شهادتي للتاريخ..طه يوسف عبيد _زهرة البستان

شهادتي للتاريخ..طه يوسف عبيد _زهرة البستان صلاح سر الختم  كناصغارا مفتونين بالجمال عشاقا للشعر والقصة والرسم والتشكيل والقراءة والكتابة،مهووسون بالثورة والتغيير بفضول من فتح عينه واذنه علي الثورة في كل مكان ووكان ذلك قدر جيلنا من مواليد الستينات... خرجنا الي العالم وهو يمور بالثورة والافكار الجديدة في كل مكان.. في السودان كان وردي ومحمد الامين يغنيان لثوار اكتوبر صناع المجد وللثورة حتي القصروالملحمة والقرشي شهيدنا الاول ويا اكتوبر انحنا العشنا ثواني زمان في قيود ومظالم وويل وهوان

شهادتي للتاريخ..طه يوسف عبيد _زهرة البستان

شهادتي للتاريخ..طه يوسف عبيد _زهرة البستان

صلاح سر الختم 

كناصغارا مفتونين بالجمال عشاقا للشعر والقصة والرسم والتشكيل والقراءة والكتابة،مهووسون بالثورة والتغيير بفضول من فتح عينه واذنه علي الثورة في كل مكان ووكان ذلك قدر جيلنا من مواليد الستينات... خرجنا الي العالم وهو يمور بالثورة والافكار الجديدة في كل مكان.. في السودان كان وردي ومحمد الامين يغنيان لثوار اكتوبر صناع المجد وللثورة حتي القصروالملحمة والقرشي شهيدنا الاول ويا اكتوبر انحنا العشنا ثواني زمان في قيود ومظالم وويل وهوان
وباسمك الاخضر يا اكتوبر الارض تغني والحقول اشتعلت قمحا ووعدا وتمني
وكانت اغاني البنات تمجد ثوار كوريا" ياشباب كوريا
وثوار الصين: ياجني الماو ماو
وكانت اناشيد العاصفة والثورة ترن في الاذن من راديو فلسطين المنطلق من القاهرة حينا ومن دمشق حينا اخرا
وكانت المكتبات عامرة بالكتب عن سيرة جيفارا والثورات ضد الاستعمار واشعار المقاومة الفلسطينية 
وحتي المنهج المدرسي كان ملئيا بمفرادات الثورة والتعاطف مع الثوار.....


