فاطمة السنوسي تكتب: إعتذار للخنساء في زمن الرحيل المر

فاطمة السنوسي تكتب:  إعتذار للخنساء في زمن الرحيل المر

فاطمة السنوسي تكتب:

إعتذار للخنساء في زمن الرحيل المر

 

  في الصبا الباكر ونحن نتلمس الطريق في دروب الشعر والأدب ونتعلم التذوق، كنا نقرأ شعر الخنساء الذي يستهوينا ونطرب حين تقول :

يا عين جودي بدمع منك مسكوب....

  كلؤلؤ جال في الاسماط مثقوب  

إني تذكرته والليل معتكر ...

ففي فؤادي صدع غير مشعوب

 

ولعنا بالشعر جعلنا نطرب  لجزالة كلماتها، وتفرح دواخلنا للاستمتاع بموسيقى الشعر الرصين والمعاني العميقة.

كانت الأعمار غضة، والقلوب غضة، والعقول غضة تتعطش للشعر والمعرفة. لم نكن نعرف طعم الموت. نطرب لشعر الخنساء ولم نكن ندري انها كانت تبكي في حزن، وكنا نلعق دموعها في تلذذ. كانت تنتحب، وكنا نرقص على أنغام نشيجها.  لم أعرف حزن الخنساء إلا بعد أن فقدت شقيقي الحبيب عمر سنوسي الذي يكبرني، وصرت أقول قولها:

كأن عيني لذكراه إذا خطرت...

فيض يسيل على الخدين مدرار

 

بعد فترة وجيزة فقدت أخي الحبيب الذي يصغرني كمال سنوسي. لم يحتمل فراق أخيه فتوقف قلبه فجأة.. فبكيت كما لم تبك الخنساء أخويها، وصرت أقول قولها:

أعيني فيضي ولا تبخلي.....

فإنك للدمع لم تبذلي

وجودي بدمعك واستعبري ....

كسح الخليج على الجدول

 

كنت أعتذر لها في دواخلي عن طربي لأشعارها. بكت الخنساء إخوتها شعرا وحروفا، أما أنا فقد شل الحزن قلمي فبكيت إخوتي دمعا من قلب نازف.

توالت أحزاني بفقد أخي الحبيب إبن خالي الصحفي عثمان عابدين في اليوم نفسه الذي فقدت فيه صباحا الأخ العزيز زميل الدراسة عز الدين عبد العاطي، الشقيق الأصغر لصديقتي منذ الطفولة آسيا عبد العاطي. اختلط الدمع بالدمع والحزن بالحزن . مد الأصدقاء الأحباب أياديهم إلي ينتشلوني من بئر الأحزان العميق الذي كدت أغرق فيه بالكامل. من بين الأيادي كانت يد أخي الوفي مبارك بشير الذي يعرف حزني، ويعرف إخوتي ويشفق عليّ لأنه يعرف مدى حبي لهم، وارتباطي بهم. وفي صباح الخميس كان بريدي يعج برسائل الأهل والأصدقاء والأدباء عن فقده الفاجع. وبكيت أخا آخر يا خنساء ، فكيف التعزي والتأسي!

فلولا كثرة الباكين حولي...

على إخوانهم لقتلت نفسي

حين تناولت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا إحدى قصائده المغناة وكثر حولها الحديث، كتب لي معتذرا عن تداول اسمي في وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الصورة. قلت له إنهم لا يعرفون أن القصيدة ماهي إلا تجسيد لألق وجمال وإبداع السبعينات، وما ذكرت القصيدة إلا وعادت بالأذهان إلى مدرجات الجامعة، وإلى قهوة النشاط، وشارع الآداب، والمين رود، وجمعية الثقافة الوطنية، والمسرح الجامعي، وزخم النشاط السياسي، والأصدقاء المحبين للحياة والوطن والخير والجمال. لكن رأيي الثابت هو أن تحديد مصدر الإلهام يحرم المتلقي من أن يجد ذاته في النص. وافقني الرأي. وقد وثقت لرأيي هذا الإعلامية القديرة عفاف أحمد في بحثها عن صاحب القصيدة فكتبت عقب الاتصال بي "بعد التقصي توصلت إلى شاعرها وتواصلت مع الأستاذة فاطمة السنوسي باعتبارها إبنة جامعة الخرطوم، فأكدت لي أن الدكتور مبارك بشير هو صاحب القصيدة. لكنها رفضت الحديث عن  جزئية الإلهام وذكرت أن الشاعر أو الأديب لا يُسأل عن مصدر إلهامه، ولا يحاسب عليه".

كان يسمي هذه الضجة الاسفيرية الموجة الثانية للقصيدة. ربما كان يكمن فيها الخير من حيث لا ندري، إذ قيض الله له بذلك أن يرى "يوم شكره" قبل رحيله، وأن يحس إحتفاء الناس بشاعريته، ويلمس حبهم له. الموجة الثانية أعادته بقوة إلى كتابة الشعر ، كما أعادته اجتماعيا إلى كل أصدقاء الجامعة وأحبابه من ذلك الزمان الزاهر. 

كان وفيا، لطيفا، عفيفا، شفيفا.  خلوقا، رقيقا، نقي الفؤاد. قلبه عامر بالمحبة لكل الناس، محبوب من كل الناس. ينفطر قلبه عند رحيل أحد أصدقائه،  واليوم كم من قلوب انفطرت برحيله الموجع. أعرف كيف حال أحبابه جيل السبعينات في الجامعة شركاء الهموم والاهتمامات .. أعرف حزن أحبابه في دروب الأدب والمعرفة والثقافة والعطاء والوطنية والخير.. أعزيهم فردا فردا وأعرف مرارة الحزن وعظم الفقد .

بكيتك مع خنساوات بيتك شقيقاتك بتول، وعدوية، وعائشة. وبكيتك مع أم البنين إنصاف. لم يجد الصبر إليهن سبيلا بعد.

قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا....

عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا

 

نسأل الله لك الرحمة والمغفرة وجنة عرضها السموات والأرض. وأحسن الله عزاء أهلك وأحبابك، وأهل الأدب والإبداع. أحسن الله عزاء الشعب السوداني الذي أحببته وبادلك الحب. نسأل الله أن يجعل البركة في أبنائك بشير وأحمد وعزة، وأن يربط على قلوب اخواتك وأهلك بالصبر.. 

إنا لله وإنا إليه راجعون.

فاطمة السنوسي.