تجليات عبقرية السرد عند الطيب صالح في رواية منسي نموذجا أ.د. عبد الغفار الحسن محمد/ أستاذ الأدب والنقد بجامعة وادي النيل بالسودان

تجليات عبقرية السرد عند الطيب صالح في رواية منسي نموذجا أ.د. عبد الغفار الحسن محمد/ أستاذ الأدب والنقد بجامعة وادي النيل بالسودان

تجليات عبقرية السرد عند الطيب صالح في رواية منسي نموذجا

أ.د. عبد الغفار الحسن محمد/ أستاذ الأدب والنقد بجامعة وادي النيل بالسودان

          

              ألا رحم الله عبقري الرواية العربية الطيب صالح رحمة واسعة، بقدر حبه للناس وجماله وسماحة روحه، التي استطاع أن يرسم ملامحها بوضوح من خلال سرده الذي تميز عن أغلب السرود العربية والعالمية -كما يرى كثير من النقاد- حتى أطلقوا عليه لقب عبقري الرواية العربية. ولعل سر هذه العبقرية يتجلى في اقتداره من خلال السرد على التعبير عن مكنونات نفسه وموقفه من الإنسان والحياة والكون والجمال...

           وإن كان كثير من النقاد قد عبروا عن تجليات عبقريته في أعماله الروائية والقصية، والتي يمكن أن تجمل في جمعه بين الأصالة والمعاصرة، وثقافته الواسعة بالحياة والناس والشعوب والتاريخ والأساطير ...إلخ إضافة إلى قدرته المتميزة في الوصف ورسم الشخصيات، ثم إطلاق العبارات والجمل التي تظل خالدة لما تعبر عنه من حكمة ...كل ذلك وأكثر قد التمسه النقاد والقراء في رواية موسم الهجرة إلى الشمال وغيرها من أعماله؟

           ولعلي لا أزيد على ما قيل إلا بعض تفاصيل عن تجليات عبقرية السرد في رواية "منسي رجل نادر على طريقته" هذه الرواية التي استطاع من خلالها تخليد ذكرى صديقه أحمد منسي الذي وصفه في مقدمتها وصفا يشدك إليها شدا، ويثير اهتمامك بشكل مذهل حين يقول:" في مثل هذا الوقت من العام الماضي توفي رجل لم يكن مهما بموازين الدنيا، ولكنه كان مهما في عرف ناس قليلين، مثلي، قبلوه على عواهنه وأحبوه على علاته رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثبا، وشغل مساحة أكبر مما هو متاحا له، وأحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه ضوضاء عظيمة. حمل عدة أسماء أحمد منسي يوسف، ومنسي يوسف بسطاوروس، ومايكل جوزيف، ومثل على مسرح الحياة عدة أدوار: حمالا وممرضا، ومدرسا، وممثلا، ومترجما، وكاتبا، وأستاذا جامعيا، ورجل أعمال، ومهرجا. (الرواية ص9)

              ويرسم ملامح شكله الخارجي بقوله. "لو أن قامة منسي كانت أقصر ببوصة واحدة أو بوصتين لأصبح قزما، ومع تقدم السن ترهل جسمه وصار له كرش كبير ومؤخرة بارزة، فكأنك تنظر إلى كرة شقت نصفين نصف أعلى ونصف أسفل... (الرواية ص16)