كان الكون كله ثائرا ولم نكن استثناء بل استجابت ارواحنا الصغيرة للثورة واحلام التغيير وتعلقت بها وكان مدخلنا الادب
فكل كتاب او قصيدة كانت مانفيستو ثورة وتغيير.... وكل شاعر افتتنا به كان يشبه جيفارا ويتشبه به....
كنا ثلة اصدقاء جمعت بينهم محبة الفنون الجميلة والادب... كنا صغارا حين ترددنا علي رابطة الجزيرة للاداب والفنون واصبحنا من اعضائها
وحضورها بانتظام.... كان طه بابتسامته الدائمة ووجهه الضاحك ورسوماته الجميلة الاكثر تميزا ونضجا
كان رساما بامتياز
وكانوا ثلاثة رسامين
طه يوسف عبيد
خالد كودي
اسماعيل عبد الحفيظ
وكانوا ضمن المجموعة
اسماعيل كان موظفا بالمحكمة وقتها وهو من ابناء المزاد شقيق لاعب الدفاع الفنان عادل عبد الحفيظ
وخالد كودي كان بمدرسة مدني الثانوية بينما كنت وطه ومجدي النعيم وعبد الماجد عبد الرحمن في مدرسة السني الثانوية
كنا نتردد بانتظام علي رابطة الجزيرة للاداب والفنون التي كانت عامرة بالنشاط... نستمع الي الشعراء( القدال/ محمد محي الدين/ محمد الفانح يوسف ابو عاقلة/ عادل عبد الرحمن/ نجاة عثمان/ عبد العظيم عبد القادر/ السر الزين/عبد الرزاق.)
ونستمع للنقاد( مجذوب عيدروس/ علي مؤمن/ محمد عوض عبوش/ ) ونستمع الي قراءت قصصيةونقدها(احمد الفضل ا حمد/ عادل عبد الرحمن/ مجدي النعيم/ عبدالله ابكر) وكنا نستمتع بفنون الرسم والتشكيل من عمالقة(بابكر صديق / الاستاذ بشير عبد الرحيم زمبة/ محمد عبد النبي/ الفاتح علما/ اسماعيل عبد الحفيظ/ علي الامين/طه يوسف عبيد/ نجاة عثمان/خالد كودي/ نادر وطارق مصطفي)
وكان بالرابطة عمالقة في مجال المسرح كذلك.
واتذكر الان التفاصيل الدقيقة الموجعة لاستشهاد طه يوسف عبيد في يوم الاحد العاشر من يناير (1982) صباخا علي الاسفلت 
كنا عائدين للتو من المشاركة في الدورة المدرسية القومية بمدينة الابيض 
حيث شارك طه ضمن مجموعة مدرسة السني المشاركة بمسرحية البشارة للكاتب محمد محي الدين واخراج الاستاذ بشير عبد الرحيم زمبة وبطولة قيس حيدر الكاشف وهو قاض الان وناجي و اخرين
وكان طه مسؤولا عن تصميم الديكور وقد فازت المسرحية بالمركز الاول والميدالية الذهبية علي مستوي الجزيرة والسودان
وكنت مشاركا ضمن فريق كرة القدم
المهم عدنا في نهاية ديسمبر1981 ووجدنا مدني تغلي بالمظاهرات ضد سياسة نميري فيما عرف بمظاهرات السكر حيث كان السبب زيادة اسعار السكر وندرته
فانخرطنا من فورنا فيها بحماس شباب مفتون بالتغيير..
في يوم الاحد 10 يناير كانت هناك مسيرة كبري بمشاركة الاطباء والمحامين والطلاب
تجمعت المظاهرة جوار السينما الوطنية بمدني 
وذهبنا جميعنا الي هناك فقد كنا اصدقاء لانفترق ابدا
ولم يفرقنا الا الموت
ولاحقا فرقت الحياة بقيتنا
كنا حضورا كلنا في ذلك الصباح وتلك المظاهرة وذلك الرحيل
كان طه سعيدا كانه يزف عريسا
ضاحكا كطفل لا كرجل ذاهب الي احضان الموت
تحرك الموكب عبر شارع المكتبة الوطنية وهو الشارع الذي يشق سوق مدني
حتي السكة حديد
عبر الموكب سور السكة حديد وتجمع في ميدان السكة حديد امام كلية المعلمات
وهو يزمع السير الي تجمعات العمال في الادارة المركزية للكهرباء والمؤسسة الفرعية للحفريات
وكنا سويا ذات الاصدقاء
كان طه في المقدمة وجواره الاستاذ الراحل المحامي صلاح دفع الله والاستاذة ناهد جبرالله
وكنت خلفه تماما
حين دوي الرصاص ونحن في قلب شارع الاسفلت
تشتت المتظاهرون
وساد صمت قصير
ارتفع هتاف الرصاص فشنك)(الرصاص لن يثنينا)
كان ذلك صوت طه
رددت الجموع خلفه وبدأوا التجمع مجددا حين دوي الرصاص ثانية
التفت طه الي الخلف وهو يصيح: الرصاص.....
لم يكملها وانفجر الدم الطاهر نافورة وتلون وجهه بالالم


