جمر الجسد ...... صندل الشعر
جمر الجسد ...... صندل الشعر محمد عبد الرحمن شيبون لعبد الله علي إبراهيم بقلم محمد خير حسن سيد احمد ( رفاعة ) أخي البروف عبد الله علي إبراهيم ؛ هل تسمح لي أن أستعير عنوان مؤلفك أعلاه عنواناً لمقالي هذا ! جاء عبد الله علي إبراهيم إلى السودان من الولايات المتحدة لفترة إجازة في مطلع القرن الحادي والعشرين . ألقى حجراً ضخماً في بركة ماء سودانية ، ( حمراء اللون) ضحلة نوعاً ما ، أحدث ذلك الحجر ضجة خفيفة ، أراد لها (البعض) أن تتضخم ،وأن يتناولها الساسة ، الأدباء ، الكتاب ، المؤرخون ، تلك الحادثة ( حادثة انتحار الرفيق محمد عبد الرحمن شيبون 1961م .
جمر الجسد ...... صندل الشعر
محمد عبد الرحمن شيبون
لعبد الله علي إبراهيم
بقلم محمد خير حسن سيد احمد ( رفاعة )
أخي البروف عبد الله علي إبراهيم ؛ هل تسمح لي أن أستعير عنوان مؤلفك أعلاه عنواناً لمقالي هذا !
جاء عبد الله علي إبراهيم إلى السودان من الولايات المتحدة لفترة إجازة في مطلع القرن الحادي والعشرين .
ألقى حجراً ضخماً في بركة ماء سودانية ، ( حمراء اللون) ضحلة نوعاً ما ، أحدث ذلك الحجر ضجة خفيفة ، أراد لها (البعض) أن تتضخم ،وأن يتناولها الساسة ، الأدباء ، الكتاب ، المؤرخون ، تلك الحادثة ( حادثة انتحار الرفيق محمد عبد الرحمن شيبون 1961م .
قبل أن أتعرض على كتاب عبد الله علي إبراهيم ، والذي بالعنوان أعلاه ، أرى لزاماً عليّ أن أتعرض لحادث انتحار شيبون ، لا للمرة الثانية ، وإنما للمرة الألف ، إن دعت الظروف .
الرجل . محمد عبد الرحمن شيبون ، كان قامة سامقة سودانية صميمة ، اعتنق الماركسية ( عندما كانت الشيوعية كالبنقو) في مدرسة حنتوب مع رفاقه ، صلاح احمد إبراهيم ، جعفر حمد عثمان ، الذي مات بلدغة ثعبان ليلاً مظلماً وهم وسط الحشائش ، العشر والطندب ، خارج الداخليات ، بكته مدينة رفاعة مر البكاء ،
دخل جامعة الخرطوم ، فصل منها لنشاطه .
دخل بعد ذلك باطن الأرض ، مع رفيقه محمد إبراهيم نقد ، ممتثلاً الحديث النبوي الشريف " إن باطن الأرض خير من ظاهرها " صدق الرسول العظيم .
كان يخرج أحياناً من شقوق الأرض العميقة ، يشم هواء ، يعمل معلماً في المدارس الأهلية ، ( الخاصة ) خاصة في مدينة ود مدني ، ويزاول عمله الموكل إليه على أحسن ما يتوقع الرفيق عبد الخالق .
قادته رجلاه أن يعمل معلماً في مدرسة بنات وسطى في مدينة رفاعة ، خاصة ، أنشأها الأستاذ مجتبى عبد الوهاب الفكي أحمد 1960م .
قبل أن يأتي إلى مدينة رفاعة ، كان يكتب في جريدة ( الرأي العام ) كان يحرر الأخبار العالمية ، يترجمها من أمهات الصحف العالمية ، ويعلق عليها ، كما كان يكتب الأستاذ حسن نجيلة ( معه في نفس الصفحة ) عموده المشهور ( من يوم إلى يوم) .
أعجب السيد طلعت فريد وزير الثقافة والإعلام آنذاك بنشاط وكفاءة محمد عبد الرحمن ، أخذ يغازله – أرسل إليه ( عرضاً ) دسماً .
يأتي شيبون لوزارة الثقافة والإعلام ، ليتم تعينه صحفياً بمرتب عالي ، منزل ، عربة ، وحوافز ( والذي منه ) ... مكتب أنيق وأثاث وثير .
العمل الذي يقوم به ( إن وافق) قراءة الجرائد والمجلات ، الإصدارات الأجنبية ، يقوم بعد ذلك بترجمتها ، ورفعها للسيد محمد عامر بشير فوراوي وكيل وزارة الثقافة آنذاك .
