ذاكرة المشاوير الصبية

ذاكرة المشاوير الصبية الروصيرص.. سكنتها وسكنتني! إيماض مهدي بدوي الساعة الأمس، كنا سويًا نمارس بعض احتياجات ورطت حوارنا من في الهزيمة، رغم عزم العقل التنكر لسايلوجيا أنثى (الطاشر سنة)؛ كنا، كفارين

ذاكرة المشاوير الصبية

ذاكرة المشاوير الصبية
الروصيرص.. سكنتها وسكنتني!

إيماض مهدي بدوي

 

 


الساعة الأمس، كنا سويًا نمارس بعض احتياجات ورطت حوارنا من في الهزيمة، رغم عزم العقل التنكر لسايلوجيا أنثى (الطاشر سنة)؛ كنا، كفارين، هربا من قبضة عساكر الخدمة الإلزامية، نتصبب عرقًا وابتسامة تعلو ثغر لحظتنا ونحن خلف سور الجامعة الجنوبي، نتقاسم مذكرات رضا صباح قول، الطالب بكلية الهندسة، جامعة النيل الأزرق.. وهي الكلية التي وفرت أن نتقاسم خطط مغامراتنا وبعض النكات السخيفة والهمس الناعم لحظة تلامس أيدينا ونحن نتبادل المذكرات.
في الرابعة عصرًا من يوم الخميس، 25 ديسمبر، 2013، التقينا بعد غياب تكاثرت أيامه؛ فتجاوزت الشهر والنصف؛ أنا ورفيقي وصديقة لي في الصف، أحبها جدًا رغم ملاحظاتي وتعليقي الدائم على تضاريسها ورائحة فمها المزعجة؛ فاجأني الفتى بصندوق صغير، صمم بإحكام من كرتون بسكويت بركة! وعززت صديقتي المفاجأة بثمرة باباي نقش اسمي على قشرتها، وشكل كثير التعرج، لم أفهمه حتى الآن! عندها أدركت أنني أودع السنة السادسة عشر من عمري!
لم يكن لدينا متسع من الوقت لنقول كل شيء؛ فالشمس العالقة غرب السور توقظ فينا القلق الذي تحمله الأمهات لحظة المغيب والخوف من عبور خور (أنصار السنة) إذا حلّ الظلام.
قال الفتى: "في السودان شريط كاسيت للمغني بوب مارلي.. حاولي كتابة أغنية غانا.. أعلم جيدًا اعجابك بنيكروما.. واستمتعي بفض بقية الصندوق لوحدك"!
لم يذكر شيئًا عن مذكرات رضا صباح، ولم أستطع سؤاله؛ فرضا هو عم صديقتي الوحيد، ولم تكن تعلم العلاقة التي جمعتنا به.. أذكر أنها مارست حقوقها كاملة كعازل جيِّد! عدت إلى المنزل وفي النفس حاجات تتعاظم كلما افترقنا، ومع كل لقاء.. وككل الفتيات الفرحات بأنهن صرن موضع تكليف، صليت صلاة المغرب ودعوت ربي "أن أشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأحلل العقدة من لساني، وتولى أمري وأمر ذلك الفتى، ولا تفرق بيينا، وإن فرقت؛ فاللهم عافي صديقتي من رائحة فمها المزعجة.. آمين"!
حلّ الليل وأشعل بوب مارلي الغرفة بألحانه الثائرة، وفي محاولة لتسجيل تفاصيل اليوم، كانت الأسئلة تتقافز، سؤال يتلو السؤال! هل رضا على حق في كل ما أسلف؟ هل ما عبأ به نفوسنا بذور نضال؟ وهل ما أنبته سيأتي أكله؟
رضا الآن طالب، وليس لديه أي إلتزامات أسرية تلهه عن سب الراهن، ولا يوجد ما يمنعه من وضع خطة للحاق بمالك عقار! أو حتى خروجه وحيدًا. أيضًا، ليس لديه ما يلهه كما لهى السر بمطالب تهاني وآلام ظهرها التي لا تنتهي! وماذا بعد، هل سيبقى نضاله الهزيل بألف تهاني، أم أن حنان، زميلته، ستنجح في كبحه وتروضيه؟ اللهم إني لا أملك غير السؤال، فأعني على الجواب، حتى لا ينفرط عقد أفكاري في بلادة ما بعد الصلح التي قد تغرق البلاد في الهاوية! فهل سيتطور إعجابي برضا، إلى مستوى يقارب إعجابي بنيكروما، أم سيلهيني فتاي؟  اللهم إني أخشى يومًا تتقلب فيه القلوب.. ما فعلته بي الأسئلة، في تلك الليلة، كان أشبه بتعمد الإرهاق، ولم ينقذني منها إلا إنقطاع حبر قلمي الـ (bic)، وأنا أسجل تفاصيل لم أعِ سر احتفاظي بها!.
