الروائي الكبير طارق الطيب يكتب عن ذكرياته الرمضانية

الروائي الكبير طارق الطيب يكتب عن ذكرياته الرمضانية رمضان القريب في المكان البعيد - هل الإحساس بالوطن هو وقت الخطر مثلا والتهديد بحروب؟ * من الممكن - هل الإحساس بالوطن يكون في أزمنة اندلاع الثورات؟ * من الممكن

الروائي الكبير طارق الطيب يكتب عن ذكرياته الرمضانية

الروائي الكبير طارق الطيب يكتب عن ذكرياته الرمضانية


رمضان القريب في المكان البعيد

 

 

- هل الإحساس بالوطن هو وقت الخطر مثلا والتهديد بحروب؟
* من الممكن
- هل الإحساس بالوطن يكون في أزمنة اندلاع الثورات؟
* من الممكن

لكن قد يتفوق الإحساس السلمي بالارتباط بالوطن على أحاسيس القلق والخوف ويعيش أطول، ذلك الإحساس الذي يتكون في زمن طويل نسبيا ويتخلق بهدوء دون حماسة انفعالية مؤقتة، حماسة يعقبها في كثير من الأحيان حنق على كل الأوضاع بسبب تردي الأحوال، ومن أكثر هذه الأحاسيس التي تذكرني بمعنى كلمة وطن، الإحساس الوجداني الطبيعي التراكمي لشهر رمضان في القاهرة وسط الأهل والأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن وعلى مدى ربع قرن.


* * *

الوطن في ظني يتجلى عبر مجموعة من الأحاسيس تتربي في الوجدان: النظر والسمع والشم والتذوق واللمس، كلها تنصهر وتتجذر في ركن عميق في بوتقة الوجدان، يخفق لها القلب حنينا في ابتعاد الشخص عن مكان تربية مشاعره، سواء كان الابتعاد قسريا أو طوعيا، وقد تعاني الروح كلما خبت هذه الأحاسيس أو كلما اجترتها الذكريات.
والوطن عندي هو المكان الذي أضع فيه رأسي على وسادتي فأنام مرتاحا هانئا آمنا رغم همي به. الوطن هو الأمان. ومن المؤكد أن شهور رمضان التي عشتها طوال حياتي، شكلت وطنا موازيا لاستراحة الروح بعيدا عن أبعاد الشهر دينيا، فربع قرن عشت فيه شهور رمضان في القاهرة العظيمة، له من المكانة مالا يقدر أي مكان آخر على محوه. لكني لا أعاني بأي حال من الأحوال، فالحياة بدأت هناك في القاهرة ثم امتدت إلى هنا في فيينا وما زالت مستمرة.

 

 

في فيينا ترسخت الأحاسيس الأولى في الوجدان، بل أضافت لي أحاسيس جديدة بطقوس جديدة، فالعين التي سترى فوانيس أعياد الميلاد الرائعة الملونة المعلقة في الحي السابع الذي أعيش فيه، هي نفسها العين التي ستستعيد تاريخها القديم مع فوانيس الطفولة الرمضانية وستمزج العالَميْن، عالم فاتن في ذاكرة القاهرة أوائل الستينيات وعالم ماثل أمام العين في فيينا بدءا من الثمانينيات حتى اليوم، المتعة مزدوجة لمن يمزج بمحبة ولمن قارن بإيجابية، ولمن يرغب في الإضافة للوجدان من بلسم الحنين.

الأذن والعين هما سيدتا الحواس في الاغتراب وهما أيضا بوابتا الحنين والفقد، وهما أيضا نافذتي التعويض، لكن ما إن تفتح باب الجَمْع بين الحس القديم والحس الجديد بالفطرة، سترتاح روحك للتكرار البشري الرابط للإنسانية في الهمس والتمتمة وفي القهقهة والأنين حتى في العطس والتنهد، ستندغم الموسيقى في الموسيقى وستتمازج الأصوات مع الأصوات وستؤيدك الطبيعة بأصوات كونية في الخلفية لا تتغير؛ صوت الصرير والحفيف والخرير والهدير والدوى ورفرفة الأجنحة، ستعيدك الطبيعة كلما شردت اغترابا إلى أصل مكانك البعيد في طرفة عين، إلى الأرض التي تسع كل الأجسام والفضاء الذي يسع الأرواح جميعا. وحين يبحث اللسان عن مذاقه الغائب سيحضر توابله من كل مكان ويضيفها للمأكول والمشروب ليس فقط ليأكل الفم ويشرب بل ليبتسم ابتسامة الرضا القديم.
بحر الروائح، سيجعل أنفك الصغيرة تطيح بك دون أن تدري إلى أرجاء الدنيا ذهابا وإيابا وأنت تسير ببطء في حارة ضيقة في مكانك الجديد.