في رفاعة كان يقول لي شيبون ، إنه شعر بأنه إنسان ، بعد ان أجر له منزلاً ، أحضر أمه من أبو زبد ، بلده ومعها أخته الصغيرة ، لتقرأ في رفاعة ويكون لها شرف تلقي العلم في مدينة العلم والنور ، رفاعة، أصبح هادئاً ، نظيفاً كعادته ، وديعاً ، يقرأ كثيراً ، يعمل ويخلص في عمله ، محبوباً بين زملائه ، ومواطني مدينة رفاعة ، تلقاه في أوقات فراغه إما يكتب أو يقرأ .
ما سال لعاب شيبون لعرض طلعت فريد ، لأنه ما رد عليه بنعم أو لا حتى الآن .
كنت معه مرة في المكتب ، خرجت ، ودعته وبينما أنا خارج من المكتب ، قام من كرسيه وتبعني وقال لي :
أنا عايز أقدمك للباب الخارجي ، لكن عايز أقول ليك كلام هام وخاص وسر ، وسرد لي عرض طلعت فريد ، طلب مني رأيي .
تسمرت في مكاني ، وقلت له بحزم :
والله انا ما عندي رأي في هذا الموضوع ، ده موضوع خاص وهام ، وبخصك إنت ، أنت الذي يقرر – توافق أو ترفض ، وانصرفت ، قال لي : معليش ، لكن ما بخليك .
غبت عنه طويلاً ، لكثرة المشغوليات ، العمل ، الامتحانات ، التصحيح ، النتائج ، ثم الإجازة ... ألخ .
اندهشت كثيراً لاستشارة شيبون لشخصي الضعيف في أمر عرض طلعت فريد . لأني لم أكن أنا شيوعياً في كمونة يرعاها شيبون ، أو غيره من الرفاق ، ولم تكن علاقتي به علاقة ذات جذور ضاربة في الماضي المنصرم ، الرجل يكبرني بأكثر من خمسة عشر سنة ، وعندما كان هو في الجامعة 1952م كنت أنا في سنة ثانية وسطى ، بمدرسة رفاعة الأهلية الوسطى ، الحبل الوحيد الذي كان يربطني به هو أنه كان دائماً يفضل أن يجلس بقربي في (القعدات )، التي كان يعقدها سكان الميز ، من زملائنا المعلمين ، كل يوم خميس ، ينحرون الخروف ، ويأتون بأنواع الخمر ، ويحيون ليلة ( شراب وعناء وتسامر ) .
كنت أشاركهم تلك الجلسة في تلك الليلة ، وكنت لا أحتسي الخمر قط كل تلك السنين والحمد لله حتى اليوم له الشكر والحمد .
كنا نتجاذب الحديث ، أنا وشيبون ، يتحدث في الأدب – فقط- لا سياسة ولا يحزنون ، نتعرض لشاعرية ( دستوفسكي ، ماكسم غوركي ، وأمه كافكا إبس ، جون أوزبون ، أحمد الطيب أحمد ، سارتر ، البيركامو ، ...) كان لا يحب الأدب الوجودي ، بل يسخر منه .
حاولت مرة أن أسبر غور الصداقة والعلاقة الأدبية والفكرية بينه وبين الشاعر صلاح أحمد إبراهيم ، نظر إليّ طويلاً في وجهي ، ابتسم ، تناول كأسه أفرغه في جوفه ، سمعت أنّة خفيفة ، ألقى ظهره على الكرسي الوثير ، أسند رأسه ، ثم نظر في الفضاء العريض الذي كان موشى بسواد ذلك الليل البهيم ، صمت لساعة أو أكثر من الزمن ، بالرغم من ذلك كنت أطمح في الرد عليّ ، لكن لخيبة أملي ، نهض ، لم يستأذن ، دخل غرفته ، أغلقها خلفه ، ما خرج علينا حتى انفض سامرنا هلّ علينا عيد أضحية عام 1961م . جاء ثلاثة رفاق من العاصمة لمدينة رفاعة ، بدعوى أنهم جاءوا ليهنوا المدير التنفيذي للمدينة ، لأن أحدهم ( خاله) وكان الخال هو عبد الرحمن عبد الرحيم ( الوسيلة ) في مساء يوم – طرقوا باب منزل شيبون لخيبة أملهم لم يكن بالدار ، ( ؟؟؟؟) كانت أمه بالمنزل ، فتحت لهم الدار ، رحبت بهم – استقبلتهم ، طلبت منهم الدخول والمكوث حتى عودة ( أخوهم ) .
