أنطون تشيخوف _ قراءة في كتابه رسائل إلي العائلة. *محمد العكام..

أنطون تشيخوف _ قراءة في كتابه رسائل إلي العائلة. *محمد العكام..

أنطون تشيخوف _ قراءة في كتابه رسائل إلي العائلة.

*محمد العكام..

            يعتبر كتاب "رسائل إلي العائلة" للأديب الروسي "أنطون تشيخوف" الصادر عن وزارة الثقافة والفنون والتراث بدولة قطر، وهي إصدارات توزع مجاناً مع مجلة الدوحة، وكان من نصيب العدد 85 في نوفمبر 2014م هذا الكتاب. ترجمه إلي العربية الأستاذ ياسر شعبان، من أهم الكتب التي عكست  للقارئ العربي حياة هذا المبدع الروسي من خلال رسائله إلي العائلة وعلاقته بها، ويظهر من منهج التوافق الأسري الذي كان "تشيخوف" يشتغل عليه، إمتدت إلي شخصيات حولهم كان لها الأثر في محيط الأسرة.

            وأنطون بافلوفيتش تشيخوف (29/يناير 1860_ 15/يوليو 1904م) طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصص روسي كبير وهو من أفضل الكتاب الروس، ورائد القصة القصيرة بمعناها الحديث عن جدارة وإستحقاق، ومن كبار الأدباء الروس كتب مئات القصص القصيرة.

كان يقول "إن الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي".

            كرَس "تشيخوف" في كتابه هذا نموذج للعائلة من توافق للفرد يختلف من موقف لآخر، حيث توجد عوائق وعقبات تقف أمام الإنسان في تحقيق أهدافه. فبث فيه أفكاره وتأملاته حول صفات المثقف، والرحلات البحرية التي قام بها إلي سيبيريا وأوروبا الشرقية، وغيرها من كثير الأماكن، حيث تتكشف للقارئ الجوانب المعتمة من حياة الكاتب الذي هجرته زوجته فترة مرضه، عندما ساءت حالته الصحية في ربيع عام 1904، مما جعل الأطباء الروس ينصحونه بالسفر إلي خارج روسيا، فسافر إلي بادن فيلر، وهو منتجع جبلي في جنوب ألمانيا، والمعروف أن في العام 1897م أصيب "تشيخوف" بداء السل، الذي حتم عليه أن يقوم بتغيير نمط حياته لتتحسن حالته الصحية، وإنتقل إلي يالطا حينها وأشتري منزلاً، وتزوج من أولجا نيبر وهي ممثلة مسرحية قامت بأداء البطولة النسائية في معظم مسرحياته، وكان يري فيها مؤشرات التعاطف بين الزوجين، رغم أن المشكلات في مراحل حياتهما تتطلب نوعاً من التوافق النفسي ليستعينا به علي مواجهة الظروف الإقتصادية والاجتماعية في الأسرة، وذلك الحنين الذي تفرضه العشرة الزوجية التي يشعر بها كل منهما في غيبة الآخر، لكن عندما وصل "تشيخوف" إلي المنتجع بصحبة زوجته أدرك أنه يحتضر، تركته زوجه الحبيبة أولجا فجأةً في المنتجع، فزف الخبر بفرح _لا أدري لماذا_ إلي أخته ماريا، المعلمة والفنانة التشكيلية، التي يعود إليها الفضل في جمع أعماله في رسالة إبتدرها: "لقد سافرت أولجا إلي سويسرا لتعالج أسنانها" فبدأ الأمر كما يقول مترجم الكتاب ياسر شعبان لو أن أولجا فعلت ذلك لتؤكد مرةً أخري علي الشبه بين موت تشيخوف وموت إيفان إيليتش، بطل رواية تولستوي القصيرة التي عدها بعض النقاد المصدر الرئيس لقصة تشيخوف "حكاية مملة". حيث كانت زوجة إيفان إيليتش منشغلة عن احتضار زوجها بحياتها الاجتماعية الزاخرة بالاستقبالات المرحة والناس الجذابين تاركةً إياه في سرير نظيف، وحائط أصم، وخادم رائع. الكتاب بفصوله السبعة، يتضمن ثلاثاً وثلاثين رسالة، مكتوبة في فترات متباعدة ومن أماكن مختلفة، إضافة إلي رسالتين كتبتهما زوجته بعد وفاته، يبدأ برسالتين إلي الأم يفجينيا والتي كان لها دور مؤثر في تنشئته وورث عنها الحساسية والطبع اللين. وفيهما، كما في معظم رسائله، يركز "تشيخوف" علي أدق التفاصيل العابرة. فنجده يكتب بروية وهدوء شديدين عن المأكل والمشرب ونظافة الأماكن حيثما حل، وكذلك حديثه عن الأشخاص ممن يلتقي بهم أثناء أسفاره أو حتي من يصادفهم في الطريق، وبأسلوب سردي شيق لا يخلو من سخريته المعهودة. ومن النادر أن تكون حياة الأسرة والزواج كاملة (Perfect) كما في حالة "تشيخوف" وزوجه "أولجا" طوال حياتهما لأن كثيراً من الأحداث التي تتعرض لها الأسرة تؤدي إلي حدوث أزمات، حيث أن الأسرة التي تقابلها المشكلات غالباً، تلك التي ليس لها الإمكانات الملائمة بمواجهة الأحداث. كان طبع "تشيخوف" ليناً ورقيقاً إلي درجة الإدهاش، وقد تشكلت هذه الطباع علي الرغم من أسلوب التعنيف الذي تلقاه في التربية من طفولته، وكان والده صاحب البقالة مستبداً، وغالباً ما كان يلجأ إلي العقوبات الجسدية ولو علي كسرة خبز أعطيت لكلب. كان تشيخوف وإخوته يأكلون حتي الشبع فقط عندما يحلون ضيوفاً. تربي الأطفال علي هذه القسوة والانصياع، مما جعل الدارسين إلي حالة "تشيخوف" النفسية والإجتماعية السؤال من أين أتت هذه النفس الطيبة اللينة، وهو الذي يكتب قصصاً لا مكان للبؤس والكآبة فيها. وأكثر ما تكشفه رسائله إلي العائلة عن جوانب شخصيته. حب العائلة والتماسك بين أفرادها وتعلقه بحب أمه. وهذا يدل علي إهتمام "تشيخوف" بث خطاب التلاحم الأسري من خلال هذه الرسائل وترسيخ مبادئ التواصل الفعال بين أفراد الأسرة وتسليط الضوء علي أهمية القيم الأسرية قبل عشرات السنين من كتابة هذه الرسائل وإرساء روابط الألفة والمحبة بين الآباء والأبناء ومحيط العائلة. تقول هيفاء إحدى المعلقات علي مدونة (Goodreads). "ماذا لو كان الكاتب أنطون تشيخوف من هذا الجيل؟ عصر الأنترنت والسرعة وتويتر الذي يطالبنا أن نكتب التغريدة في حدود 140 حرف، وبرامج التواصل الاجتماعي التي تريد منا نتحدث في 15 ثانية! هل كنت سأقرأ هذا الجانب الجميل من شخصه وهو يكتب الرسائل بكل عفوية لأفراد عائلته؟ ليس سراً بأنني أعشق الرسائل منذ الصغر، وما زلت أشعر بحميميتها إلي اليوم مع كل التكنولوجيا التي تحيط بنا. كما أنه بطبيعة الحال حل البريد الالكتروني محل صندوق البريد والرسائل الورقية، وأنظر إليه بكل التقدير، ولا يكاد يمر اليوم من دون الاطلاع عليه أكثر من مرة! أشعر بأن أعظم الأخبار وأجملها تصل إلي بالبريد، وذلك الشهور الجميل من الاستغراق في قراءة الرسالة شوقاً لمعرفة محتواها ومن ثم الرد عليها بمثلها أو أحسن منها والختام بالتحايا والسلام"... وهذا ما كان يجذب القارئ في اختيار "تشيخوف" لأعماله الأدبية، لأن إسلوب "تشيخوف" يتسم بالايجاز والتكثيف والرشاقة، ويعد من أجمل أساليب الكتابة في اللغة الروسية. وقد تخلي الكاتب في مرحلة النضج عن اللجوء إلي التوتر الخارجي والإثارة الحادة في الحدث، وصار يعتمد دينامية الحبكة الداخلية التي توحي للقارئ بأن ثمة نصاً آخر يختفي خلف النص المكتوب، وعليه هو أن ينفذ إليه ويقرأ ما بين السطور كما في رسائله إلي العائلة. لأن تعريف دينامية الجماعة _ كما في عائلة  تشيخوف_ أعتبرها دراسة لعائلته يركز فيها علي تطوير المفاهيم حول طبيعة الجماعة، والقوانين التي تتحكم في تطورها وعلاقاتها المترابطة مع الأفراد ومع الجماعات الأخرى والمسلمات التي تتعلق بها. وهذا يظهر جلياً في كتابه. ويقول مكسيم غوركي: " إن لغة وأسلوب تشيخوف قمة من المستحيل الوصول إليها، وإذا تكلم المرء عن تأريخ اللغة الروسية لا بد له أن يقول إن فضل خلق هذه اللغة يرجع إلي بوشكين وتورجينيف وتشيخوف".