 

من لوحات ابو الحسن مدني

 

* * *

في العام 1984 الذي وصلت فيه إلى فيينا، ذكرت الإحصائيات أن يوم الخميس الموافق 22 من رمضان عام 1404 الموافق يوم 21 يونيو من ذاك العام، كان أطول يوم في شهر رمضان في تلك الفترة، حيث بلغ عدد ساعات الصيام من ساعة الإمساك حتى ساعة الإفطار 15 ساعة و47 دقيقة، ورغم أن جو هذه البلاد معتدل نسبيا، إلا أن فترة الصيام قد تزيد بكثير عن المعدل العادي، فبعض الدول مثل السويد تتجاوز فيها العشرين ساعة يوميا.

هنا في أوروبا عليك ألا تستغرب مجتمعك الجديد وتظن أنه هو الغريب لكونه مجتمع لا يصوم صيام المسلمين ولا يعمل بطقوسهم؛ فأنت الغريب في هذا المجتمع، ولو أنك لا تعمل في مؤسسة عربية أو إسلامية، فقد تشعر بالعزلة حين يستغربك الزملاء والجيران ومن ليس لديه خلفية عن فروض الإسلام، قد يغضب البعض أو يعادي الصائم المسترخي لحالة البطء والوهن التي تطرأ عليه وعلى طقوسه المفاجئة التي لا يقيمها علنا بهذا الشكل خلال السنة. أغبط نفسي على أنني تنبهت مبكرا أنني الغريب في بلادهم وليسوا هم الأغراب في رأسي!

من جملة الأصوات التي لم تختفِ من حياتي الجديدة صوت "أبو العمدة" المسحراتي في مصر. رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما على رحيلي من القاهرة. توفى الرجل منذ أعوام طويلة، لكن صوته باق في الوجدان لا يغيب.
 
الفوانيس الملونة التي حملتها وأنا طفل صغير وغابت من العين هنا، عوضتها فوانيس وأضواء أعياد الميلاد، وديكورات رمضان في الحارات التي كانت تربط شرفات الناس بالألوان والبهجة، عوضتها ديكورات الشوارع هنا في أعياد الميلاد وليلة رأس السنة.

ورغم أن الحكمة من الصيام واضحة وصريحة وتعني بجانب بعدها الديني في التقوى والطاعة إضافة إلى الجانب الصحي لراحة وإجازة الجهاز الهضمي وتخفيف الوزن بالتقليل من تناول الأطعمة والمشروبات؛ فإن الشهر يتحول لعيد يومي باستهلاك غزير من الأطعمة والمشروبات، ليصبح أكثر شهور العام إنفاقا. وتشير الإحصائيات إلى أن الاستهلاك في شهر رمضان يزيد بكثير عن الضعف في معظم المجتمعات الإسلامية، ويترتب عليه عادات مصاحبة وسابقة من التخزين والإسراف والبذخ بعيدا عن الحكمة الأصيلة من الصيام.


* * *

(يا سي حسن يا طايييب.. وَحِّد الله!)
كان "أبو العمدة" هو مسحراتي حيينا، أتكلم الآن عن أوائل الستينيات في القاهرة. أخي الأصغر حسن مازال في الرابعة تقريبا أو الخامسة، يتوسل إلينا كل ليلة أن نوقظه عند الفجر إن لم يكن مستيقظا من تلقاء نفسه، ليستمع إلى نداء "أبو العمدة" الذي يوقظ أهل حينا للسحور سائرا في الظلام حافظا طريقه بين ممرات البيوت حاملا طبلته ضاربا عليها بإيقاع ثنائي يتكرر بعد كل جملة. تكون الأم في ذاك الوقت في المطبخ منهمكة في تحضير السحور بسرعة وإيقاظ من تكاسل عن القيام، ونحن لو لم نكن سهرانين، نقوم مترنحين لتناول السحور.

كان"أبو العمدة" ينادي كل عائلة باسم أصغر أطفالها: (يا سي حسن يا طايييب.. وَحِّد الله!). هكذا
باسم الأب بتطويل جميل (يا طايييب) هكذا كان ينادي على أخي الصغير باسم العائلة كلها.  وكان يحفظ أسماء كل المواليد الجدد وينادي عليهم بالاسم في هذا طالقس الجميل.

حين كبر هذا الرجل الطيب لم يعد يحفظ الأسماء جيدا وصار مع الوقت يخلط فيها، فكنا نحن الأكبر سنا نتشيطن بالانتظار والإنصات لأي أخطاء "سحورية" تصدر منه، فنسقط على ظهورنا من شدة الضحك حين يقول مثلا: ( ياسي وائل يا طايييب.. وَحِّد الله!) وائل هو اسم جارنا في الدور الأول. أحيانا كان يتلجلج وينسى الاسم فيقول: (ياسي ددد.. يا سي محامااد يا فاوزييي.. وَحِّد الله!)، مع أنه ليس هناك محمد في هذا البيت ولا فوزي، لكنه يدرك بغريزته إن في أي بيت سيوجد محمد وفي أي عائلة سيكون هناك محمد ولو في اسم العائلة.