             هذه الرواية التي تصنف ضمن الرواية السيرية،  أو ما يطلق عليه اسم (السير رواية )والتي عمد من خلالها لتخليد سيرة صديقه أحمد منسي، ولكنها لم تقف عند هذه الغاية فحسب، بل تجاوزتها لتكون سفرا مميزا عن حياة الكاتب الشخصية أيضا، في كثير من أطوارها ،كما سجل كثيرا من الأسماء والأماكن التي كانت لها حضورا في حياته وأسفاره وعمله، والتي ارتبطت أحيانا بصديقه منسي، فأعطانا من خلال سرده السهل الممتنع مجموعة كبيرة من أسماء النخبة العربية في مجالات الفكر والسياسة والإبداع ،وقد تجلت عبقريته في ألا يربط أيا من هذه الشخصيات إلا بموقف أو مواقف إيجابية أو إنسانية نبيلة .ولم يجرح أو يخدش أية شخصية تم ذكرها أو التعرض إليها في هذه الرواية السيرية . وهذا واحد من أهم أسرار عبقرية الطيب صالح الذي وظف قلمه للخير والحق والجمال والحب ،وابتعد في الوقت نفسه عن أحادية الفكر والمواقف المنحازة والتي تجرم الآخر ،أو تنظر إليه من الزاوية المعتمة. فعبقرية الطيب صالح في كونه يكشف دوما من خلال سرده عن موقف جميل ومشرف لشخصياته، ولا يتعرض للحظات سقوطها أو ضعفها بالذكر أو الإشارة. وهذا من وجهة نظري انتقاء جميل لما يتلاءم ورسالته كأديب ينشد الحب والسلام والجمال والتسامح في هذا العالم الضخم، الذي تصطرع فيه البشرية اصطراعا متطاولا من أجل الثروة والسلطة وباسم الأديان أحيانا، وقد استطاع أن يشير إلى ذلك من خلال صراع اليهود مع الأوربيين ،ثم صراعهم مع العرب ويستحضر كل هذا الصراع المثخن بالجراح والآلام والدموع، من خلال توثيقه لتلك المحاضرة التي حضرها برفقة صديقه منسي بجامعة أكسفورد للمفكر والمؤرخ الإنجليزي توينبي، الذي قدم محاضرة عن الصراع العربي الإسرائيلي. استطاع أن يجمع فيها لأول مرة العرب مع اليهود في قاعة واحدة. ويعبر فيها عن أن اليهود الآن يوجهون آلتهم الحربية على العرب فقط، رغم أن التاريخ يقول إن ما تعرض له اليهود في أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص أسوأ مما تعرض له اليهود من العرب، بل لم يفعل العرب شيئا يذكر فيه اضطهاد لليهود على مر التاريخ ...وكأنه بهذا الفهم يريد أن يقدم رؤية مختلفة عما ظلت تقدمه الأجهزة الرسمية والإعلامية والمخابراتية في أوربا عن القضية الفلسطينية وطبيعة هذا الصراع.

            وعبقرية صالح تجلت في اختيار هذا الموقف بالذات الذي يدعو بطريقة إشارية وفنية الإنسانية جمعاء إلى التوقف عن الصدام واستدعاء التاريخ لاختيار موقف يكون فيه التفاهم بديلا للحروب، ومحاولة فهم أن كل ما يروج له ليس صحيحا، مثل ما يقال عن القضية الفلسطينية، التي ظل الطرف العربي فيها مظلوما. فالطيب لا يعبر عن هذا الموقف بالصراخ ولا بالدعوة للقتال وإنما عبر وسيلة سلمية تقوم على استدعاء الآخر ومحاورته ليفكر في كونه يحارب في المكان الخطأ والأشخاص الخطأ.

           كما نستطيع أن نقول أيضا إن روح التسامح والتعايش السلمي والإيجابية كانت مادة لكثير من محتوى هذه الرواية، مع وضوح موقفه الإيجابي من كل قضايا أمته العربية والإسلامية في فلسطين ولبنان والسودان. فلم يتلون بألوان الفكر الأوربي الاستعماري، ولم يقف موقف غير أصيل من ثقافته العربية والإسلامية، أو السودانية.

     فعندما يشير-مثلا- إلى حرب لبنان التي انطلقت شرارتها ذات ليلة كان فيها هو وصديقه منسي في رحاب بيروت، يستدعي الموقف التاريخي من الحرب لشاعر السلام زهير بن أبي سلمي:

                          وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم         وما هو عنها بالحديث بالرجم

فيكثف الرؤية حول موقفه الثابت من الحرب وأنها لا تقدم حلولا، بل تولد كثيرا من المشكلات الجديدة والدمار والتناحر.

               كذلك لم ينس في هذه الرواية الدعوة بطريقة فنية إلى وحدة العرب وضرورة تناسي خلافاتهم وصراعاتهم التي أقعدتهم كثيرا، ويرسم صورة ناقدة لحال الجاليات العربية المنقسمة والمتصارعة في بلاد المهجر (في أستراليا) فضلا عما هو موجود في واقعنا داخل أسوار الوطن العربي من صراعات وخصومات لا تنتهي، وتكرر مشهد حرب داحس والغبراء بكل تفاهته وبؤسه .

            ومن الصور التي رسمها للصراع حول السلطة أخذ الحالة السودانية نموذجا، فوصف الحالة السودانية التي دوما، ومع كل تغيير سياسي، تكون هنالك مجموعة من النخبة تحكم، بينما توجد نخبة مثلها في السجن. وكأن هذا الوطن لا يسعهم جميعا. وهو انتقاد بطريقة لطيفة لواقعنا السياسي المتشظي. وبهذه الروح المتسامحة يدع الجميع بطريقة إيحائية غير مباشرة لضرورة التفاهم والتصالح والتسامح من أجل وطن يسع الجميع.

