رحلتي الى الصومال

رحلتي الى الصومال بقلم  :   آدم يوسف هذا العام كان استثنائيا بالنسبة إليّ، دقائق معدودة تبقت ليحل علينا العام الجديد (2020م) ، ونحن في طريقنا إلى مطار الخرطوم الدولي ، يرافقني الصديق علي عقيقي من الصومال، كان الجو باردا ، والطقس شتويا، والهواء يندفع من كل اتجاه، مما دفعنا لإغلاق نوافذ العربة، كنت قلقا بعض الشيء ، فالسفر الى دولة مثل دولة الصومال عادة ما يثير فضول الكثير من الناس. كنت كالأطفال الذين كانوا من ضمن الركاب في ترقب الطائرة الإثيوبية بشوق وافتتان، وعندما بدأت الإجراءات نهضنا دفعة واحدة ، نحو الميزان للوزن، وحزم الحقائب ،  كان الصف طويلا ، ونحن نزحف للدخول إلى داخل الصالة، وعندما اكتملت اجراءات المطار القانونية، دخلت اخيرا إلى متن الطائرة ، تذكرت مقطع من رواية( سندو) يوميات في دهاليز إفريقيا التي صدرت قبل عقدين من الزمان :"  دخل الطائرة، شيء عملاق.. عظيما أشبه بالحوت .. امطت الطائرة الجو وخرقته بخفة ، وتعلقت في فضاء الله كشهاب يطارد الشيطان، واصبحت متوازنة بعد وقت قصير من اقتلاعها ثم صارت كأنها جزء من الفضاء .

رحلتي الى الصومال

رحلتي الى الصومال


بقلم  :   آدم يوسف

هذا العام كان استثنائيا بالنسبة إليّ، دقائق معدودة تبقت ليحل علينا العام الجديد (2020م) ، ونحن في طريقنا إلى مطار الخرطوم الدولي ، يرافقني الصديق علي عقيقي من الصومال، كان الجو باردا ، والطقس شتويا، والهواء يندفع من كل اتجاه، مما دفعنا لإغلاق نوافذ العربة، كنت قلقا بعض الشيء ، فالسفر الى دولة مثل دولة الصومال عادة ما يثير فضول الكثير من الناس.

كنت كالأطفال الذين كانوا من ضمن الركاب في ترقب الطائرة الإثيوبية بشوق وافتتان، وعندما بدأت الإجراءات نهضنا دفعة واحدة ، نحو الميزان للوزن، وحزم الحقائب ،  كان الصف طويلا ، ونحن نزحف للدخول إلى داخل الصالة، وعندما اكتملت اجراءات المطار القانونية، دخلت اخيرا إلى متن الطائرة ، تذكرت مقطع من رواية( سندو) يوميات في دهاليز إفريقيا التي صدرت قبل عقدين من الزمان :"  دخل الطائرة، شيء عملاق.. عظيما أشبه بالحوت .. امطت الطائرة الجو وخرقته بخفة ، وتعلقت في فضاء الله كشهاب يطارد الشيطان، واصبحت متوازنة بعد وقت قصير من اقتلاعها ثم صارت كأنها جزء من الفضاء .

لقد انتابني شعور الغبطة والفضول لاكتشاف بقعة جديدة في الارض لم أكن قد شهدتها ، ولم تطأها قدماي من قبل، كان أمرا مذهلا وأحاسيس تتدفق كقطرات  الماء ، وهي تسرى في دمائي ، تركت الخرطوم من خلفي ، وهي تحتفل بقدوم العام الجديد، غادرتها ، وأنا أفكر فيها ، المدينة التي أحببتها ، تاركا خلفي ، زوجتي ، ورفاقي ، كانت أحاسيس خليطة بالحزن والسعادة ، شيء أشبه (بالحلو مر) الذي  نفضله في رمضان على سائر المشروبات الأخرى.

غادرتها والساعة قد بلغت الثالثة صباحا ( في منتصف الليل ). لم تكن علاقتي بالصومال جديدة ، فقد ارتبطت علاقاتي بالصوماليين منذ أن كنت يافعا ، لعبنا معا كرة القدم، وذهبنا ونحن أطفال في اصطياد الطيور بالنبال(نبالة) ، ولعبنا الفرفيرة ، والدومنا، كان ذلك في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية ، ثم ارتبطت علاقاتي بهم مرة أخرى في الحياة الأكاديمية والبحث العلمي ، وكثيرا ما فكرت في الكتابة عن شرق إفريقيا، فقد كان استاذي البروفيسور عمر أحمد سعيد يلح علينا بضرورة الكتابة حول الادب المقارن بين شرق وغرب إفريقيا، خاصة الأدب المكتوب باللغة العربية لأسباب متعلقة بكثرة الإنتاج الأدبي ، والعلمي ، والمخطوطات وجودة النصوص باللغة العربية ، وتمكنهم من اضابير اللغة العربية ونواصيها، وكان البروف قد زار شرق وغرب إفريقيا ووقف على تأمل وغربلت هذه النصوص ([1] ).

