زي الشعاع.. يدخل رواكيبنا واوضنا
زي الشعاع.. يدخل رواكيبنا واوضنا ???? لمياء شمت لم يبق لبغاث الظلام إلا أن تنقَّر حنظلة بؤسها الثاوية بين أشواك البغض وحسك المكر الحقود، فتلك هي ثمرة الغل التي غرستها ورعتها، وداومت على ريها بقيوح قبحها وفحشها
زي الشعاع.. يدخل رواكيبنا واوضنا
???? لمياء شمت
لم يبق لبغاث الظلام إلا أن تنقَّر حنظلة بؤسها الثاوية بين أشواك البغض وحسك المكر الحقود، فتلك هي ثمرة الغل التي غرستها ورعتها، وداومت على ريها بقيوح قبحها وفحشها. فالبغاث الموبؤة قد أدركت بأنها لن تجد بعد الآن متسع تمد فيها رؤوسها وتصفق فيه أجنحتها أو تستنسر. وأنه ما من جيفة لتبقرها وتلوث الهواء بنتانة زنخها إلا جيف كائنتها الشائهة التي فرختها في عشش غبنها الدامس القاتم، فإذا هي مسوخ يائسة هزيلة تضطرب وتنتفض بين ختل وخلط وخطل.
تظن جهلا بأن مغالطاتها وطنينها المستمر يمكن أن يغيب عن الأذهان صور الميدان الرحيب الذي اتسع للجميع، وقد أسلم في تلك الليلة خواطره لتهجدات الصيام ولهسيس نسمات العيد الآتيات، قبل أن تدنسه، في غفلة الطمأنينة، أرتال الأحذية الثقيلة للعصب المدججة المتوحشة، السافكة للعهود وكل قيم وحرمات الإنسانية قبل الدماء الزكية. فإذا بالميدان الذي ابتهجوا وهاشوا بدك عماره واجتثاث وحرق كل بارقة حياة فيه، وترميد خضرته وإطفاء مشاعل بشاراته، إذا بالميدان يتمدد ويتسع، ويرمي بذور سماحته وبشاشته وعطائه وهممه وإبداعه وجدارياته عبر النواحي والبيوت والحارات والشوارع. وإذا بأصوات جموعه الحافزة للوعي، والمستنهضة للهمم، والقادحة للأفكار، والمجددة للإدراك ترعد من كل ركن وزاوية، فترتعد من وقع إرزامها نفوس وفرائص.
وعلى مد البصر نجوع ومدن وكنابي ظلت تستودع في وجدانها وذاكراتها الجمعية ما فعلته ثلة المكر الزعاف بفلذاتها، وقد اجتمعت عصبتها بليل ففكرت وقدرت في قعر "وكر الأكاذيب الفادحة"، لقلب الموازين بقوة الآلة وبأس السلاح وفجأة الغدر، وعربدات التفلت الوحشي الحقود الذي ظل يسعى ويتماكر ليمزق عن جسد الثورة كساء سلميتها السندسي المسدل السابل.. وهيهات.
وحينما أبت العروة أن تنفصم لأيادى المكر وأحابيله، لم تجد طغمة الخبال والحقد القتال غير المزيد من التوحش والغوص في وحل أكاذيب لبيكة، لم تنل من همم الشباب ووعيهم ومثابرة لجانهم الحارسة، وخطابهم الثوري الحي المتجدد الذي ظلت زمرة الغدر تلهث إثره وتحاول محاكاة بعضه علها تستزرع به في صفرة يباسها الماحق ما قد يحاكي تلك الطاقات الوهاجة، والحراك الجماعي الفاعل، والشعارات الصادحة الخارجة بفصاحتها وحصافتها من صميم اللحظة المعاشة. والبصائر اليقظة المراقبة، والخطاب الثوري الجياش بإلماماته الموجزة وكناياته، واستعاراته وأمثولاته وقدحاته الحاذقة التي تعرف كيف تغرف من خزين الذاكرة الجمعية والرصيد الثقافي والمأثور المحلي، فإذا هي لغة هينة عفوية قريبة من النفوس، وكأن الراحل الحاضر سعد الدين إبراهيم كان قد صاغ وصفها ومعناها وهو يكتب: "الأليفة الزي الشعاع تدخل رواكيبنا وأوضنا".
وإذا الجموع ناصعة الوعي تمضي مقروحة الجوف، متماسكة اليقين لتوسد فلذاتها صدر تراب الوطن، وهي تجمجم في سرها: دفناهم "وكأننا نغرس نخلا "أو "نستودع باطن الأرض سرا عزيزا سوف تتمخض عنه في المستقبل بشكل من الأشكال." بينما يتخبط جمع السوء في وهدات كوابيسه وهذياناته المتلاحقة التي يرى فيها الصغار أبناء الشمس يضعون كراساتهم وأقلامهم وألوانهم لوهلة، ويخرجوا من بين الجموع ليقارعوه ويكشفوا بؤس هيبته الكاذبة المستعارة، ويجرجرونه و"يقبقبونه" من أطراف ياقاته الباهتة ليمثل وقد تضاعف تقزمه وانكماشه في بهو محكمة يجلل فيها صوت القاضي في مواجهة كل فرد منهم: "إنك رجل غبي، إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة، لذلك فإنك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للإنسان؛ طاقة المحبة".
