تخطيطات تحاور الغربة والجمال

تخطيطات تحاور الغربة والجمال قراءة في لوحات الرسامة آمنة علي علي حسين عبيد ما الذي يأسرك في لوحة دون أخرى أو رحلة تشكيلية دون غيرها، وأنت تستطلع بمحاكاة صادقة ومدرَّبة، عشرات اللوحات المنتشرة على صفحات الجدران

تخطيطات تحاور الغربة والجمال

تخطيطات تحاور الغربة والجمال
قراءة في لوحات الرسامة آمنة علي
علي حسين عبيد

 

 

ما الذي يأسرك في لوحة دون أخرى أو رحلة تشكيلية دون غيرها، وأنت تستطلع بمحاكاة صادقة ومدرَّبة، عشرات اللوحات المنتشرة على صفحات الجدران، في قاعة واسعة تفتح ذراعيها برأفة الأم الرؤوم لترعى أكثر من تجربة تشكيلية في وقت واحد؟
هذا التساؤل ربما يطرحه قارئ اللوحة على نفسه وهو يجوب المعارض التشكيلية المشتركة التي تهدف في أول ما تهدف إليه إلى التنافس الفني الجاد، إنها عوالم تشي بخصوصية حميمة تستدرج ذات المتلقي إلى عالم ليس عالمها ولكنه ليس غريبا عنها في آن، تلك هي المسارات الإيحائية المنبثقة من تخطيطات الرسامة آمنة علي التي تنطوي على أجواء ملونة بالصمت (المتحرك) تحيل المتلقي إلى واقع مستوحى ومنفصل عن الواقع الآني، فيندمج في مملكة جمال ساحرة وطبيعة مضمَّخة بغربة ساحقة، وبهدوء يتذبذب بين حالتي الصمت المطلق والصراخ اليائس.

 


إنها ثلاثية غريبة أو غير متجانسة كما تبدو للمتطلع الرائي، حيث نرصدها بل نتماهى معها أحيانا داخل مساحة هذه التخطيطات التي تنمُّ عن خليط من (الهجوع المحتدم) إذا جاز القول، عبر دوامة من القلق الهادئ المستديم أو الركون إلى السكون المتحرك أو انحسار المتلقي الطارئ بجمال قاتم، ومرد هذه القتامة تلك الغلالة الغريبة التي تغلّف الجمال الآسر المنبثق من موجودات الطبيعة السامقة، أو من سحر الجمال الأنثوي أو من ذلك التناغم العجيب بين الجمالين الطبيعي/ البشري المتّحد في فضاءات خصبة/جافة، واسعة/ منكمشة في آن حيث يلوح فيها الصمت قاسيا، والجمال متغربا، والانفتاح اللاّمحدود مطوَّقا بأسوار الوحدة القاتمة، إذاً هي ثلاثية الجمال /الغربة/ الحرية الضائعة، تلك هي الإشعاعات التأملية المتتالية التي تبثها تخطيطات الرسامة آمنة علي، ولكن بعد أن تنصهر هذه الثلاثية المحتدمة (المتضادة/ المتوافقة) في بوتقة واحدة تنمّ بكثير من الوضوح عن يأس جميل يطبعه التطلع الواثق صوب آفاق لا تحدها حدود الصمت، على الرغم من تسيّد اليأس كونه المهيمن الشعوري الأكثر سطوة من بين التلميحات الإيحائية المتنوّعة التي تعكسها تخطيطات آمنة علي.
وعلى الرغم من تكرار التجربة المضمونية في أكثر من لوحة تخطيطية، إلاّ أننا سنجد بعد التقصي المتأني عنصرا متخفّيا في ثنايا هذه اللوحة أو تلك سيقوم بمهمة فرزها عن الأخريات، وتلك مهمة لا تكاد أن تكون وليدة القصديّة الفنية لآمنة علي بقدر ما هي متأتية من هواجسها الخفية التي تدفعها نحو الابتعاد عن التشاكل أو التماثل الكلي الفني او الموضوعي في معظم تخطيطاتها.

 


 ولكننا عبر قراءة متقصية لأعمال الفنانة سنكتشف بلا ادني ريب بأن العوالم الشمولية التي تطبع تخطيطاتها ستكون متقاربة من حيث المنحيين الفني والمضموني، غير أن ما يُسجَّل لصالح هذه التخطيطات هي سمة الصدق الشديد التي وسمتها، ولو أجرينا مسحا فنيا لهذه التخطيطات سوف نكتشف أنها قد تتقاطع في مضامينها أحيانا كما في لوحتي (المرأة الوحيدة/  وأمومة صادقة)، فاللوحة الأولى تتحدث عن معاناة امرأة ليس لها نسيب بشري أو كوني في هذا العالم المستلِب وأن جمالها الذي يضاهي جمال الطبيعة هو حبيس العزلة التي فرضتها الوقائع الإنسانية المتعجرفة، حتى الإيحاء المتأتي من غربة الأشياء المحيطة بها لم يشكل عاملا مساعدا للتخفيف من وطأة مآسي عزلتها، في حين أن الأمومة الصادقة لا تعرج من بعيد أو قريب على هموم المرأة الشرقية أو العراقية بالتحديد ولا تشير إليها كونها –  أي اللوحة-  تعالج مشهدا إنسانيا تتوحد فيه نساء الأرض بلا استثناء، أما المعمار الفني لهاتين اللوحتين فإنه غير قابل للتماثل الكلي ولم نعثر على قاسم فني مشترك بينهما سوى نوعية ورق الرسم والحبر الذي خطط اللوحتين المذكورتين.

 


وهكذا نستطيع القول إن هذه المحاولات التخطيطية نُقشت بأنامل يد تعرف هدفها بالتحديد، تؤازرها في ذلك موهبة مصقولة ومدعمة بمشاعر وأحاسيس أنثوية صادقة، وريشةٌ فنانةٌ لا نقول أنها أتقنت وسائلها تماما وخبرت مسالكها، لأننا سنتفق حتما على أن اكتمال التجربة قد يفضي في نهاية المطاف إلى انطفائها، فالنهايات غالبا ما تقودنا صوب الطرق المسدودة أو المنتهية، كما أن تخطيطات الرسامة آمنة علي تتعاضد في جهدها وفي إصرارها الدؤوب على التواصل لتشغل ولو حيزاً صغيراً في المشهد التشكيلي العراقي الذي يقول عنه أحد النقاد التشكيليين بأنه تجاوز العربية إلى العالمية.