كما أن البحث في هذا المنحى ينتج توصيات ومقترحات تكون إضافة للمكتبة العلمية.

وقد كتبت تقريرا حول السرد العربي الصومالي ، للتقرير الاستراتيجي الإفريقي السنوي الرابع لعام ( 2019م ) الصادر عن مركز البحوث والدراسات الإفريقية.

وكأي كاتب مهتم بقضايا الادب الإفريقي ، كنت متتبعا كتابات الروائي الصومالي نورالدين فارح باعتباره أحد رواد الرواية الإفريقية في إفريقيا عامة، والشرق الإفريقي خاصة، كما أن تجربة الكتابة حول المدارس القرآنية في غرب ووسط وشرق إفريقيا يدور في مخيلتي ، لأنها تكاد تكون من القواسم المشتركة بين غرب ووسط وشرق إفريقيا ، فالدين الإسلامي أدى دورا مهما في التواصل ، والتأصيل الثقافي وازدهار التعليم من خلال التعليم التقليدي ( الخلاوي ، الكتاتيب ، المسيد، الدكسي ).

إن المتتبع يجد أن جميع من درسوا بالعربية تعود مرجعيتهم الى هذه المدارس أو إلى الشيوخ التقليديين حتى أولئك الذين اكملوا تعليمهم في أوربا أو أمريكا أو الصين.

فالملاحظة أن معظم المدارس التي نشأت وتأسست في إفريقيا كان الفضل فيها يعود  إلى هؤلاء الشيوخ التقليديين سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

كانت الرحلة إلى الصومال ممتعة ، وكنت أشعر بالطمأنينة والمتعة لأن الركاب في الطائرة وأثناء بقاءنا في مطار اديس ابابا كانوا يتحدثون معي بالصومالية، فالشخصية الصومالية عادة ما تدهشك فهي شخصية لطيفة ، وصادقة ، وعفيفة، فإن احبتك لا تخفي حبها مطلقا ، وهي شخصية عفوية ، على فطرتها البدوية، تقدم نفسها على سجيتها دون نفاق وادعاء، وإن كرهتك لا تخفي ذلك ، ولا تستطيع تغير ملامحها كأداة بهلوانية أو تمثيلية ، شخصية لا تحب أن تمدحها أمامها، ولك أن تشكرها فقط  إن صنعت لك معروفا ، فهم لا يحبون أن تقول لهم : ( انتم الصوماليون أجمل شعوب العالم، أو اطيب الناس والبشر ، أو انتم أفضل شعب في  إفريقيا ، وفي الوقت نفسه هي شخصية لا تحب الانتقاد ، فإذا أردت انتقادها فعليك أن تكون حذرا وأن تأتي عباراتك في داخل صياغ الجمل ..

شخصية لا تعرف النفاق ، ولا الخوف ، وهي جريئة الى أبعد مما تتوقع لذا لا أحد يستهجنها ،ولم نندهش عندما وجدنا أن الصوماليين هم من أكثر الافارقة الذين نجحوا في العالم في خارج أرضهم الصومال.

اذكر عندما وصلت مطار مقديشو ، كان المطار متهالكاً ، جراء الحروب الماضية، وبدأت الحكومات تعيد ترميمه ، تحدث معي ( رجل الكونتر) باللغة الصومالية، فقلت له تحدث بالعربية أو الإنجليزية، في الحال تغير ملامح وجهه ، وبدأ يكثر من الاسئلة الى أن قال لي ( قف في تلك الناحية، وأشار بيده إلى جانب الصف ، مجرد حديثي معه بلغة نافرة  أزعجت الرجل واظهرت غضبه. وعندما علم أنني لست من الصومال وأني قادم بدعوة من جامعة الإمام الشافعي لمنتدى التوثيق والتدوين وجدت استقبالا وأحتراما كبيرين.