بينما يظل الشباب الثائر يبدع ويعطي بلا كلل وهو يراقب، من أنحاء ميدانه الراعد الواعد، عصبة السوء المشدوهة وهي تظلع وتتعثر مرات ومرات في محاولاتها للإحاطة بموار ذلك المحيط الثوري المتجدد المبدع الوهاب. وكأن صوت الطيب الحاضر يردد من عل بإشارته اللماحة : "عصارة الحياة كلها في ود حامد"، فترتد زمرة الغدر أسيفة خائبة، ذلك أن أصغر شباب تلك الساحة المهيبة قد يبدو كالزين في عرسه المائج، نحيل السمت رقيق الحال، أغر الروح، مجيد الإرادة، أخضر الطوية، عطر النفحة الإنسانية، يصيح بأعلى صوته: "أبشروا بالخير" فيفور المكان وتربو خضرته، "لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة؛ "كانت الدائرة تتسع وتضيق، والأصوات تغطس وتطفو، والطبول ترعد وتزمجر، والزين واقف في قلب الدائرة بقامته الطويلة وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب"، وكتفه إلى كتف شقه الأمين من جموع الكنداكات صبيحات الروح والحلم والمحيا، وبهاء زغاريدهن الصداحة يقدم ويبرا مواكب عديلة نضالهم الميمون؛ "كأنما بعض النساء في عذوبتهن وكرمهن وصبرهن ووقارهن ... قد انحدرن من بعض سلالات النخل"، فجلهن كحال نعمة : "هذه الفتاة ليست عاقة ولا متمردة.. ولكنها مدفوعة بإيعاز داخلي إلى الإقدام على أمر لا يستطيع أحد ردها عنه".
يفتحون معا كتفا بكتف ويد بيد أبوابا للممكن، ويهندسون أوجه الحياة، ويتنافسون على العطاء، ويشدون أزر بعضهم في دولة ميدانهم البهية السخية الرخية، ولسان حالهم: "كنا نحس بالمنعة والطمأنينة والثراء". بينما يرعد هتافهم وتحرث خطواتهم الجماعية جيئة وذهابا أرض الميدان: "لا يمشون مختالين، ولكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى مرفوعي الرؤوس، لا يخامرهم شك أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم".
لا يكفون للحظة عن العطاء والسعي لاقتراح وسبر الممكنات، وتضميد الفاغر من الجراح، ورتق فتوق النسيج الاجتماعي بمبادراتهم البارة الخيرة التي ظلت تتفجر بردا ورحمة في حر رمضاء الصيام، وتعمل وتجهد بلا كلل لتستنبت بعناد خضرة الممكن على أسفلت شرس جاف لم تمسه من قبلهم نعمة الحياة. تتراص فيه صفوف قيامهم حيث "تتجاوب أصوات المصلين مثل زمجرة الرعود في بطحاء أرض البطانة". بينما أهل المكر والغدر "كمسافرين في سفينة تصارع الموج، وبعضهم آخذ بخناق بعض". وبغاثها الساقط المتخبط يثير في النفوس الإشفاق قبل العجب وهو "يتشابى" ليقارب تصميم الشباب وحذقهم ودقة تنسيقهم، وجلال صولات ميدانهم التي أدارت رأس العالم. وصدق شعاراتهم البسيطة الكثيفة، وأهازيجهم العذبة، وانتظام خطابهم بمجازه ومزاجه الثوري الخاص، وهو يعبد مسارات الثورة ويقترح دروبها.
فالشباب الذي خرج من بين حشاشة جموع الناس، ومن رهق واقعهم الحياتي وكدحهم اليومي، يبدو في كل مرة: "أرجح في الميزان، فقد حلم أحلام الضعفاء وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها ".
ذلك بعض من جلال ذلك المتن الثوري الذي تمهر في أن يزاوج باقتدار بين نصاعة الوعي والبساطة رصينة الأفق، وهو يعتد بتلاقح خطابه التلقائي مع المحكية اليومية، وراندوك قاع المدن وأطرافها، وكأنه يذكرنا بنبل وعزيمة محجوب الفلاح البسيط في نخلة على الجدول، وهو يكرر بثقة وكبرياء عبارة: "يفتح الله" التي ظل يعليها ويستعصم بها في وجه الجشع والشرور، وحدة المساومة والعسف والغطرسة، وفحيح الأطماع والأغراض.
* الاقتباسات مقطوفة من حقول سردية الطيب صالح