ذاكرة القصة السودانية عن مجتمع ما قبل الاستقلال

ذاكرة القصة السودانية عن مجتمع ما قبل الاستقلال مجموعة الزبير علي ( المقاعد الأمامية ) نموذجا عز الدين ميرغني صدرت مجموعتي القاص الراحل الزبير علي ( المقاعد الأمامية والشتاء) في كتاب واحد . عام 1999م عن دار البلد . وهما متباعدان في زمن الكتابة .ما بين الخمسينات والستينات

ذاكرة القصة السودانية عن مجتمع ما قبل الاستقلال

ذاكرة القصة السودانية عن مجتمع ما قبل الاستقلال
مجموعة الزبير علي ( المقاعد الأمامية ) نموذجا
عز الدين ميرغني

 

 


صدرت مجموعتي القاص الراحل الزبير علي ( المقاعد الأمامية والشتاء) في كتاب واحد . عام 1999م عن دار البلد . وهما متباعدان في زمن الكتابة .ما بين الخمسينات والستينات . ولكن ذاكرة الكاتب ووعيه الاجتماعي فيهما كان واحداً ومتقارباً . فقد كتب نصوصه بتقنية مدرسة الواقعية الاجتماعية السائدة في زمنه . وقد كتبها بحساسية خاصة في التعامل مع الواقع الاجتماعي , واستبطان أعماقه , وإعادة اكتشاف جزئياته , واستشراف توتراته , خاصة في زمن الكولونيالية , وما بعدها بقليل .ولقد أثبت وجوده في المشهد الثقافي السوداني .و استفاد ( الزبير علي ) من ثقافته , بإقصاء مبدأ المحاكاة , والتقرب من ظواهر وتحولات ومتأزمات الواقع السوداني في زمن الاستعمار وإفرازات ما بعد خروجه . لقد سعت نصوصه بأن تخلق عالماً موازياً للواقع , بعيداً عن النمذجة المصنوعة , والاستنساخ , والفوتوغرافية المحنطة , التي وقع ويقع فيها حتى الآن بعض كتاب القصة القصيرة في بلادنا والعالم العربي .
لقد كان الزبير علي واعياً بحركة المجتمع , الذي عايشه , وكتبه بدرجة وعي كتابي كبير بدور القصة والتي تجاوز بها عقدة المحاكاة بمعناها الأرسطي , ألتطهيري , ولكنه مال إلي استكشاف الواقع عبر عملية التمثل الواعي اللا تقليدي له . وذلك بالدخول في فجواته , وليس الوقوف متفرجاً على سطحه فقط . وقد نجح كثيراً في نصوصه , في استنطاق كينونة الواقع الاجتماعي في خمسينات وستينات القرن الماضي . بحيث كان خطابه جماليا إبداعيا , بعيداً عن الواقعية التسجيلية والتوثيقية . وقد كتب بقدرته المعرفية علي التأثير في سيرورة ما هو واقعي . لقد كانت المدينة في قصصه هي مدينة ما قبل الاستقلال , والتي تعاني من مخاض التأصيل والتكوين . فشخصياتها مكافحة ومناضلة في سبيل العيش الكريم , في زمن الكولونيالية . فأغلب شخصياته تشتغل عمالاً وجناينية في بيوت الإنجليز . كما في قصة ( المكافأة ) , وقصة ( الرباط ) . وقد جسّد المعاناة وصورها تصويراً دقيقاً , من أصحاب السلطة والمال والجاه . فأبطاله لا يبحثون عن هوية , أو تأكيد انتماء , وإنماء يبحثون عن مكانهم الحقيقي في وطن يتيح لهم العيش الكريم . وبهذا تمتاز مجموعته القصصية ( المقاعد الأمامية ) , بوحدة التجانس , والوحدة الموضوعية . إن شخصياته تمثل الإنسان البسيط , والذي همه لغيره وليس لنفسه , ونموذجه العامل البسيط الذي يقاوم الشيخوخة والمرض في عمله لكي يكمل ابنه مرحلة التعليم الابتدائي وهو قمة الطموح في ذلك الوقت , وفيها المريض الذي يبحث عن الدواء وبائعة الخبز التي تربي أيتامها , والأسرة التي تعيش علي بطاقة التموين ,  يقول في قصة ( المكافأة )  , وهي قصة في قمة إنسانيتها: { واستعطف الملاحظ , واستحلفه أن يترك له فرصة سنة واحدة في العمل يكمل فيها تعليم ابنه } . لقد ابتعد الزبير علي في قصصه عن الذاتية المفرطة , والتفت لمعاناة الآخرين ,وبهذا يكون قد استخدم القاص ( الزبير علي ) , فن الكشف وفن الملاحظة لما يدور حوله في المجتمع .  