إن من نعم الله التي تستوجب الشكر عليها هي أسرتي الصغيرة.. أنا الآن طالبة بالمرحلة الثانوية، أتمتع بمحبة الأهل والأصدقاء وجمال المدينة: الروصيرص! هذه المدينة تسكنني منذ العام، 1996، أي قبل المجئ إليها. هي طفولتي الأولى وتمرد صباي وتفتق شبابي. عندما انتقل أبي للعمل من الجزيرة أبا إلى الروصيرص وفق جدول نقليات المعلمين، كنت وقتها أحاول تعلم القراءة والكتابة، مجتهدة كتلميذة صف ثانٍ بمرحلة الأساس.. بكل محبة، استقبلتنا المدينة!
الروصيرص، 1997، الحي الجنوبي، منزل بهي جدًا! عبارة عن جملون ضخم، مقسم بصورة أنيقة للغاية، يطل على مبنى مهجور، تحول في ما بعد إلى كلية لدراسة الهندسة، تخرّج فيها المهندس، رضا صباح ورفاقه.
المنزلان المجاوران أيضًا يأخذان التصميم نفسه.. أحدهم يسكنه الأستاذ عباس التجاني، والآخر سكن للمعلمين. إلا أن ما يميز منزلنا هو شجرة السنط الطويلة المنتجة للقرض، وكنت عندها أظن أن شجرة السنط هي التي تميز منزل المدير من بين بيوت موظفي الحكومة. أما بيوت الأهالي فهي لوحة من القش والصرفان، تلفها الأشجار من كل اتجاه.
محمد خميس وأولاده.. منزل صغير يزينه شجر الباباي وتبلدية عجوزة وزهور (ونكا) وبعض شجيرات الكول واللعوت. كنت معجبة بابنه الصغير أحمد الذي علمني كيف أصنع شبكة لصيد الطيور.
نفيسة قسم الله، أم كنعان، والسرة، أم حمدون، تيسير وست البنات، أجمل فتيات رأيتهن في المدينة، من بعد صبيات حي البتابة.. كنّ نموذج للمرأة متعددة المواهب، القادرة على تحمل مشاق الحياة.
أما نساء حي البرون، فلهن حكاية طويلة؛ فما أروعهن في الوحل ومغامرة عبور الطريق الطويل للحصول على الماء نقلًا على الصنبور، بباقات أسطوانية لا يقل طولها عن المتر، وبالعربوس الذي تعلمت عصاه على الصمود في وجه الأوزان الثقيلة.. لكل شبر مشيته في هذه البلدة، ما يدعوني للعودة مرة أخرى؛ فاليوم، السبت 26 فبراير، 2005، أحتفل مع قلمي الـ (bic) بالعودة إلى الروصيرص من داخل قطية، بينها وأجمل الشوارع صريف، من داخل منزل الأستاذ عبد الساوي، والأستاذ عبد الرحمن المكاشفي. كم هي عظيمة تلك اللحظة التي جمعتني بالحاجة بقارة وابنتها سوسن وذلك الصغير الذي يحفظ جميع أغنيات الفنان عثمان حسين، ويعرف قصص أغنيات أحمد المصطفى، كما لو أنه مجايل لهما؛ أنه خالد المكاشفي، فتى يجيد الإحترام والمودة.
أوراقي الآن تنتظر ذاكرتي وكيدها، لكن من أين ابدأ! من أسرة العم محمد الرضي؟ لا؛ فالذي بيننا من الحكايات يحتاج لمصنع أقلام (bic)! إذن من مركز شباب الروصيرص! لا، فللعبور أمام مدرسة هانم رزق حكاية بدأت مع وصولنا للمدينة لأول مرة، وأنا ما زلت تلميذة بالصف الثاني.