وحتى أداعب أخي الصغير مررت على الرجل في محله وأنا في طريق العودة من المدرسة، وكان له محل نجارة في شارع الزهراء، الشارع الذي اشتهرت الخيول باسمه (خيول الزهراء) التي كانت تتمخطر من "محطة الزهراء" للخيول العربية، وهي تتدرب بالركض الخفيف من نهاية شارع جسر السويس عند أحمد عصمت نحو شارعنا. ومحطة الزهراء تأسست في عام 1898 على مساحة مائة فدان وكانت تحوي حوالي العديد من السلالات النادرة. لا أدري إن كانت تلك المحطة ما زالت موجودة الآن أم لا، كنا نطلق عليها اسم "اصطبل الزهراء".

مررت على "عم أبو العمدة" في محله ورجوته أن ينادي على اسمي في وقت الإيقاظ للسحور. وعدني: (حاضر يا ابن الناس الطيبين!)، ونادى في ذاك الفجر على اسمي (يا سي طارق يا طايييب.. وحد الله!). وغضب أخي الصغير من تلك الخيانة العمدية من أبي العمدة، وهو الذي يصحو خصيصا ليسمع النداء باسمه ثم ينام مبتسما كأنه حصل على جائزة. عدت في اليوم التالي لأقول له أن ينادي اسم "حسن" مستقبلا بدلا من اسمي، والرجل كان ذا قلب جميل فنادي اسمه واسمي لبضعة أيام ثم أبقى على نداء حسن الطيب.

في عين شمس كان اسمي يتردد يوميا في المدرسة والشارع والبيت، حتى الجيران والضيوف: طارق، أم طارق، أبو طارق أو يقال: طارق أخو عزة، أو عزة أخت طارق وهكذا، فللأسماء في حياتنا سطوة جميلة، وكلنا يعتز بالاسم الذي اختاره الأب والأم له ويعرف معناه جيدا. سيضيع اسمي الأول في فيينا رسميا منذ اليوم الأول وسيصبح اسمي (هِر الطيب) أي السيد الطيب، وسيبقى اسمي الأول في الترديد والمناداة محصورا في عائلتي وأصدقائي المقربين. لذا سيظل جرس اسمي في ذاكرة النداء القديم من "أبو العمدة" محفورا في أذني أبد الدهر.

أجواء رمضان في مصر كانت أجواء ثرية ولها مذاق لا يُبارى. الأصوات المرتبطة بشهر رمضان لا تُنسى: صوت الشيخ محمد رفعت وصوت النقشبندي ونصر الدين طوبار عبد المطلب في (أهلا رمضان). فهل للجيل الجديد أصواته الرمضانية التي يحتفظ بها؟ وهل ستكون له حاسة صوتية أخرى تستند عليها ذاكرته حين يسير به الزمان في الزمان أو حين ينقله المكان إلى مكان؟ أتساءل.

بعد الإفطار كنا نحن الصغار نركض بفوانيسنا- قبل زمن التلفزيون والفوازير والمسلسلات الرمضانية- فانوس بزجاج ملون ومعدن من الألمونيوم أو النحاس وباب ندخل منه الشمعة التي تتوسطه ونشعلها فتبهرنا الألوان، ونبدأ في الغناء: (حاللو يا حاللو.. رمضان كريم يا حاللو.. ادونا العادة.. لِبّة وزيادة.. والفانوس طَقطَق والعيال ناموا والفراخ قاموا.. حاللو يا حاللو.. رمضان كريم يا حاللو!) هذه الكلمات كانت تتغير من مكان لمكان، فبدلا من لبة هناك من يقول لقمة، أو بدلا من طقطق يقولون ضاوي وهكذا. كنا ندور على البيوت ونثير ضجة عالية بأهازيجنا، فيفتح لنا الجيران الأبواب سواء مسلمين أو أقباط لنحصل على الحلويات من كنافة أو قطايف أو ملبس أو لوز وجوز وفول سوداني، وربما يقدم لنا البعض قروشا لنشتري ما نحب.

في المدرسة كنا نسأل بعضنا البعض: (صايم ولا فاطر!) ونقوم بعمل الاختبار العجيب الذي توارثناه بالضغط على لحم عقلة الأصبع الأوسط أو السبابة بين إصبعين مع ملاحظة الوقت الذي يستغرقه اللحم في العودة لشكله الطبيعي، وكلما تأخر في العودة، كان يعني أن الشخص صائم بالفعل، وهو اختبار طفولي عجيب لكننا صدقناه.

أيضا كنا ننادي بكلمات زاعقة أثناء العودة من المدرسة الابتدائية ونقول (يا فاطر رمضان يا خاسر دينك، كلبتنا السودا هاتقطع مصارينك!) كنا نقولها أكثر من قولنا النادر (يا صايم رمضان يا موحد ربك، قطتنا البيضا حتبوسك من خدك!) أما انتظار الاستماع لكلمة: (مدفع الإفطار اضرب!) فكان لها وقع السحر بانتهاء الصيام وفوزنا بالثواب وبأطايب الطعام.

* * *
سيأتي شهر رمضان قريبا وأنا هنا في فيينا، وسوف يعيد للذاكرة أياما جميلة ستفرحني، وسيكون الحنين كالعادة مرتديا حلته البهية، وسأتذكر طفولتي وصباي من هنا، وسأنام على وسادة محشوة بأمان يجعلني أشعر بأن الوطن أيضا هنا وقد امتد عابرا الحدود بلا حدود.