            وفي إحدى رسائله رسالة إلي سوفرين كتبها في العام 1889م يقول بها:" إنني أكتب هذه الرواية علي شكل قصص منتهية منفردة وشديدة الصلة  فيما بينها عبر من مجموعة من المغامرات والأفكار والشخصيات، ولكل قصة عنوانها الخاص". يقول هنا مترجم الكتاب ياسر شعبان: لكنه مع ذلك لم ينجز الرواية، بل سجل موقفاً مثيراً، سيظهر بعدئذٍ في كتابه "تشيخوف في مذكرات معاصريه"، إذ قال "لم يتيقن كتابة الرواية إلا النبلاء"، الشرط الذي لا يستوفيه هو ذاته، فقد كان جده لأبيه قنَاً، افتدى نفسه وأولاده عام 1844م، أي بولادة تشيخوف بست عشرة سنة.

            كتب تشيخوف بقلم هفاف وأسلوب سلس رقيق عذب معظم رسائله وهو في الطريق إلي سخالين بسيبيريا، والتي إحتلت الجزء الأكبر من رسائله، وهو يخوض فيضان الأنهار والأوحال ومن مروا عليه في طريقه، يحكي بقالب جمالي عن المكان وكل شئ مر عليه من خلال رحلاته إلي سخالين، بريشة فنان أكثر من كاتب. وبذلك الأدب وضع "تشيخوف" لنفسه مرتبة في الأدب العالمي من خلال جمال المكان وهو مجموعة أفكار ترجمها في كتاباته ظلت خالدة بيننا إلي هذا اليوم.

 

 

كسلا _ السودان

25/ نوفمبر 2020م