- اتفضلوا .. ضوقوا شيتنا – عليكم الله .
- معليش ، نحنا بنمشي ولما شيبون إجي حدثيهو – جينا ليهو عشان نعيد عليهو ... لو ما سافرنا باكر ، بنجي ليهو تاني ، مع السلامة .
بعد قليل من الزمن ، عاد شيبون ، أخبرته أمه ... أرغى وزبد .. كبس ولعن .. واستهجن تلك الزيارة واعتبرها (ملاحقة) من الحزب للجلوس معه ومناقشته في عرض طلعت فريد ، واثناءه عن العرض .
نام ذلك الليل وهو يتقلب كالملسوع ، وفي الصباح حرر مقالاً صغيراً بعنوان ( ملاحقات يعوزها المبرر) أرسله لزميله حسن نجيلة .
ما رضي شيبون ذلك السلوك الذي سلكه الحزب ، فأرسل له هذا الوفد للتفاوض معه على رفض العرض .... وهل مثله هو يحتاج إلى من يفاوضه على مصلحة الحزب ؟ هل خاف الرفاق من قبول شيبون للعرض والذي سيكون بعده كشف شيبون أوراق الحزب الشيوعي لحكومة 17 نوفمبر ، وأي عار وخراب يجره شيبون على الحزب إن هو وافق .
يمكن للحزب أن يرسل ذلك الوفد في حالة قبول شيبون للعرض ، ولكن شيبون ما ردّ على طلعت فريد لا بالقبول ولا بالرفض فلم العجلة والاستعجال في إرسال ذلك الوفد وبرئاسة (الوسيلة ) هل شيبون لا يعلم حقيقة نفسه ؟ وهل هو بهذا الكم الهائل من الضعف الذي يسرع بالرد بالقبول ؟ .
حسب شيبون إرسال هذا الوفد (العالي ) لمفاوضة شيبون والذي اعتبره الحزب ضعيفاً ، هيناً ، تستهويه عروض طغمة 17 نوفمبر ، لأنها تريد أن تخترق هذا الستار الحديدي الذي أقضّ مضجعها , لكن ما كان شيبون هو من سهل القيادة ، إنه عصي عنيد .
كان يقرأ كل الصحف السودانية ، كانت جريدته المفضلة ( الرأي العام ) ترقب ذلك المقال ، ( ملاحقات يعوزها المبرر) الذي أرسله لزميله حسن نجيلة ، لم يظهر ذلك المقال ، مرّ عليه أسبوع ، أسبوعان ، أرسل مقالاً آخر وبنفس العنوان – لم ينشر كذلك – ثم أرسل المقال الثالث وبنفس العنوان ، ولنفس الجريدة ، ولنفس الناشر ، ولم يظهر .
بدأ الشك يدب ، ركبه عفريت الشك ، حسب ان الحزب جند معلماً يعمل معه في مدرسة الأمل ، وعلى هذا المعلم سنسرة الخطابات التي ينشرها شيبون .
أخذ يسهر الليالي الطوال يفكر في الأمر ، بدأ يشك في من حوله ، بدأ يتأخر في الحضور للمدرسة ، بدأت عليه مسحة من الكآبة ، الإرهاق ، التعب ، أخذ يعبر النيل عصراً ، ويعاقر الخمر في بار ( كوستي ) بالحصاحيصا .
رأى زملاؤه المعلمون برفاعة أن يسافر هو ووالدته وأخته إلى أبي زبد ، مسقط رأسه ، يمكث بها فترة يريح فيها أعصابه ، ويجدد نشاطه بين أهله ، وأصحابه ، وبعد أن يبرأ من هذه الصدمة ، يرجع لرفاعة لمزاولة عمله الذي يعشقه .
وافق أن يسافر مع أمه وأخته إلى وطنه ، حجز لهم على قطار الأبيض يوم الخميس ، لكن القطار تأخر بالخرطوم تحرك صباح الجمعة ، وعندما جاء القطار إلى محطة الحصاحيصا ، ذهبت أمه لتحضره من منزل بمدرسة الحصاحيصا الوسطى ، ولكنها عثرت عليه معلقاً نفسه في حمام المنزل .