تحسست الدم في ملابسي 
كان دمه علي قميصي
نظرت اليه وهو يهوي ارضا كما تهوي شجرة في النهر
كتب الشاعر المرهف محمد محي الدين قصيدة رائعة حول استشهاد طه يوسف عبيد سماها عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر ... وهي لوحات رائعة لم تسجل الاستشهاد البطولي لطه يوسف عبيد وحده بل جسدت سيرة مدينة مدني بمجانينها واساطيرها
وكانت كلمات اقوي من الرصاص(شرد اللون والريشة انتفضت .. رابطت في الشوارع)
ومحمد محي الدين كان ولازال ركنا ثقافيا كبيرا في مدني وهو صاحب صوت شعري قوي ومتفرد ولغته لغة معطونة في الشجن والثورة وهو صاحب ديوان الرحيل علي صوت فاطمة
في ذلك الزمان كنا نطارد محمد محي الدين في الليالي الشعرية لنستمع للقصيدة وفي كل مرة نشعر بأننا نسمعها لاول مرة
وكنت استعيد تلك اللحظات القاسية كلها
كنت صغيرا وكان طه صغيرا وكنا نظن الدنيا اناشيد وقصائد وزهور وابتسامات
ولم نكن نظن ان فيها من يقتل انسانا لمجرد خروجه في مظاهرة سلاحها كالشعراء: كلمة..
مجرد كلمة وهتاف؟
مازالت تلك القسوة قابعة في اعماقي
مازلت اذكر العنقريب الاحمر الذي احضره بعض الطيبين من دكان ترزي اسمه الحريري
دكانه كان غرب كلية المعلمات
احضروا منه العنقريب ذي القوائم الملونة وووضعوا فوقه جسد طه الغض
وساروا به الي مستشفي مدني وسرت معهم مذهولا ومفجوعا
حتي حين تهامس الناس وسمعت سيرة الموت اول مرة لم اصدق ذلك
وعدنا من هناك الي منزل الاسرة بحي المزاد خلف مدرسة السني مباشرة
ذلك البيت الحبيب كان مكتظا بالبشر والميادين الاربعة امامه كانت كذلك
وفي الغرفة الصغيرة كان هناك خال الشهيد عبد العزيز عبد المنعم حافظ
والاستاذ مجدي سليم المحامي والاستاذ صلاح دفع الله وقائمة طويلة 
وكان هناك افراد الشلة الحبيبة جميعهم
وهناك احضرت عربة الجثمان
من ذلك المكان خرجت مظاهرة اضخم لتشيع طه الي مثواه الاخير
عبرت المسيرة حي 114 وحين بلغت امام مدخل المؤسسة الفرعية للحفريات لعلع الرصاص مجددا
وسقط الشهيد الخانجي
وسقط العنقريب الذي يحمل جثمان طه نحو الارض بعد ان أصيب احد حملته وتفرق الاخرون وانبطحوا ارضا لتفادي الرصاص المنهمر
بقي طه وحيدا وبجواره والده الشيخ يوسف عبيد الذي جلس القرفصاء جوار الجسد المسجي وامسك باحدي القوائم وبقي هكذا غير عابئ بالرصاص.. توقف الرصاص أخيرا...جاءت عربة مجروس تابعة للجيش لتخلي جرحي الغارة ورأيت بأم عيني ضابطا بزيه الرسمي ممسكا بالجندي الذي كان قد اطلق الرصاص وهو يهزه بهيستيريا وغضب بعد ان تم تجريده من السلاح... كنت ملقي علي الارض بجانب الاسفلت...نظرت نحو طه وابيه ... كان يبدو نائما وابيه يحرسه اثناء نومه ،كان مغطي بالابيض.. وكنت واثقا انه كان يبتسم كعادته............
كان استشهاد طه يوسف عبيد حدثا لاينسي ولا يتكرر، كنا صغارا قليلي التجربة يدفعنا فضول الصغار الي ارتياد افاق جديدة ولم يكن اكثرنا تشاؤوما يظن ان الخروج في مظاهرة والهتاف بكلمات يمكن ان يكلف المرء حياته، كنا نظن لسذاجتنا ان الخروج في مظاهرة مثله مثل دخول مباراة كرة قدم او السينما او الذهاب الي ليلة شعرية ليس ذنبا ولاجريرة، لذلك كانت صدمتنا كبيرة، طه الضاحك الجميل الطيب الرسام لم يؤذ احدا فلم يقتلونه؟
لذت بصمت كبير وأنكفأت علي حزني واسئلتي وظللت اذهب كل يوم صباحا الي منزل العزاء صباحا وابقي هناك حتي المساء صامتا اذهب وصامتا اعود وقدرة غريبة علي حبس الدموع قد هبطت علي من حيث لا أدري، كانت امي مرتاعة حزينة ترقبني في مجيئ ورواحي وهي قلقة ، حتي كان يوم، عدت من بيت العزاء عند المغيب في اليوم العاشر لاستشهاد طه وتوجهت نحو الحمام وقبل ان اصله وجدتني انفجر بغتة كالقنبلة بالبكاء ... بكاء طويل ... بكاء لم ابكه من قبل ولا من بعد.. اتذكر دموع اخواتي والخوف في عيونهن ويد أمي الحانية ونظرة الراحة في عينيها وصوتها رخيما دافئا في أذني وهي تحرضني علي البكاء مؤكدة ان البكاء خير من صمتي