           ثم كذلك تتجلى عبقرية الطيب صالح في كونه دوما ما يوظف المواقف السياسية الإيجابية لصالح إعلاء القيم الوطنية من غير أن يعبر عن انحياز لحزب سياسي أو أيدولوجيا معينة ،مثال ذلك تعبيره عن سماحة السودانيين مهما اختلفت بهم سبل السياسة، ويسجل حكاية تعبر عن موقف مميز يدل على سماحة وكرم الإمام عبد الرحمن المهدي عندما استضاف وفد الحزب الشيوعي الروسي، الذي جاء في زيارة للسودان استجابة لدعوة من الحزب الشيوعي السوداني، بقيادة المرحوم عبد الخالق، وكان هدف الإمام من دعوة واستضافة الوفد أن يترك انطباعا جيدا لدى الروس عن الشعب السوداني حكومة وشعبا، وأن الشعب السوداني كريم مع ضيوفه، مهما كانت المواقف السياسية، لا تؤثر في هذه الحالة من أصالة الشعب السوداني، الذي يستطيع قادته أن يتجاوزوا الاختلاف السياسي لصالح ما هو قيمي وأخلاقي.

            ثم ما يميز السرد الروائي في هذه الرواية بالذات كونها تناولت مواقف وحقائق وقعت فعلا، وليست خيالية، ومن ثم أوقفتنا على حجم تجربة الطيب صالح الفكرية والثقافية من خلال حكاياته وأسفاره وما حكاه من قصص تنم عن معرفة معمقة بالمجتمع الأوربي والعربي. وكذلك معرفة بالتراث الثقافي العربي والإسلامي. وإدراك لكل ما يمثل قيم هذه الثقافة أو تلك. ومع ذلك تجده دوما في المكان الذي تحب أن ترى نفسك فيه؛ فهو يحلق دوما في سماء من التواضع والعفة والسماحة والألفة والحب للآخرين والتعاطف معهم، كل ذلك وأكثر نستطيع أن نستنتجه من خلال سرد الطيب صالح لحكايات ومواقف حقيقية سردها في هذه السيرة الذاتية، والغيرية في الوقت نفسه. وتظل -كقارئ - مأخوذا بجمال السرد وبالقيم الإيجابية وبهذه الروح الخيرة التي تقود حكاياتها، حتى أنك تتمنى ألا ينتهي من سرده، لتصل في خواتيم هذا العمل إلى درجة عالية من الإحساس بالمتعة التي مصدرها إثارة منابع الخير والجمال والإنسانية بطريقة مبهرة قادرة على تحويل القارئ نفسه؛ لينحاز إلى هذه القيم ويدافع عنها

              ولعل هذا يمثل حقيقة الأدب كتعبير جمالي كلما استطاع أن يحلق عاليا في سماء القيم العليا للإنسان وهي قيم: الحب، التسامح، المروءة، التواضع، التفاهم والحوار، واللطف... يكون أدبا جديرا بالخلود. فهو أدب ارتبط بعواطف إنسانية خالدة وليس بمواقف عابرة يستهلكها القارئ من قراءة واحدة ثم يتجاوزها. كما يمثل حقيقة الأدب الرفيع القادر على التأثير الإيجابي في القراء.

             إن رواية منسي رجل نادر على طريقته رواية ناضجة، بل تمثل قمة الأداء السردي للطيب صالح؛ فقد جاءت في خواتيم حياته الأدبية وتعتبر من أواخر ما أنتجه روائيا. واستطاع -من وجهة نظري- أن يقدم من خلالها رؤيته الخاصة للعالم والناس والحياة، وأن يعبر بطريقة فنية موحية عن منهجه في الحياة الداعي للسلام والتعايش والتسامح وحب الخير للجميع. كل ذلك من غير تعصب لفكر، أو مذهب، أو حزب سياسي، على حساب هذه القيم العليا، أو على حساب الوطن السودان والوطن العربي ككل. وكذلك كان بعيدا كل البعد عن المواقف الأنانية والمكاسب الشخصية فكل ذلك رفع من قيمة هذا الأديب وقيمة فنه؛ ليصبح بحق عبقري الرواية العربية.

              ألا رحم الله الطيب صالح رحمة واسعة، ونحن نعيش هذه الأيام من شهر فبرابر ذكرى رحيله المر، نسأل الله أن يتقبله قبولا حسنا ويحسن إليه ويرفعه إلى مقامات الصالحين الطيبين الأبرار.