هرع ضابط المباحث – أنزل الجثمان من الحبل الذي شنق به ، أخذه لمستشفى أبو عشر ليشرحه ، عندما دخل ضابط المباحث المنزل ، وجد طاولة صغيرة في برندة المنزل ، كانت عليها ورقة مطبقة بعناية ، تناولها الضابط ، كتب شيبون تلك الورقة وكانت عليها رأيه ، ووصيته ، وأين يدفن ، وطلب منهم أن يدفن في ود مدني ، لماذا ؟ ؟ دسّ ذلك الضابط تلك الورقة في جيب بنطاله ، وأسرع بالجثمان إلى أبي عشر ، ثم إلى مدني حيث تم دفن ذلك الرجل ... وركبت أمه القطار وغادرت إلى أهلها .
رجع ضابط المباحث منتشياً ، وتلفظ بأنه توجد في رفاعة ( خلية شيوعية ) خطيرة ، لكنه هو قمين بها ، سيضع يده عليها ، وسوف يترقى بها .
جئت إلى المنزل الذي انتحر فيه شيبون ، بسرعة بعد ان غادره ضابط المباحث ، دخلت البرندة ، ووجدت قارورتين ( بيره) فارغتين تحت السرير ، وعدداً كبير من أعقاب السجائر ، دخلت الغرفة الغربية ، وجدت سريرين مفروشين ، بينهما بساط خفيف ، على السرير الشمالي ، مخدة –وكتاب من سلسلة اقرأ ، كان اسم الكتاب ( المجتمع العربي ) ما لفت نظري مؤلفه ... كان مقلوباً على صفحتي ( 45-46) رفعته ثم وضعته على موضعه الذي كان عليه ، يبدو أنه كان يقرأ في ذلك الكتاب قبل ان يقرر ذلك القرار .
كتب الدكتور عبد الله علي إبراهيم كتابه هذا بعد مرور ( 54) أربعة وخمسين عاماً على وفاة الأديب الشاعر السياسي محمد عبد الرحمن شيبون ، ( جمر الجسد ... صندل الشعر) لماذا كتبت هذا الكتاب بعد هذه المدة الطويلة ؟؟ .
شمل هذا الكتاب أكثر من مئتين صفحة ، حاول الدكتور (جاهداً ) أجهد نفسه وأجهد القارئ أن يصدقه أن الحزب الشيوعي لم يدفع شيبون نحو الانتحار . سوّد الدكتور تلك الصفحات ... ليقول للشاعر صلاح أحمد إبراهيم – صديق شيبون ورفيق دربه – أن القول الذي قلته يا صلاح عن دفع الحزب الشيوعي لشيبون نحو حبل الانتحار ( فرية) وتهمة أريد بها باطل ، وإنما تهمة صدرت وقد كانت لها دوافع . ..
لم يوفق الدكتور في دحض تلك التهمة ، في كل تلك الصفحات ، كنت أتوقع الدكتور أن يؤلف (مسرحية ) عن انتحار شيبون ، مع علمي عنه أديب وخريج آداب ، وسياسي ضليع ، وماركسي حتى النخاع ، يناضل من أجل البؤساء ، الفقراء ، المسحوقين ، والذين اغتصبت حقوقهم .
للدكتور باع طويل في كتابة المسرحيات ، وتصميم السيناريو ، كان يمكنه وببراعة وإبداع تأليف مسرحية عن انتحار شاعرنا شيبون ، وكان ممكن أن يطلق عليها اسم مسرحية ( جمر الجسد ) أو ( صندل الشعر) وكل واحد منهما عنوان جذاب ، رنان ، أكثر موسيقى وروعة من عنوان مسرحية ( السكة حديد قربت المسافات ) .
لا أعتقد أن الدكتور سيفلح في إقناع القارئ السوداني بأن ما قاله صلاح أحمد إبراهيم باطل .
لن يصدقه القارئ السوداني – اللهم إلا إذا اشترى القارئ السوداني ، وتتم عملية الشراء بأن يجعل ثمن كتابه هذا رخيصاً ، ( يعني بسعر عشرة جنيهات ) وليس أربعين جنيهاً ، أو أن يجعله(مجاناً ) .. فسيقدمون عليه ويشترونه ويقرأونه ، ويكون بذلك قد خدم قضيته وأدى رسالته السامية .
( رحم الله شيبون حنجرة شعبي الذهبية ) صلاح أحمد إبراهيم .
نعى الشاعر صلاح احمد إبراهيم صديقه ورفيقه شيبون بقصيدة بعنوان(أنانسي) في ديوان ( غضبة الهبباي )وديوانه الثالث بعنوان ( نحن والردى) الذي وضع مقدمته البروفسور عبد الله الطيب ، طيب الله ثراهم جميعاً .