ومن أجمل قصص المجموعة هي قصة ( المقاعد الأمامية ) , والتي تكشف عن عقلية الأفندية لما بعد الكولونيالية , والتي عملت متأثرة بثقافة المستعمر في التقسيم الطبقي للمجتمع السوداني في دور الترفيه . ( صالة السينما ) , لقد جعل نصوصه متصلة بالواقع , وصاغها بتنوع أسلوبي , يزاوج بين الفصحى والعامية في سلاسة ووضوح , وقد كان توظيفه للعامية الحوارية , استنطاقاً للواقع اليومي لشخصياته , والذي كان تصويراً حقيقياً لواقعها النفسي الحقيقي , فجاءت النصوص صادقة في مزجها بين المشهد الواقعي والمشاعر الإنسانية الفياضة .
  لقد مزجت نصوصه بين الصدق الفني , والصدق الواقعي , وقد استفاد من معرفته بلغة المستعمر , في الإمساك الجيد بفن القصة القصيرة , وقد كان له مع الأستاذ الراحل خوجلي شكر الله , في ريادة ما يطلق عليه الناقد المصري حامد أبو أحمد , بالواقعية الشعبية , والتي انتشرت بعدهم في كتابات جيل الثمانينات , بالالتفات لقضايا المهمشين والمظلومين , وقد كان حس الزبير علي استباقياً , وهو يكتب النص الذي لا يكتفي بالتعبير عن الواقع , بل يوازيه ويناظره ويختزله ويستشرف همومه . وذلك بالعمل علي الاقتراب منه والتعامل المباشر معه . لقد استطاع في مجموعته هذه , أن يسترجع للمتلقي الحديث , والذي لم يواكب عصر الاستقلال , ذلك الزمان الذي كان المواطن السوداني يصنف طبقياً في الكثير من مناحي الحياة المختلفة . ومن نافلة القول , أن سعة الفضاء السردي في هذه المجموعة , وتعدد أدواته الفنية , ومواكبتها لفن وشروط القصة القصيرة , من بداية , ووسط , ولحظة تنوير كبرى , وتنوع الشخصيات , ودورها الاجتماعي المختلف , ويتضح ذلك في مستوى اللغة والحوار الدائر بين الشخصيات , في أن يجعل أفق انتظار القارئ , في حالة تماس , مع أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية , ما قبل استقلال السودان , وما بعده . ولذا كان القاص في هذه المجموعة يؤرخ عن طريق القص والسرد , الحياة الاجتماعية السودانية في هذين الزمنين , المتقاربين .
كانت لغة المجموعة , لغة سردية , متخصصة , بحيث كانت الجملة عنده موظفة ’ لخدمة المعنى الكلي , وليس خدمة السمة الأسلوبية الخاصة للكاتب , فجاءت بعيدة عن الإفراط الزائد في الوصف , أو في التوسع في الحكاية . فتحاشى بذلك الأسلوب السردي التقريري , أو الخبري , وهو يستدعي جزءاً من التاريخ السوداني الحديث . ولأن القاص , في هذه المجموعة , كان يمتلك ذاكرة الزمان , وذاكرة المكان ( الذاكرة الزمكانية) فقد كان ملماً بالوعي الاجتماعي لكل شخصية كتب عنها ( الأب الذي يريد أن يعمل سنة ما بعد المعاش , ليواصل ابنه التعليم ) , كان يدرك مدى أهمية التعليم في ذلك الزمن , وبائعة الخبز التي تربي أيتامها , ( لكي يواصلوا تعليمهم ) , تدرك هي أيضاً , أهمية التعليم , فكأنما أراد القاص الزبير على , أن يكشف وعي المجتمع السوداني المبكر , بالأهمية التعليم خاصة ما بعد الاستعمار , وكأنما أراد أن يقول بأن هذا الوعي المبكر للشعب السوداني , هو الذي قاد لاستقلال السودان .
اتبع القاص الراحل الزبير على , منهج القص الكلاسيكي , كما عند كتاب القصة من مجايليه ومعاصريه , ولكن مجموعته , تظل واحدة من المجموعات القصصية الرائدة والمميزة في تاريخ القصة السودانية , من حيث الشكل الفني , الملتزم بمعايير القصة قديماً وحديثاً , ومن خلال المضمون , والذي واكب الواقع الاجتماعي السوداني في ما قبل وما بعد الاستقلال , والذي يدخل مجموعته بجدارة في المدرسة الواقعية الاجتماعية .