حميد الرقيمي

حميد الرقيمي الوطن المرتعش وصلت إلى عالمٍ آخر ، الرياح تسابق نفسها على صفعي، تنهال على ملامحي حبّات الغبار القادمة من أقصى بلادي، لم يكن هنا أحد إلا اليمن وأنا، تفاصيلٌ جديدة أشاهدها في حياة المارة أمامي، أوروبا تتدفق هنا ، كنهرٍ هادئ وخفيف، الأطفال يسابقون بعضهم، النساء تملؤهن الحياة، الرجال في خفة عجيبة، كل شيء هنا مختلف، إلا أنا أجدني مقيداً بهويتي وعذابات وطني، مشيت كثيراً ، تعمدت الوقوف حيث يقف الكثير ، كنت أقترب من أحاديث العشّاق، أختلس النظر إلى أعين المسنيين وهم  في نشوة اللقاء الذي يتفرقع على أبواب المطارات، العاملون ينهكون أنفسهم بالإبتسامات التي قد تبدو زائفة تارة وتجدها صادقة تارة أخرى، وفي طيات كل هذا كنت اتسائل بحزنٍ عميق ، لمَ اليمن وحدها لم تكن هكذا؟ وكان هذا التساؤل يرهقني، يراكم أحقاداً  مثقلة بالكراهية التي لا يمكن أن ينجو منها المر دون

حميد الرقيمي

حميد الرقيمي

الوطن المرتعش


وصلت إلى عالمٍ آخر ، الرياح تسابق نفسها على صفعي، تنهال على ملامحي حبّات الغبار القادمة من أقصى بلادي، لم يكن هنا أحد إلا اليمن وأنا، تفاصيلٌ جديدة أشاهدها في حياة المارة أمامي، أوروبا تتدفق هنا ، كنهرٍ هادئ وخفيف، الأطفال يسابقون بعضهم، النساء تملؤهن الحياة، الرجال في خفة عجيبة، كل شيء هنا مختلف، إلا أنا أجدني مقيداً بهويتي وعذابات وطني، مشيت كثيراً ، تعمدت الوقوف حيث يقف الكثير ، كنت أقترب من أحاديث العشّاق، أختلس النظر إلى أعين المسنيين وهم  في نشوة اللقاء الذي يتفرقع على أبواب المطارات، العاملون ينهكون أنفسهم بالإبتسامات التي قد تبدو زائفة تارة وتجدها صادقة تارة أخرى، وفي طيات كل هذا كنت اتسائل بحزنٍ عميق ، لمَ اليمن وحدها لم تكن هكذا؟ وكان هذا التساؤل يرهقني، يراكم أحقاداً  مثقلة بالكراهية التي لا يمكن أن ينجو منها المر دون الإنتصار على من يحقد عليهم ويحملهم بالكثير من الكره والبغض، من دمروا هويته، مزقوا وطنه، أغرقوا جثته بالدماء الملتهبة، أقف أمام فاحصي الجوازات، أراقب أعينهم ، حركاتهم، ترحيبهم بالقادمين من مختلف دول العالم، وأشعر بركبتي ترتعش، أشعر باليمن تسري في ذلك الإرتعاش، أعود بعيني من جديد إلى الجواز، هل سيُرد هذا من هذه النافذة، هل سيبتسمون بوجهي كما يفعلون بلطفٍ مع هؤلاء، أردد في ذهني الكثير من الأدعية، يا الله لا تجعلني أخجل من يمنيتي، من هويتي ، من وقوفي وعلى يدي ٣٠ مليون ضحية، وبلطفه أتجاوز الحاجز منتشياً بإنتصارٍ عابر يمدني بالقوة ويجعلني أبحث عن معركة أخرى، لا أتوقف عن التأمل، كقادمٍ من أعماق الريف المنسي، أراقب الحياة هنا، أداعب المارة بنظراتي، أحاول التحدث بلغتهم ولا أقدر، فروم يمن، أنا هنا ، ويمني، إنسانٌ من هذا العالم، يعيش بأنفاسٍ متقطعة، بأحلامٍ كبيرة، ولا أجد إلا التساؤلات الغريبة في أعينهم، أخرج جوالي ، متباهي بأن نحن في اليمن نمتلك نفس الماركة، ولنا حياتنا الإلكترونية أيضاً، ولكنّا مع الأسف، لدينا الكثير من الفسدة، يحكمونا القتلة البشعون، وهذا الفارق بيننا وبينكم، ولا أجد إلا صدى هويتي تعيدني  إلى إتزاني كي أظل قوياً صلباً عتيداً، ولكنني أبقى في هذا البحث المميت، أين اليمن من هذا كله، تخترقني رصاصات الحرب ، وتجعلني أسير مترنحاً على قطرات الدماء التي ترسم عذاباتي وأحزاني، وفي لحظةٍ قلقة ومرتبكة، وقفت أمام  لوحة بديعة أشاهد من يدخلون إليها من أجل إلتقاط صوراً سريعة، يرقصون على قاعها ببهجة وسرور، أخرج جوالي مثلهم، وصرت ألتقط ملامحهم أيضاً، وهذا الأمر أسعدهم الواحد تلو الآخر، كان كل واحد منهم ينظر إلى عدسة جوالي بإبتسامة لطيفة، بحركة جديدة، شكروني وذهبوا في طريقهم ، وأنا أشيعهم بنظرات تحمل بلادي كلها، أحزانها، أوجاعها ، فقرها وعطشها، وفجأة عادت إليّ إمرأة بدينة، كانت هنا تأخذ صورها، تبتسم لأصدقائها، لأقربائها، لكنّها عادت من جديد، تسير بخفة، لم أفهم قولها في البداية، لا أعرف ما الذي دفعها للعودة، قلت ربما تذكرتني في لحظة إنسانية صادقة، ربما نست حركة أخرى، وبعد الكثير من الإشارات فهمت بأنها تريد إلتقاط صوراً لي، طلبت جوالي ، وقفت برزانتي وثقلي، إبتسمت قليلاً، رأيت لحظتها طفلاً من تعز، صفعني عجوزاً من الحديدة، إنتزعني صديق يحاول النجاة من بحار ليبيا، وعندما لحظت هي هذا الشرود الطويل، أعادتني إلى وضعي الطبيعي ، بإشارة تلقائية، فهمتها، تطلب مني القليل من الجنون، لأختلق الحركة التي أضحكتها، شكرتها بإمتنان صادق، قالت أربع صور، قلت أنا يمني ، وسعيد جداً، نحن سعداء مثلكم أيضاً مع الكثير من الصبر، والكثير من الأحلام، وسنكون ما نريد.