاعر الإنسانية المتبادلة بين الحبيبين العاشقين. وعلى غرار هذا تمدنا بمعلومات عن علاقة (عائشة وآدم) باعتبارهما شخصيتين لهما تاريخ نضالي في الثورة الليبية، وتاريخ آخر حافلٌ بالذكريات عن أيام الحرب والترصد والمطاردات الأمنية. تنفتح سياقات السرد الروائي على أفعال الاغتصاب بمعناه المُهين لكرامة الإنسان. ويصوّر هنا حادثة الفتاة (هيام) حينما تم خطفها من قبل أبناء أحد المسؤلين السياسيين؛ لأنها ناشطة سياسية. يعكس اغتصابها حالة من حالات الفوضى والعبثية والرعب الذي يبعثه أمن الدولة في نفوس الناشطين السياسيين. تضاعفت أساليب المقاومة وأخذت طرق أخرى لمناهضة الاستبداد في ساحات الجامعة والميادين العامة والاحتفالات الشعبية.

  لا تستقر الساردة، ولا تقيد سردها في نقاط محدّدة؛ إنما تتداخل حكاياتها بين الحاضر والماضي أفقياً ورأسياً. ففي سردها للماضي تسرد بصيغة الحاضر/ الغائب أيام الغزو الإيطالي على ليبيا، ودوي الانفجارات وهرع الجموع وتناثر الشظايا من كل اتجاه، وتنشط ذاكرتها في تصوير أدب المقاومة غنائياً وأهازيجياً. عندما تنبعث مع إصدار صوت المدافع المتكررة واهتزاز الأمكنة، وتختلط أصوات الغناء الحماسي المقاوم، بزغاريد النساء وصراخ الصغار والكبار والشيب والشباب؛ معلناً إشراق شمس الحرية على ليبيا. وتمضي في تكثيف طرق المقاومة، وحالات الرعب التي ظهرت على الجنود الإيطاليين الزاحفين على صفوف الجهاديين. ففي ظل هذا المسار تختفي شخصية الساردة وتتقدّم بدلاً عنها شخصية والدها، وهو في حالة استعداد ومخاطبة أمام الملأ يحثهم على الثبات والزود عن عرض الوطن، قائلاً:(عليكم بالثبات فالموت يهون أمام كرامة الوطن، أدعوكم يا أبنائي أن يكون وقوفكم اليوم خالصاً لله ولحب الوطن، إن العدو جاءنا غازياً ظالماً لم نذهب له فوجب رده ومقاومته، من أجل هذه الوقفة التي نعيش عليها، من أجل ديننا نحاربه، إنه اغتصب أرضنا في الساحل وها هو يزحف للجبل ونحمد الله أن أرضنا عالية فإذا جاء العدو من أسفل الجبل فسنرى تقدّم قواته وعندها نطلق عليه النار قبل أن يصل إلينا وإذا جاءنا من فوق فالله يحمينا وهو فوق الجميع... الرواية ص217). مخاطبة وتكنيك عسكري في آن واحد، نفذتا وسط حالات الجموع التي تسير في صفوف عازمة على مواجهة المجهول كما توصفها الراوية:(مجاميع تشد الرحال نحو المجهول تحمل أجساماً نحيلة جائعة وقلوباً موجوعة مصطلية بنار ظلم الإنسان لأخيه الإنسان لا ذنب لهؤلاء إلا أنهم كانوا هناك فوق رقعة اشتهاها الإنسان على ضفة البحر الأخرى فأحضر مدافعه ومجرميه وكل وسائل الدمار ليحرق الأرض... الرواية ص219).

  ترسل الكاتبة من خلال سردها للماضي على لسان أبطالها، رسالة موجّهة وواضحة البيان للسلطة الليبية الاستبدادية الحديثة الحاكمة، بمعنى أن درس الماضي يقول إننا لنا إرث من الحكمة والمقاومة لدحر الاستبداد منذ أيام الطليان، ولن تعجز همتنا. وفي درب النضال سائرين.

عملت رواية (صراخ الطابق السفلي) على استحضار أدوات الماضي لقراءة الحاضر؛ بحسبان أن الكاتبة كسرت حواجز الأمكنة، وعدّدت من أساليب القفز للماضي بطرق تقنية سردية متناوبة الحكي بين الشخصيات؛ لأن البناء الفني المقترن بالشخصيات لعب دورين أساسيين هما: صُنّاع التاريخ الحديث، وسرده من وجهات نظر عِدّة. وعلى أساس هذين الدورين؛ قدّمت الكاتبة شخصياتها من أجل أهداف وغايات أفصح الرواة عنها طيلة زمن المحكي السردي. أمر آخر جعل الرواية مفتوحة المشارع؛ وهو استغلالها الملحمي الأول وتعريفه بالمحتوى الشكلي والمضاميني. وضعت الكاتبة هنا القاريء أمام مسؤولية الاهتمام بشخوصها وعوالمهم وهمومهم؛ لأنهم جزءٌ من همومنا وأهدافنا وغايتنا التي ننشد.

استنتاجات ختامية:-

أولاً: تأسست بنية الرواية الفنية شكلاً ومضموناً، على تقنية أسلوب المسرح الملحمي؛ باعتباره تقنية مفتوحة الرسالة، يدل توظيف هذه التقنية في بناء الرواية على انفتاح السرد على موضوعات سياسية واجتماعية وتاريخية، ثم ساهمت تقنية التعريف بالشخصيات والانتقال من فترة زمنية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر دون حواجز تحد مسارات السرد.

ثانياً: اتسمت الرواية بتعدّد الرواة وهيمنة السرد التناوبي، فتباينت أساليب حكيهم؛ لذا انفتحت الرواية على أزمنة مفتوحة السياقات المعرفية والفنية.

ثالثاً: يسرت تقنية تعدّد الرواة على تجسيد حاضر ليبيا، وحاضر أقلياته وإسهامه في الثورة التي أطاحت بأكبر نظامي استبدادي في وطننا العربي، إضافة إلى منازعات الحدود بين التشاديين والليبيين.

رابعاً: صورت الكاتبة معالم الأمكنة الأثرية ودورها في حضور الجوانب التاريخية في بنية السرد، وهي معالم أعطت الرواية أبعاداً حضارية، ودعمت الخطاب السردي بالمزيد من المعارف الثقافية، وخدمته في سرعة التنقلات السردية بين الحاضر والماضي.