خرجت من المطار عبر المتاريس الاسمنتية الضخمة إلى شوارع مقديشو ، وقد تبين لي أنني الوحيد المدعو لهذا المنتدى ، وعلمت أن بعض الاساتذة في الصومال كانوا يتابعون كتاباتي وأن اصدقائي من الصوماليين وزملائي ساهموا كثيرا في التعريف بإنتاجي الأدبي والعلمي وكتاباتي  عبر الفيس بوك أو الواتساب والتويتر مما شجع إدارة الجامعة أن تستضيفني ، كان الطقس مذهلا ، والهواء بديعا ، وكنت في سعادة غامرة خاصة عند رؤية ومشاهدة البحر .. ونحن على متن الطائرة، وأحسست بشعور الطفل الرضيع عندما يعانق أمه، وهي تلاعبه أو تلاطفه ، لقد كان شعورا لا يوصف ، عرفت منذ أول وهلة أنهم قدموا لي هذه الدعوة لأقدم شهادة حول تجربتي الكتابية، ولأكون من ضمن فريق العمل في تنظيم مؤتمر الشيخ معلم نور محمد زياد، والتفاكر لتدوين  حركة التصوف في الصومال.

قمنا في اليوم الأول بجولة شملت زيارة أقسام مؤسسة معلم نور والإدارات التابعة لها من المنشآت والمدارس وغيرها ، وبدأت افكر في هذا الجهد في ظل وضع الصومال المتأزم، كما وجدت أن الشيخ معلم نور رجل ظل مبجلاً في  نظر مريديه  وشعبه على الرغم من مرور عقد من الزمان على رحيله ، فقد انتقل إلى الرفيق الاعلى في العام ( 2009م )

وله من المريدين والمحبين الجمهور الغفير، فهو  بجانب تأسيسه للمدارس القرآنية والكتاتيب فقد كانت له جهوده في مجالات أخرى شملت المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية.

 

ولهذا فقد كانت مسألة الكتابة حول تجربة التعليم الإسلامي التقليدي في إفريقيا صعبة لأن هناك متطلبات  وزيارات ميدانية لابد من إنجازها لإثراء أدوات الدراسة.

لقد كانت فكرة المشاركة في المؤتمر بورقة علمية حول التصوف  والتعليم الإسلامي التقليدي هي الأكثر ثقلا كما أن الكتابة حول الزيارة ، والمشاهد تعتريني بقوة، وهي الأقوى تمثيلا لانطباعاتي . 

قضيت ايام ممتعة ، اشرب حليب الابل عانوقيل، واقضي وقتي مع وجبة العمبولا ، وعمبولا قلي عادة تؤكل في المسيد قبل الوجبة الرئيسية ، واودكع وهي وجبة من لحم الابل أو الضان أو البقر تقطع اوصال صغيرة ، ووجبة الــ  سرو وهي تشبه العصيدة كما استمتعت بتناول حبات القهوة على الطريقة الصومالية فالصوماليون يغلون حبات القهوة بالزيت  ويسمونها البن ، ويتناولونها كالفول السوداني .

كانت مقديشو تنمو بشكل سريع وتزدهر على الرغم من انعدام الامن بسبب التفجيرات ، انها تشبه الخرطوم وانجمينا الى حد بعيد وتتفوق عليهما في التنمية والعمران في بعض اجزائها كما أن جوها ،المنطلق من مناخ المحيط الهندي والبحر الاحمر جعلها أكثر روعة وتفردت  بأنها أكبر ساحل يطل على المحيط في افريقيا .

وفي طريقي الى فندق Elite  المطل على البحر مررنا بتمثال الأم الصومالية حواء تاكو.

وقمنا بجولة قصيرة في ساحة تمثال دغح تور وتعني رامي الحجر ، فشعب الصومال من أوائل الشعوب التي قاومت بالحجر ، وقتل هذا المحارب على يد البرتغال،  وشهدت مسجد اسبهيسي ومعناها مسجد التضامن ، وقمنا بمعانقة مجسم الخرجيين الاوائل الذين قاموا بتحرير البلاد من يد الاحتلال .

ومن بعدها قضينا ساعات نتجول في الشاطي مرورا بمقهى لنحتسي الشاي ، وزيارات رائعة لا تنسى بمرافقة الخليفة عبدالقادر للعلامة عثمان حدغ ، واخرى لرئيس الوزراء الاسبق علي قيد والشيخ علي وجيز ، ورئيس القضاة في بنادر موسى معلم الذي كثيرا ما سجل لنا زيارات وامتعنا بحديثه الثر.


   [1]   سندو ، دار المصورات للنشر والتوزيع ، الطبعة الثالثة ( 2019م) ، الخرطوم، السوان